عندما يلقي المرء نظرة على العالم من حوله سيجد ان لكل أمة أو شعب نصيبه أو نصيبها من المشكلات والأزمات، واذ يعلّمنا التاريخ ان المشاكل والأزمات أمر معتاد وجوده لدى الجميع، فإنه يشرح لنا كيف ان حياة الأمم والشعوب ليست إلا سلسلة متواصلة من المشاكل والحلول. لكن في حين نشهد إقدام أمم الحضارة الغربية وهم من لا نقبل الا على مضض بتسميتهم بالمتقدمين على مواجهة مشاكلها أولاً بأول ونتابع مثابرتهم على ابتداء الحلول من دون كلل ودون استرخاء، وفي حين نراهم يزيحون الغطاء عما يعترض طريق تقدمهم ويكشفون لأنفسهم بلا تردد عما هو كامن فيهم من العيوب وما هو قائم أو محتمل لديهم من المشكلات، نبقى نحن على ما ألفناه من التمويه على المشاكل واخفاء العيوب. لقد كان يمكن لما نراه فيهم ولديهم ان يفتح عيوننا على حقيقة أنهم يتقدمون لأنهم يكشفون معايبهم ويواجهونها وفق ما تمليه عليهم الأولويات وان يوقظ فينا الاحساس بأهمية تعرية العيوب وان يخلق لدينا القناعة بأن لا علاج من دون مكاشفة، لكن لم يكن لأي من ذلك اثر على اسلوب تفكيرنا وبالتالي لم تتعدل مواقفنا من حقائق حياتنا العربية، ليس هذا فقط بل اننا واصلنا اقناع انفسنا بأن المتقدمين ليسوا إلا مجموعة من الأمم الحبلى بالمشكلات والمليئة بالعيوب وتصرفنا على الدوام وكأن لا وجود للمشكلات والعيوب التي عندنا ما دمنا قادرين على اخفائها خلف دخان ذكريات حضارة كانت وتحت غبار قيم عظيمة لم يعد لها من فعل سوى ان تتردد في خطب المساجد وتظهر على منتجات وسائل الاعلام. هكذا تحولنا الى أمة تسكن الى جانب اكوام من أطلال الماضي فخورة بأنها قادرة على طمس عيوبها وتضليل نفسها عن أزماتها وسعيدة بما ينكشف لدى المتقدمين من معايب ومشكلات. هكذا نفعل وهكذا نستريح، الأمر الذي يكاد ان يؤدي بنا الى ان نصبح أمة سعيدة بالعجز تقيم أفراح النصر عند الهزيمة وتحتفل بالانجاز حين الفشل وتفاخر بقدرتها على اخفاء النقص بادعاء الكمال. حقاً من العسير على المرء ان يواصل اطلاق النار على أمة يحبها، ولكن من الأعسر عليه ان يواجه بالصمت مسرحية فاشلة يجري عرضها على مسرح الدنيا، منذ نصف قرن من الزمان، نعم لا يزال عرض المسرحية العربية مستمراً من دون انقطاع منذ الخمسينات وما زالت على رغم سذاجتها تلقى التصفيق الحار من جماهير غير قادرة على فهم ما يجري على خشبة الاحداث. ان أمة لا تكشف لنفسها عن معايبها كما يفعل المتقدمون لن تكون أبداً قادرة على علاج ما بها من أمراض وما نفعله من اخفاء للفشل وتصويره على انه النجاح، ومن انكار للهزائم على أنها من الانتصارات لن يؤدي بنا الا الى المزيد من المتاعب والنكبات، كذلك فإن أمة لا تحسن ترتيب أولوياتها فتبدأ من الآخر هي أمة لن تحصد سوى الأزمات. لننظر كيف نقفز الى التعلق بآمال لا يمكن ان تتحقق الا من بعد اجتيازنا لما يقف دونها من عقبات وكيف تظن ان أصوات الحناجر كفيلة بانجاز الأهداف، لقد تعاملنا مع هدف الوحدة العربية تعامل الساذج الذي بدأ بالنهايات غير حافل بما عليه القيام به من بدايات، فقد توهمت كل حركات