تعرض لبنان مطلع هذا الاسبوع لاختبار سياسي شاق كادت مضاعفاته الانتخابية تحدث شرخاً كبيراً بين المعارضة المسيحية وأهل الحكم. ومع ان حدود المعركة الانتخابية لم تتعد حدود المتن الشمالي، إلا ان المرشحين الثلاثة وأنصارهم استخدموا في سبيل ربحها كل الأسلحة السياسية المتاحة، وكل الوسائل الاعلامية المتوافرة. وهكذا بدت المنافسة لخلافة النائب الراحل الدكتور البير مخيبر، أشبه بحرب إلغاء يخوضها ميشال المرّ بواسطة كريمته ميرنا ضد شقيقه غبريال، في حين ظهر دور غسان مخيبر، ابن شقيق النائب الراحل، كعامل تعطيل لماكينة المعارضة بسبب ضعف القوى التي ساندته مثل الكتلة الوطنية وجماعة الانتلجنسيا. علماً بأنه يتمتع بأحقية عائلية تقليدية تعطيه الأولوية وتميزه عن سائر المرشحين. ولكن أمين الجميل ونسيب لحود كانا يتطلعان الى أهداف المعركة من زاوية مختلفة بعيدة كل البعد عن فكرة ملء فراغ المقعد الارثوذكسي الشاغر. فالأول يطمح الى رد الاعتبار للجناح العائلي داخل حزب الكتائب بعدما خطف منه كريم بقرادوني القيادة وحملّها نهجاً رسمياً موجهاً أبعدها عن القاعدة الشعبية التي أظهرت انتخابات المتن تعلقها بنهج المؤسس. والثاني يطمح الى محاصرة ميشال المر عن طريق خلق قوة منافسة من عائلته تعيق نشاطه وتراقب تجاوزاته وتفسح المجال لانتعاش القيادات المارونية المهمشة، خصوصاً بعد طغيان نفوذه الشخصي على مختلف مؤسسات الدولة، واخضاع اللعبة الانتخابية في المتن الشمالي لإرادته السياسية. ويرى المراقبون ان استعجال تأييد غبريال المرّ من قبل الرئيس السابق أمين الجميل والنائب نسيب لحود، كان له ما يبرره على صعيد الاختبارات السابقة. ذلك ان المرحوم الدكتور مخيبر تعاون سراً مع ميشال المرّ الذي ترك له موقعاً شاغراً خلال الدورة الانتخابية الأخيرة. وبسبب هذه السابقة دفع غسان ثمن انفصال عمه عن حلفائه التقليديين، اضافة الى عدم امتلاكه الأسلحة الاعلامية والسياسية المطلوبة لمقارعة ميشال المرّ. والمؤكد ان محطة "ام تي في" التي يملكها غبريال المرّ، اسهمت في تعزيز أجواء التشكيك بسلامة العملية الانتخابية، الأمر الذي شجع الناخبين المحايدين على الاقتراع لصالح المعارضة. ويبدو ان وزير الداخلية الياس المرّ شعر بتأثيرات حملتها المركزة ضد والده وشقيقته بدليل انه هاجمها مراراً ووصفها ب"محطة الاعلام الديكتاتوري المشبع بالشحن والتجني". ويتوقع أصدقاء النائب ميشال المرّ ان يسارع الى تجديد اصدار جريدته المتوقفة منذ سنوات، بعدما لمس أهمية سلاح الاعلام من خلال الحملات التي استهدفته، وربما استدعت حاجته السياسية في هذا المجال، الدخول في شراكة محطات تلفزيونية يعاني اصحابها من نقص السيولة، علماً بأنه ساهم عام 1976 في تمويل مشروع جريدة "لا رافييه" التي أصدرها أمين الجميل. وعندما سطع نجم بشير الجميل قطع المرّ حبل الصداقة مع أمين وراهن على شقيقه. وفي مرحلة الاعداد لعملية انتخاب الرئيس عام 1982 تولى ميشال المر مهمة تنظيم اللجنة الانتخابية وتوجيه نشاطها. واتصل الشيخ أمين عشرات المرات هاتفياً لعل المرّ يضمه الى عضوية اللجنة، ولكنه رفض طلبه بحجة ان شقيقه بشير لا يريد دعمه أو مشاركته. وفجأة ابتسم الحظ لأمين اثر اغتيال شقيقه، فإذا به يعاقب ميشال المرّ على تجاهله ويوقف تنفيذ المشاريع والتعهدات التي رست على شركته. الأسئلة المحيرة التي طرحتها معركة المتن الشمالي تناولت دوافع الاقبال على صناديق الاقتراع، والأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الانتفاضة الشعبية: هل هي موجهة ضد العهد وأنصاره ومحازبيه... أم هي مستهدفة أصدقاء سورية والمحتمين بنفوذها؟ هل هي عملية انتقام ضد هيمنة ميشال المر الارثوذكسي على الواقع السياسي والانتخابي في منطقة عرفت تاريخياً بسيطرة قرار الموارنة... أم هي فرصة استثنائية لتأكيد شعبية المعارضة المسيحية، واثبات وجودها المهمش؟ الأجوبة عن هذه الأسئلة تحتمل مختلف الاجتهادات والتأويلات. فالبعض يعتبرها معركة اثبات وجود ردّ فيها التيار العوني على متجاهلي حجمه الانتخابي بتسجيل أحد عشر ألف صوت لصالح غبريال المر. في حين يرى آخرون ان قبول مشاركة العونيين في مسيرة واحدة تجمعهم وقوات سمير جعجع يمكن ان يفتح باب المصالحة، ويمهد لاحتمال رجوع ميشال عون الى لبنان. خصوصاً وان وزير الداخلية الياس المر أشار في مؤتمره الصحافي الى رغبة رئيس الجمهورية في بحث الملفات المتعلقة بإبعاد عون وسجن جعجع. ومثل هذه الاشارة الملزمة لا يمكن ان تكون وعداً انتخابياً موقتاً ينتهي مفعوله بانتهاء اعلان النتائج. وانما هي في نظر النواب، بداية تحول في السياسة السورية تهدف الى تطمين المعارضة المسيحية خوفاً من استغلال قلقها وغضبها لإحداث شغب على الساحة اللبنانية. وهي ساحة مشرعة لامتصاص كل النزاعات الاقليمية بدليل ان "الموساد" قام بحركة اختراق واغتيالات كشفت عن مدى قدرته في زعزعة الأمن الداخلي. من هنا تبدو حاجة دمشق الى سد كل ثغرات الخلاف المحلي ونزع فتيل الانفجار حرصاً على مصالحها في لبنان، ومنعاً لارباك استراتيجيتها في وقت تتزايد ضغوط واشنطن وتهديدات اسرائيل. ولقد حرص الرئيس بشار الأسد اثناء استقباله وفد "اتحاد المحامين العرب" على اظهار حال الضياع التي تعيشها الأمة العربية في أحلك الظروف واشدها اضطراباً. وبعد ان شرح مأساة الوضع الاقليمي تحدث الأسد عن الملف اللبناني فقال: "ان لبنان حالياً مهيء لعودة الخلافات الحزبية للأسف. وهذا أمر مزعج لأن لبنان كان قوياً دائماً بوحدة أبنائه. وعندما تعود مظاهر التناحر الحزبي ستعود معها حالات التفرقة والضعف. وسورية مهتمة جداً بمساعدة لبنان على تجنب هذا المأزق الخطر. وعلى رغم هذا الاهتمام فقد حرصنا على عدم التدخل في الشؤون الداخلية على أمل ان يحدد اللبنانيون أنفسهم خياراتهم للمستقبل، ونحن معهم". يُستدل من طبيعة الصورة السياسية التي رسمها الأسد للوضع اللبناني، ان وليد جنبلاط كان أسرع الزعماء تفهماً لدقة المرحلة، وأكثرهم تجاوباً مع دعوة الوفاق من أجل الحفاظ على سلامة الوحدة الوطنية وحماية خاصرة سورية. لذلك ناشد الرئيس اميل لحود بألا يعتبر هزيمة ميرنا ميشال المر هزيمة شخصية له. وشدد على ضرورة فصل العملية الانتخابية الداخلية عن الوضع الاقليمي والعالمي. وهو في هذا السياق، يختلف مع المعارضة المسيحية على حجم الحرية المسموح بممارستها في ظل أزمة المنطقة، ومراعاة لظروف سورية. ويرى قادة الاحزاب المسيحية مثل ميشال عون وسمير جعجع ودوري شمعون وكارلوس اده وحتى البطريرك صفير، انه كثيراً ما استخدمت عبارة "أمن النظام العربي" كذريعة لتعزيز نفوذ الانصار ولمعاقبة المعترضين على سياسة المفاضلة والانتقاء. وهم يذكّرون باعتقال الطلاب المتظاهرين، وبالسماح لقوى الأمن باستهداف فريق معين تُعتبر اعتراضاته معاداة للنظام وخصومة تستحق الانتقام. وربما مهدت زيارة النائب نسيب لحود لابن عمه الرئيس اميل لحود لرسم مرحلة التعاون مع المعارضة ومع تكتل قرنة شهوان بالذات. ومن المؤكد ان الرئيس يفضل اعطاء هذا الدور المميز للبطريرك صفير، خوفاً من ان يوظفه نسيب لتقوية وضعه السياسي بحيث يصبح المحاور الأوحد باسم كل