"لسبب ما أكتب... أكتب لأن شيئاً يدفعني للكتابة. ربما لأنها الحرفة الأدبية التي أتقن، وربما لحاجتي للحياة والعيش". هكذا قال لي زكريا تامر، وأضاف: "أكثر ما يهمني الآن هو أن أكتب قصة قصيرة سهلة تقدم متعة للقارئ، فالأدب من دون متعة لا يُطاق". زكريا تامر، الكاتب القصصي، بقدر شغبه وجنونه وإبداعه في الكتابة، يعزف عن الكلام والتنظير لعمله، وإصراره على اكتفائه بالكتابة: "منْ أراد أن يعرفني وعالمي فكلانا موجود في مجاميعي القصصية". "تكسير ركب" مجموعة قصصية جديدة لزكريا تامر، تحوي ثلاثاً وستين قصة قصيرة، من دون عناوين، اكتفى الكاتب بترقيمها، وكأنه قصد إلى القول بوحدة عوالم هذه المجموعة، حتى لو اختلفت أسماء أبطالها من قصة لأخرى. تتراوح قصص المجموعة بين القصيرة جداً، القصة رقم 6 عبارة عن خمسة أسطر فقط، والقصة القصيرة، حيث أن أطول قصص المجموعة، تحتل سبع صفحات من القطع المتوسط. منذ مجموعته القصصية الأولى "صهيل الجواد الأبيض"، التي صدرت في العام 1960، أثار زكريا تامر الكثير من الجدل والنقاشات والآراء حول كتاباته، ولم يزل، ومنذ قراءتي أول مجموعة له، وجدتني منجذباً ومعجباً بعالم الرجل القصصي الساحر والمميز، وسبق لي أن تناولت عالم زكريا في أكثر من مقال، وأشرت الى انني بعد ما يزيد على ربع قرن من القراءات الأدبية المتخصصة، أستطيع القول مستنداً إلى قناعة شخصية، إنني أرى ان أهم كاتبين قصصيين مبدعين مؤسسين عرفتهما الساحة العربية، وقدما لها مشروعاً قصصياً، كل من زاويته، هما: يوسف إدريس، وزكريا تامر، وبعدهما لا أحد. مساحة شاسعة خالية، بعض الومضات تصدر بين الحين والآخر، من هنا وهناك. مجموعة قصصية واحدة، أو مجموعتان، ويخبو الألق، وتهمد الهمة، ونبقى نشخص بأبصارنا إلى القادم، وحتى إشعار آخر. زكريا تامر المولود في العام 1931، من الكتّاب العرب القلائل جداً الذين عشقوا وأخلصوا وأبدعوا في كتابة القصة القصيرة، ولم يزل ماضياً في دربه، مواظباً وجاداً ومجتهداً في تقديم قصة قصيرة بعوالم عربية دمشقية قحة، وبقلم مميز لا يشبه إلا نفسه، وهو بذلك يكون من الكتاب العرب القلة الذين لم يسحرهم بريق ومتعة الرواية، فيتركون القصة القصيرة، ويدلفون في دهاليز الرواية، ومن دون رجعة إلى القصة. من يقرأ مجاميع زكريا يدرك من دون كثير عناء ان الرجل صاحب مشروع قصصي أدبي كبير، وانه قد رصد حياته ويومه وسخّر قلمه لذلك، وانه منذ مجموعته الأولى وحتى آخر ما كتب، سار على خط واضح وصعب وملوّن وصاعد. وانه كتب القصة القصيرة كمعادل أدبي فني للواقع العربي المؤلم والقاسي، وبعقلية ووجع من يبحث عن الخلاص، خلاصه وخلاص قرّائه، وربما كان هذا وحده كافياً لأن ينال جائزة "سلطان العويس الثقافية" للعام 2000-2001، عن القصة القصيرة. وبمناسبة حضوره ندوة "ثقافة الطفل العربي... رؤية مستقبلية"، التي نظمتها مجلة "العربي"، في الكويت للفترة من 4 الى 6 أيار مايو 2002، وحين دعوته لأن يتحدث عن تجربته ومشواره الحياتي والأدبي لدى "ملتقى الثلثاء"، الذي ينعقد أسبوعياً في مكتب الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، وبحضور مجموعة من الكتاب والشعراء والمثقفين. قال زكريا، ونبرة ضجر تعلو صوته: "لا شيء لدي أقوله". استغربت جملته القاطعة. فتحرشت به ثانية: "وماذا عن مجموعتك الجديدة؟". سكت زكريا لحظة، بعدها قال: "لا أعرف... أنا أنسى ما أكتب. ربما أذكر البعض منها. لكن، لا تتوقعني أتذكر كل ما كتبت. لا أتذكر القصة بعد كتابتها، وفي كل مرة أعود إلى كتابة قصة جديدة، أرجع ذاك الشاب الذي يكتب القصة القصيرة للمرة الأولى، بخوفه ووجله