إن المجتمعات المتقدمة هي فقط, التي ستكون قادرة على التعامل مع هذه القفزات الحضارية المفاجئة والسريعة, وقادرة على استقبالها وتناولها سواء كانت هذه القفزات من صنعها هي أو من صنع مجتمعات أخرى, مكافئة لها بالقدرة وربما لها في الاتجاه, وهذه المجتمعات هي المؤهلة اكبر تأهيل, لاستثمار المستقبل لصالحها وتوجيهه باتجاه الذي يحقق أغراضها, لأنها في اغلب الأحيان, ستكون هي ذاتها التي تصنع المستقبل, وتحدث فيه قفزات, أو تحفز المجتمعات المكافئة على إحداث مثل هذه القفزات .. يحاول الدكتور إبراهيم بدران بهذه الكلمات المدونة في كتابه الموسوم (حول التاريخ والتقدم في الوطن العربي), أن يوضح حقيقة التطورات العلمية والتقنية الهائلة وسمات المجتمع المتقدم الذي دخل عصر المعلوماتية, ودورنا كعرب ومسلمين, في هذا العصر الذي تتعاظم حركة تطوره وتقدمه بوتائر متسارعة, يصعب على الإنسان اللحاق بها, بل تجعله دائما يلهث وراءها ويتطلع إلى تحقيق عناصرها في واقعه الخاص والعام. والذي ينبغي إدراكه في هذا المجال, هو عدم قدرة الإنسان, من إدارة ظهره لهذه التطورات وعمليات التقدم السريعة, التي تطال تقريباً مختلف مجالات الحياة. كما اننا لا يمكننا أن نوقف عجلة المعلومات والتقنية المعلوماتية, لهذا فإننا من الضروري أن نهيئ نفوسنا وعقولنا للاستفادة القصوى من هذه التطورات بما يحقق القفزات المطلوبة في راهننا العربي والإسلامي. ولا شك أن القاسم المشترك بين المجتمعات المتقدمة, هو قدرة هذه المجتمعات على توفير الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب تطورات العصر وحركة التقدم الإنساني. فدائما نجد أن المجتمع المتقدم يملك القدرة النفسية والعلمية لهضم الجديد والتطورات التي تحدث, وهذه العملية هي التي نطلق عليها جملة الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب حركة التقدم الإنساني, فهي قدرة إنسانية فذة, تسعى إلى مواكبة الجديد العلمي, وهضم واستيعاب تقنياته وأسراره. فالمهمة الأساسية الملقاة على عاتقنا كعرب ومسلمين في عصر المعلومات, هو أن نوفر الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب متطلبات هذا العصر, بكل ما تعني كلمة الاستيعاب من معنى. وتوفير الشروط الذاتية والاجتماعية, ليس محصورا في جانب طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون مع عصر المعلومات, بل تتعدى ذلك وتشمل جميع المجالات والآفاق, بحيث أن الضغوطات الخارجية والتحديات الداخلية, لا تحول المجتمع إلى جثة هامدة راكدة, لا تستطيع عمل أي شيء أمام ضغوطات الخارج أو تحديات الداخل, وتعتبرها وكأنها القدر الذي لا مفر منه. بل تتعامل مع الضغوطات والتحديات وفق المنظور الحضاري والذي يحاول أن يمنع عمل وتأثير تلك الضغوطات الخارجية, ويسعى نحو تحويل مسار تلك التحديات وجعلها عتبات يرتقي بها المجتمع سلم التطور والمجد. فالشروط الذاتية والاجتماعية من قبيل القدرة على التكيف والاستيعاب العلمي والصلابة النفسية, هي التي لا تجعل المجتمع ينهزم أمام مشاكله, ويرضخ لتحدياته بل تغرس في نفوس أبناء المجتمع العزة بالذات, والإيمان المطلق بقدراتها وتجعلهم يتحملون شظف العيش وضنك الحياة, من أجل تجاوز تلك المشاكل والتحديات. فالمجتمع الألماني خرج من الحرب العالمية الثانية, منهك القوى, مشتت الأوصال, محطم الاقتصاد, ومدمر البنى التحتية, إلا إنه لم يستسلم أمام هذا الواقع الصعب, وإنما بدأ رويدا رويدا, يبني ذاته, ويعيد قواه, واستخدم في سبيل ذلك كل الامكانات المتاحة له. وبينما المجتمعات التي لا تمتلك السرعة والإمكانية الكافية لتوفير الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب التطورات والتحولات في مختلف الاتجاهات, تصاب بالأفول والضعف