المسيحيين. وهو بهذا التحرك يريد استثمار مكاسب معركة انتخابات المتن لتحقيق مكاسب واسعة على مستوى الوطن كله. النائب فارس بويز رأى وراء معركة انتخابات المتن معركة سياسية اخرى بين أهل السلطة. وعلق على هذا الوضع بالقول: "ليس سراً ان رئيس الجمهورية كان يتمنى فوز ميرنا شقيقة صهره، في حين كان موقف رئيس الحكومة رفيق الحريري في اتجاه معاكس". ولقد عبّر وزير الخارجية السابق في هذه الصورة السريعة عن الرغبات المتناقضة لكل من رئيسي الجمهورية والحكومة. ومع ان الحريري اكتفى بالجلوس في مقعد المتفرج الحيادي، الا ان اعلان فوز غبريال المرّ ولو بفارق ثلاثة أصوات، على لسان وزير العدلية سمير الجسر، كان المؤشر على توقه لسقوط ابنة ميشال المر. ويكفي ان يكون وزير العدلية المحسوب على طاقمه داخل الحكومة قد أعلن النتيجة من دون تنسيق مع وزير الداخلية، لكي يدرك الناس وجود اختلاف بين الوزيرين على تقويم نتائج الانتخابات. وهو اختلاف عميق يرجع بالأصل الى خلاف بدأ منذ تولى ميشال المر منصب وزير دفاع أثناء ولاية الرئيس الياس الهراوي، ثم استفحل بعدما أنيطت بالمرّ مسؤولية وزارة الداخلية في حكومة الدكتور سليم الحص. يومها استثمر ميشال المر منصبه بذكاء خارق مستفيداً من ابعاد الحريري عن رئاسة الحكومة، ومن خلافه المستحكم مع رئيس الجمهورية والرئيس الحص. ولقد اطلقت عليه جماعة الحريري لقب "الأمير ميشال" بسبب تزاحم النواب وأصحاب الحاجة على الدخول الى مجلسه في السرايا القديمة. ويؤكد النائب مروان حمادة ان مجلس الوزير المر كان يضم دائماً أكثر من سبعين نائباً، الأمر الذي أزعج الدوائر المختصة التي قررت التدخل في الانتخابات العامة بهدف اعادة التوازن الى القوى المحلية. خصوصاً بعدما خطف الوزير ميشال المر دور الحص والحريري، واستعاد "البرج" الذي يحمل اسمه اثر نزاع قانوني مع شركة "سوليدير" كلفها خسائر لا تحصى. والسبب انه جمد رخص البناء والترميم مدة طويلة، وربط عملية الافراج عنها باستعادة "برجه". وكان له ما أراد، متجاوزاً في ذلك كل القوانين الملزمة. وعندما يهاجم أمين عام الحزب الشيوعي فاروق دحروج وزير الداخلية الياس نجل وزير الداخلية السابق ميشال المر، ويصفه "بحارس امارة والده"، انما يكرر ما يقوله النواب همساً في مجالسهم الخاصة. والمؤسف ان الابنة ميرنا قد دفعت ثمن خصومة والدها غالياً، على اعتبار ان مقص المعارضة الذي استخدم لتقليم اجنحة ميشال المر قد قطع ايضاً حظها النيابي وربما حظ شقيقها الياس. وكانت خطة العائلة تقضي بأن تواصل ميرنا خدماتها الاجتماعية بعد فوزها بالنيابة، مستخدمة منصبها كرئيسة اتحاد بلديات المتن. ولقد بنى لها والدها مجمعاً ضخماً في الضبية يضاهي في قاعاته الوسيعة بناية المؤتمرات التي فشل الحريري حتى الآن في ايجاد تمويل لها. وفي مرحلة لاحقة يتقدم شقيقها الياس لاسترداد منصبه النيابي منها خلال دورة الانتخابات العامة. جميع هذه الحسابات لم تتحقق لأن النائب ميشال المر أخطأ في تقليد نفسه منصب الزعامة في منطقة لا يسمح فيها لارثوذكسي ان يكون زعيماً. لذلك اتحدت كل القوى والاحزاب لتخوض ضده معركة ثأر سياسي وتمنعه من الاستئثار بدور لم يظفر بمثله حتى حبيب أبو شهلا، والثابت ان عائلة ميشال المرّ لن تتأثر وحدها بوقع النتائج السياسية، وانما هناك قوى كثيرة ستعيد النظر في تحالفاتها ومواقعها على ضوء ما حدث. وكان الرئيس اميل لحود أول من تبين حجم التغيير المنتظر، لذلك سارع الى ابعاد نفسه عن المعركة، واختار الوقوف في نقطة وسط بين المهزومين والفائزين. * كاتب وصحافي لبناني.