وحيرته...". وسكت ثانية لم يضف شيئاً. حين أصررنا عليه: إسماعيل الفهد وأنا، وافق على حضور جلسة الملتقى، على أن يكون مستمعاً، وهذا ما لم يكن... أحاط الحضور المتلهف بزكريا، بود وعفوية ومحبة، وليلتها تحدث زكريا عفو الخاطر، قال أشياء كثيرة، تكلم عن الكتابة والقصة والحياة والنقد والمدرسة والبيت والأسرة، وعن مجموعته الأخيرة، وربما كان لنا وقفة أخرى مع تفاصيل تلك الأمسية. إذا كان من عنوان رئيسي وكبير، أرى أنه يصلح لشرح عوالم مجموعة "تكسير ركب" فسيكون: علاقة الرجل بالمرأة وسط الدهشة والتساؤل... ويبدو لي أن تصوير الواقع مخلوطاً بالدهشة وربما الغرابة، هو ديدن زكريا الأثير إلى نفسه في جميع ما كتب. فهل يتعمد الرجل ذلك في كتاباته؟ أو أنه اعتاد أن يكتب بطريقته، لتأتي كتاباته هكذا؟ يقول زكريا أنه ينطلق من فكرة، أو كلمة، ليبدأ كتابة القصة بالقلم والورقة: "الفكرة الأولية، التخطيط الأولي... ربما نصف صفحة أو صفحة كاملة...". ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية في الكتابة: "ما عدت أستطيع العمل من دون جهاز كومبيوتر، بعد كتابة فكرة القصة، أقابل الكومبيوتر، وأبدأ رحلة كتابة القصة... مرة، ومرتين، وثلاثاً... وستاً وسبعاً، إلى أن أشعر أنني انتهيت من كتابتها". يصمت زكريا لبرهة وكأنه يتذكر أمراً، قبل أن يكمل: "يمكنني أن أشبّه فكرة أي قصة في رأسي بمثلث، أكتب الفكرة، ولحظة تتطابق أضلاع المثلث المكتوب على الورق، ورسم المثلث الموجود في رأسي، في حينه أشعر أن القصة قد انتهت، وأنني كتبت فكرتي... ربما تأتي القصة جيدة، وربما تكون لا شيء، لا يهم... هكذا أكتب القصة والسلام". لزكريا مقدرة كبيرة على رسم الدهشة على وجوه قرّائه. دهشة تحويل الحدث اللحظي واليومي العادي إلى مفارقة غير متوقعة. دهشة خلق جو من الغرابة والفنتازيا، تدفع بالقارئ لأن يقفز وتساؤله: معقول؟! أو أن يردد ونفسه: ماذا يريد زكريا من هذا؟ وربما جاءت أكثر من قصة في المجموعة الأخيرة على هذه الشاكلة، وبما دفعني إلى ترديد السؤال أكثر من مرة: "هل صار زكريا تامر يكتب القصة لذاتها؟ يتمتع بكتابتها والسلام! وأين تراها تقف حدود القصة القصيرة كجنس أدبي؟ وهل من الضروري أن يكون لكل قصة معنى أو إسقاط أو هدف؟". وتذكرت مقولة "وظيفة الفن الاجتماعية"، ودار ببالي السؤال: "لماذا نكتب؟". في مجموعة "تكسير ركب" الجميع يُكسّر ويتكسّر، الرجل والمرأة، القوي والضعيف، وبكل أنواع الكسور: الروحية والذهنية وحتى الجسدية. وربما كان حضور الهاجس الجنسي، تصريحاً أو تلميحاً، هو المحور الأوضح الذي تدور حوله أغلب قصص المجموعة، خصوصاً ضمن العلاقات الأسرية، وبما يكشف زوايا خبيئة، وغائرة، وبما يعرّي تناقضات النفس البشرية. علماً أن أسماء شخوص المجموعة جاءت موحية وموظفة في معظمها، حاملة دلالة لا يصعب الوقوف عليها. زكريا يتعرض للهم العام من خلال المعاناة الشخصية الخاصة لأبطاله، الهم الاجتماعي والسياسي. الظلم والهوان والقمع المنصب على الإنسان العربي، والذي يدجّنه، ويدمر فيه حتى روحه، وربما كان هذا أحد أهم الملامح التي عرف بها زكريا وقصصه. هناك من يرى العمل الفني بصفته خلق واقع فني خيالي، بنسب مختلفة عن نسب الواقع الحياتي. نسب متباينة وصارخة ومختلة عما تعوّدناه في حياتنا اليومية. نسب مقلوبة، قادرة على بعث المفارقة المضحكة أو المبكية، وربما أمكن النظر إلى معظم قصص مجموعة زكريا الأخيرة من خلال هذا المنظور. قراءة قصص زكريا تامر، لعبة، تسلية، متعة. لكنها كأي متعة، بحاجة إلى جهد كي تمنح نفسها، وتبعث الرعشة في أوصال من يعيشها. * كاتب كويتي