الدعوة الى الوحدة في هذا العصر وثابر الكتاب والمفكرون وكذلك بعض الساسة على الظن بأن الأمل يمكن تحقيقه بحشد الحناجر وترديد الاناشيد من دون الالتفات الى انها مشروع عصي على التحقيق في غيبة المواطن الفرد الحر الذي يملك حق الاختيار، وهكذا ظل الهتاف بالوحدة ولا يزال مجرد نشاط ثوري يملأ اسماعنا في الوقت الذي لا نملك فيه إبداء الرأي في اختيار مختار الحي أو شيخ القبيلة ولم يسعفنا احد لندرك ان الحديث عن الوحدة في غياب حق الفرد، لا يعدو كونه قفزاً الى وهم ومحاولة لعبور النهر قبل اقامة الجسور. اننا نظن بأنفسنا القدرة على بلوغ خط نهاية السباق من دون ان نجري في الطريق اليها، الأمر الذي دفعنا ويدفعنا الى مقارعة الولاياتالمتحدة التي نرى انها لنا من الخصوم والى حشد كل ما يمكن من طاقات الغيظ لتوقيع العقاب عليها وذلك من دون ان نشغل انفسنا بكسب أي مؤهلات لمواجهة مثل تلك الدولة الكبرى تماماً كما فعلنا ونفعل ازاء دولة اليهود. ألسنا نقارع اسرائيل خمسين عاماً أو يزيد بألسنة من لهب وحناجر من نار من دون ان يخطر على بالنا ان فعلنا ليس إلا بداية من الآخر وان من الأجدى لنا ان نعكف على معالجة عيوبنا ونواقصنا وان نسعى لكسب المؤهلات التي تجعل منا نداً قادراً على الصراع. إننا أمة تحرم نفسها من فرص اكتساب القدرة على انتزاع الحقوق وتنصرف الى إدمان الأوهام، اننا نزين انفسنا لأنفسنا ونستخدم قدراً لا يصدق من المساحيق وأدوات التجميل من دون ان نفكر في ان ملامحنا الحقيقية في حاجة الى التعديل، وذلك في الوقت ذاته الذي تشوه فيه صورة حضارة العصر حتى تبدو لنا قبيحة، لا تستحق ان نتعلم منها أو نستفيد، أليست هي حضارة الهامبرغ والعري والجريمة والفساد؟! ومع ان كفة عيوبنا الخفية أثقل من كفة ما هو مكشوف من عيوب المتقدمين إلا اننا سعداء بما نحرص عليه من ظواهر الأمور. والآن دعونا نتساءل عن سبب ادماننا محاولة القفز الى النتائج من دون انجاز المقدمات ولعل الاجابة على هذا التساؤل لا بد ان تكون اجابة معقدة، فموروث الثقافة وبيئة السياسة ومستوى التحضر وكذلك رواسب الماضي وتكوين النفوس كلها عوامل تداخلت في انتاج الموقف العربي من الأولويات وتكريس الظن بأنه يمكن التحايل في أي سباق بالقفز الى النهاية من دون الحاجة الى اجتياز العقبات. ان الأمة تبدو في هذا العصر وكأنها تخلت عن فضيلة التواضيع لما فيها من مساس بالكبرياء وهي بدلاً من ان تتصرف الى كسب مؤهلات القدرة، استساغت ملأ ذاتها بالوهم والفراغ، فتعودت على معالجة التخلف بإطلاق اسم التقدم عليه وعلى التمويه على الهزيمة بالاحتفال بها على انها انتصار وعلى التغطية على عدم المعرفة باصطناع الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية المتميزة، وهكذا لم يعد لدى الأمة شعور بالحاجة الى ان تتعلم من المتقدمين، بل انها استطاعت ان تقنع النفس بأنها جديرة بالجلوس على منصة الاستاذ الأمر الذي يفقدك القدرة على ترتيب الأولويات ويجعلك تحاول البداية من الآخر عندما تحل بك أزمة من الأزمات. * كاتب، رئيس وزراء ليبيا الأسبق.