I - القارئ الحالم قرأت مؤخراً قصصاً جديدة لزكريا تامر، وفي ليلة من الليالي نمت وزارني الكاتب في المنام. زكريا تامر: ما بك واجم كما لو كانت القيامة غداً؟ الحالم: قرأت بعض قصصك، ولم يعد في وسعي العودة إلى الفراش زكريا تامر: أن تقرأني ويقف شعر رأسك خير لك من أن تقرأني وتملّ من حياتك. الحالم: لكنني خائف! زكريا تامر: مما أنت خائف يا صديقي؟ الحالم: دخلت في إحدى قصصك شارعاً ومشيت فيه ساعات، ثم وصلت إلى الحائط. زكريا تامر: أن تصل إلى حائط خير لك من أن تغرق في البحر! الحالم: ... وشعرت أن هناك وراء الحائط ذئاب أنيابها قاطعة كالسكاكين تتأهب للإنقضاض علي. زكريا تامر: أن تمزقك الذئاب بأنيابها خير لك من أن تتلى عليك قصائد فاسدة، أو أن تتجرّع قبلات مسمومة. الحالم: ثم قرأت قصتك "العائلة المقدسة"، وشكرت الله لأنني لم أتزوج! وقرأت قصتك "إحدى المدن"، وشكرت الله ثانية لأنني غادرت تلك المدينة، وقرأت قصتك "السارق والمسروق" وشكرتُ الله ثالثة لأنني لا أملك بيتاً، وقرأت قصتك "أف" وشكرت الله رابعة وخامسة وسادسة، على نعمة النسيان التي نزلت على الإنسان. ثم لما قرأت "المحظوظ" فرحت أنا، أيضاً، بأن ما قرأت كان مجرّد قصة، ولم يكن شيئاً له صلة بالحقيقة، وإلا كان علي أن أنقطع عن العالم وأستغرق في الحزن على الأيام التي صرفتها من دون أن يخطر في بالي قوّة وجمالَ أن يكون المرء شريراً! زكريا تامر: أتفهم وضعك معي، لأنني أنا نفسي، عندما أعود إلى قراءة قصصي أحمد الله على أنها مجرّد قصص لا أكثر، وإلا فإنني سأصاب بالحمى وأموت من شدة الخوف. II - الصحافي الكبير الصحافي: من أين تأتي بكل هذه الصور اللاواقعية؟ زكريا تامر: من بئر اللامعقول الصحافي: أين تقع هذه البئر، أريد، أنا أيضاً، أن أغرف منها؟ زكريا تامر: افتح عينيك تجدها أمامك. الصحافي: لماذا لا تستجيب للصحافيين وتجيب عن أسئلتهم ؟ زكريا تامر: الصحافيون يحقدون على الأدباء، وأنا أفضل أن أحرمهم من متعة الانتقام مني، لذلك تركت المقابلات الصحافية لموظفي الأدب وشعراء الحداثة الذين يكرهون عرابيهم في السر ويحبونهم على رؤوس الأشهاد! الصحافي: ولماذا قَبِلْتَ أن تجيب عن أسئلتي؟ زكريا تامر: ضخامة جسمك وضيق المكان وخوفي من العواقب أجبروني على ذلك! الصحافي: من هم الشعراء الجدد الذين تعجبك قصائدهم؟ زكريا تامر: الشعراء الذين لم يولدوا بعد. الصحافي: من هو الكاتب العربي الأكثر حداثية في رأيك؟ زكريا تامر: شهرزاد التي سكتت عن الكلام المباح. الصحافي: ما رأيك بمهرجانات الثقافة العربية؟ زكريا تامر: أسواق شعبية بضاعتها كلام كاسد. الصحافي: وقصيدة النثر؟ زكريا تامر: كنتُ من مؤيديها ، وصرت من ألدّ أعدائها. الصحافي: لمن يعود الفضل في ذلك؟ زكريا تامر: لعشرين سنة من المليشيات الشعرية والمليشيات الشعرية المضادة. الصحافي: رائع. لو وجدت في يدك هراوة ووقع أحد تحت يدك وكنت غاضباً، فمن تحب أن يكون هذا الشخص؟ زكريا تامر: من غيرك؟! III - الشرطي الفصيح الشرطي: أنت زكريا تامر؟ زكريا تامر: من سأكون لو لم أكن زكريا تامر، صوفيا لورين؟! الشرطي: لكنك تشبه الماغوط! زكريا تامر: من أنا؟ مستحيل! خذ نظارتي السميكة وبَحْلِقْ فيَّ لعلك تجد لي شبيهاً آخر! الشرطي: الماغوط كاتب جيد ويَذْكُرُني كثيراً في كتاباته. زكريا تامر: مفهوم، أنت شخص موحٍ! الشرطي: اذكرْ الحقائق كلها، ولا تتكتم على صديقك، أو لم يعمل الماغوط، وهو شاعر حداثي ذائع الصيت، سكرتير تحرير في "مجلة الشرطة" السورية؟ زكريا تامر: بلى! الشرطي: إذن لماذا يُعتبر الاقتراب من الشرطة العربية عاراً بالنسبة إلىكم أنتم أدباء الحداثة! أنا أعرف شاعراً كبيراً، هناك من يعتبره "أبا الحداثة المهاجرة" مع المعارضين تجده معارضاً مقطباً وحزيناً وذا لحية خفيفة تشبه لحية غيفارا، ومع الضباط الكبار في الجيش والشرطة تجده متبسماًمنشرحاً، ومع ذلك لم يهجره أحد من القراء! زكريا تامر: عرفت هذا الشاعر، صدقني إن قراءه هم الشعراء والنقاد وأهل النميمة. الشرطي: لنعد إلى الموضوع الذي استدعيتك بشأنه، لماذا تصورني في أعمالك بطريقة غريبة عجيبة، علما أن الغريب العجيب هو الشيطان وحده؟ زكريا تامر: من، أنا؟ مستحيل! الشرطي: نعم أنت هل تظنني أمّياً لا يقرأ ولا يفكّر؟ إنني أقرأ كل ما يكتبه أدباء الحداثة وأضع فيه تقارير دورية إلى محافظ المدينة، إنني أفعل ذلك منذ سنوات طويلة إلى درجة أنني أفكر بعد التقاعد من الشرطة أن أتخصص في نقد قصصك للصحف والمجلات، وربما أنال الدكتوراه في أعمالك من جامعة العروبة. زكريا تامر: هذا شيء مخيف! الشرطي: لا مخيف ولا هم يحزنون. لقد درستُ شخصيتي في قصصك ووجدت أنك تجعلني غريباً أمام نفسي، أمرّ بها ولا أتعرف عليها. إنك تضعني في مواقف يصعب علي الفكاك منها، هل قصّرت الشرطة في خدمتك يوماً؟ زكريا تامر: أبداً! الشرطي: إذن لماذا تصرّ على إهانتي أمام الناس وإحراجي أمام المسؤولين، وإهدار كرامتي أمام زوجتي؟ زكريا تامر: أكيد هناك سوء تفاهم، فأنا مع ما تمثله كإنسان وضد ما تمثله كدور الشرطي: هذا كلام حداثي غير مفهوم، لذلك من واجبي أن أتجاهله. هل عندك أولاد؟ زكريا تامر: عندي اثنان. الشرطي: أما تخشى أن يختار أحدهما الانتساب إلى سلك الشرطة، ثم ما أن يصبح ضابطاً كبيراً حتى يصدر أمراً بمصادرة قصصك المتشائمة من الأسواق ومطالبتك بكتابة قصص عربية تدعو إلى التفاؤل! زكريا تامر: لا أعتقد فهما ولدان ساخران كأبيهما، لكن إذا حدث شيء كهذا، لا سمح الله، فإنني سأكسر قلمي وأختار إحدى أكثر قصصي سوداوية فأدخل إليها، وأضرب عن الطعام حتى الموت!