والاضمحلال أمام التحولات والتحديات المختلفة. وما نقصده بالشروط الذاتية والاجتماعية, التي تؤهل المجتمعات لاستيعاب تطورات العصر وتحولاته هي: القوة النفسية والإرادة الفاعلة: إذ ان المجتمعات المهزومة نفسيا, لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع التطوير لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلا إرادة خائرة لا تستطيع القيام بأي عمل. لهذا فإن من الشروط المهمة التي ينبغي توافرها لاستيعاب عصر المعلومات بمتطلباته وآفاقه هو توفر القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة, وهزيمة راسخة, وتصميما فولاذيا, على تطوير الواقع واستيعاب تحولاته, ومقاومة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور. واستطرادا نقول: إن الخطر الحقيقي الذي يواجه الشعوب والأمم , ليس في الهزيمة المادية الخارجية, بل في الهزيمة النفسية, التي تسقط كل خطوط القدرة الداخلية, وتمنع وجود الإمكانية الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطورها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك. الدينامية الذاتية: بمعنى أن حركة المجتمع تجاه التقدم والتطور, حركة ذاتية لا تنتظر المحفزات من الخارج, بل هي مجتمعات مولدة للإصلاح والتطوير وصانعة له. وإن الحركة الذاتية, هي التي تفتح أبوابا جديدة لرؤية المستقبل وبلورة آفاقه. فإن الامكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في عملية التقدم وحسن استخدامها في مشروع التطور, إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع يتحرك بحوافزها, ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الامكانات المتوفرة في الإنسان والطبيعة. التعاطي الإيجابي مع التحولات: وهو ابتداء قدرة نفسية, تتجسد في إرادة وتصميم وتخطيط, يتجه إلى تحقيق الانسجام المطلوب بين الواقع والمثال.. وهذه صفة حضارية, إذ يتمكن صاحبها من تجاوز عثرات الطريق وسيئات الواقع, ويستطيع من خلالها أن يستوعب التحولات والتطورات. فالولاياتالمتحدةالأمريكية, واجهت الكثير من الأزمات والمشاكل المستعصية القادرة على إيقاف الزحف الحضاري, أو تغيير قمته من أمريكا إلى دولة أخرى, لكن قدرة الولاياتالمتحدةالأمريكية على التعاطي الايجابي مع هذه التحولات والأزمات, والاستفادة الدائمة من عناصر القوة الجديدة, وإدخالها في الدورة الحضارية الأمريكية, هو الذي أبقى الولاياتالمتحدة زعيمة العالم وقطب الرحى في مسيرة الحضارة الحديثة. وأن أفول هذه القدرة هو بداية النهاية لأية حضارة, حيث أن الحضارات الإنسانية التي سادت ثم بادت تكشف لنا أن العنصر الأساسي الذي أنهى تلك الحضارات وجعلها تعيش القهقرى, هو عدم أو ضعف قدرتها على التكيف مع التطورات والتحديات الجديدة, ولا فرق في ذلك سواء كانت تلك التطورات والتحديات والتحولات طبيعية أو إنسانية. لأن القدرة على التحكم بالطبيعة كمقوم أساسي من مقومات النهوض والحضارة لا تتأتى بدون قدرة الإنسان على التكيف مع متطلبات الطبيعة, وتوفر أسباب الاستفادة منها, وهكذا فيما يرتبط بمنجزات الإنسان الحديثة. وبالتالي فإن التعاطي الإيجابي مع التحولات يعني, النفاذ إلى القوانين التي تتحكم بسيرورات تطور المجتمعات الإنسانية تمهيدا للوصول إلى معرفة الواقع الاجتماعي, وسياقه التاريخي, وإمكانات الفعل والتطور الذي يزخر بها وجوده. من هنا فإننا في هذا العصر الزاخر بالمعلومات وتقنياته المتعددة, لا يمكننا أن نختار هل ندخل هذا العصر أم نغلق واقعنا منه, وإنما من الأهمية توفير كل الشروط الضرورية لاستيعاب تطورات هذا العصر وتقنياته حتى يتسنى لنا المشاركة الطبيعية في عصر لا محل فيه إلا إلى المجتمعات الحية, الزاخرة بالكفاءات والطاقات الخلاقة.