"بين شاطئين ومياه، عشقتهما عينيا، يا اهل اسكندرية". المطرب محمد قنديل ليس وحده الذي سحرته الاسكندرية. شعراء وكتّاب ومطربون وعلماء تاريخ وآثار كتبوا وغنّوا وبحثوا ونقّبوا في الاسكندرية وعنها وعن اهلها. فهي بحق مدينة فريدة ومتميزة بتاريخها وجغرافيتها وتركيبتها السكانية. واذا كانت ثاني اكبر مدينة في مصر بسكانها الاربعة ملايين والذين يتضاعفون مرات عدة في فصل الصيف بالغزاة الهاربين من قيظ القاهرة تحظى بقدر بالغ من الاهتمام السياحي، فان هذا الاهتمام ليس شاملاً بأي حال من الأحوال. فهناك "اسكندرية" اخرى جديرة بالاهتمام، بالاضافة الى قصر المنتزه، وشاطئ المعمورة، وقلعة قايتباي، ومسجد المرسي ابو العباس وغيرها من المعالم التي اضحت معروفة لدى السائح العربي ان لم تكن بالزيارة والمشاهدة عن كثب فبالقراءة والمشاهدة في الفضائيات والارضيات. لندن - مايسة جميل اذا كانت الغالبية العظمى من سكان الاسكندرية في عام 2002 من المصريين فانها لم تكن كذلك قبل وصول الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الى الحكم. وما زالت المباني واسماء الشوارع وما تبقى من احفاد عصر مضى تشهد على حقبة كانت الجاليات اليونانية واليهودية والفرنسية والايطالية جزءاً لا يتجزأ من نسيج تلك المدينة التي كانت يوماً ما احدى اعظم المدن اليونانية الرومانية بعدما اسسها الاسكندر الاكبر في القرن الرابع قبل الميلاد. وعلى رغم سياسات التمصير والتأميم التي اتبعها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والتي نتج عنها سحب صفة "الكوزموبوليتانية" من مدينة الاسكندرية، الا ان آثار "كوزموبوليتانية" الماضي البعيد والقريب تجذب عشرات الجنسيات لتعيد تلك السمة الى الاسكندرية في مواسم السياحة. ولنبدأ بأبي قير، تلك الضاحية الصغيرة على بعد 24 كيلومتراً شرق الاسكندرية. وشهرة ابي قير لا تنبع فقط من اطباق السمك الشهية جداً التي تقدمها المطاعم المنتشرة على طول الشاطئ، لكنها تعود الى ما قبل تأسيس تلك المطاعم بكثير، فقد شهدت تلك الضاحية معركتين كبيرتين في اطار حرب نابليون. الاولى معركة خليج ابي قير والمعروفة ايضاً بمعركة النيل، وفيها تمكن الاميرال البريطاني هوراشيو نيلسون من اغراق اسطول نابليون عام 1798، وفي العام التالي، هزم جيش نابليون بونابارت الجيش التركي الذي ارسلته بريطانيا والذي رسا في ابي قير في محاولة لطرد الغزاة الفرنسيين. واليوم عاد الفرنسيون، لكن ليس غزاة، فقد عادوا للغوص. وقد اكتشف علماء الحفريات اسفل الميناء الحديث الاطلال الغارقة للاسكندرية التي هدمها زلزال عنيف عام 365 بعد الميلاد. ومن بين آلاف القطع التي عثر عليها حطام سفينة يعتقد انها كانت السفينة الخاصة بكليوباترا، بالاضافة الى تمثال لابي الهول يزن 374 كيلوغراماً ويحمل وجه والد كليوباترا. وهي كليوباترا فرضت وجودها على مدينة الاسكندرية الى الوقت الحالي. فبالاضافة الى شاطئ كليوباتر الشعبي في قلب الاسكندرية، ما زالت كليوباترا تشع جمالاً وسحراً اللذين أسرا قلب مارك انطونيو قائد يوليوس قيصر، وهو ما نتج عنه ان اصبحت مصر حليفة لروما وليست مجرد دولة فتحها الرومان. لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، اذ انهزم جيش انطونيو وكليوباترا عام 30 قبل الميلاد على يد اوكتافيوس الذي كان ينافس انطونيو في السيطرة على روما. ولحسن الحظ ان الحبيبين تركا لنا قبل انتحارهما مئات التماثيل لشخصيهما، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني في الاسكندرية وهو يحوي الآلاف من المعروضات الاثرية من الحقبتين البطلمية والرومانية، من قطع معدنية، وتماثيل من الفخّار والمومياءات. وعلى انقاض مكتبة كليوباترا، وكذلك السرابيوم، يقف حالياً عمود السواري وفي اسفله تمثالان لابي الهول من عصر البطالمة. ومن "المتحف اليوناني الروماني" تمكن رؤية ما تبقى من قلعة مملوكية لا يزورها كثيرون. ومن تلك القلعة يمتد شاطئ البحر المتوسط شرقاً، ولا تقطعه سوى افرع صغيرة من نهر النيل في مواقع عدة، بالاضافة الى عدد من الموانئ. وعلى رغم ان مشاهد الطيور المحلية والمهاجرة لم تحظ بعد بنصيبها الكافي من الاهتمام السياحي الا ان تلك المنطقة تجذب عدداً هائلاً من الطيور المهاجرة التي تنتظر من يريد قضاء وقته مسترخياً ومستمتعاً بمراقبتها. والامر لا يقتصر على الطيور فقط، اذ ان العلماء اكتشفوا حديثاً تجمعاً من "الحرباء" تعيش بالقرب من "الملاحات" على مشارف الاسكندرية، والمثير انها تتمتع بخصائص تختلف عن تلك التي تعيش جنوب الصحراء الكبرى، بل هناك اعتقاد انها من فصيلة جديدة تماماً. وكان العلماء اكتشفوا فصيلة مشابهة لتلك الحرباء في منطقة اسمها "بايلوس" جنوب اليونان، وهي ايضاً كانت مستوطنة رومانية على الطريق البحري بين الاسكندريةوروما. يذكر ان الرومان في مصر كانوا يربّون "الحرباء" باعتبارها من الحيوانات الاليفة. واذا كانت تلك فكرة غير مألوفة، فهناك في الاسكندرية كل ما هو مألوف: شواطئ مزدحمة واخرى خمس نجوم، اسواق شعبية ومراكز تجارية فاخرة، آثار تعود الى ما قبل الميلاد ومبانٍ تنافس ناطحات سحاب نيويورك في حداثتها، والمؤكد ان السائح سيجد في تلك المدينة الجميلة الملقّبة ب"عروس البحر المتوسط" ما يريده.