هنا الاسكندرية : مدينة الأسكندر الأكبر الخالدة، وعروس المتوسط الساحرة، حيث التاريخ العريق والجمال الأصيل. الاسكندرية مدينة حوت المنارة العجيبة التي كانت إحدى عجائب الدنيا السبع، والمكتبة الفريدة التي جمعت علوم القدماء وحكمة الفلاسفة وثقافات الشرق والغرب، والموقع المتميز الذي جعلها مدينة التقاء الحضارات تعيش فيها اجناس شتى من البشر. شهرتها طالت الى حد ان ما يزيد على 45 مدينة موزعة في مختلف انحاء العالم باتت تحمل اسمها، وهو مجد فريد وخاصية نادرة لا تشاركها فيه مدينة أخرى. الاسكندرية أشبه بإمرأة حسناء تقدم بها العمر، ولكنها ظلت تحتفظ بسحرها وجمالها، الذي طالما فتن عشاقها والرحالة والمسافرين الذين خلبت ألبابهم على مر العصور. يبدو ذلك واضحاً في حدائقها وآثارها وشواطئها، ومزاراتها السياحية التي يمتزج فيها عبق التاريخ بنفحات الحضارات الإنسانية المتعاقبة. أهلها يتميزون بروح منطلقة وود ظاهر وكرم شرقي أصيل، تلمسه في أي مكان تذهب إليه، وهي الى ذلك حافلة بالجاليات على اختلافها من تركية ويونانية وايطالية وفرنسية، فضلاً عن المغاربة والشوام والأرمن. ويشهد فصل الصيف انتقال مركز الجذب السياحي من القاهرة والاقصر الى الاسكندرية. وتزدحم المدينة بأعداد كبيرة من الزوار والسياح الذين يفضلون قضاء عطلة الصيف فيها والاستمتاع بشواطئها الساحرة. وتمتاز المدينة بكثرة الخلجان الطبيعية، حيث يمتد الشريط الساحلي مسافة 70 كيلومتراً من شرق المدينة إلى غربها، لتتصل بذلك الشواطئ الذهبية، وتتلاقى الرمال البيضاء الناعمة بمياه البحر الصافية في نحو 25 شاطئاً. والملاحظ في السنوات الأخيرة اتجاه معظم المصيّفين إلى الإقامة في القرى والمنتجعات السياحية المنتشرة على طول الساحل الغربي للمدينة. وشهدت تلك المنطقة نهضة عمرانية كبيرة في السنوات الماضية استهدفت إقامة مئات المنتجعات السياحية الفاخرة التي يتوافر فيها جميع سبل الراحة والترفيه، الى حد جعلها المكان المفضل لرجال المال والسياسة ومشاهير الفن والأدب، ويصاحب الجذب السياحي السكندري جذب فني وثقافي أيضاً، ويتمثل في انتقال معظم عروض كبار الفنانين المسرحية إليها، كذلك المؤتمرات واللقاءات العلمية والثقافية والفكرية التي تتحول من القاهرة إلى الاسكندرية، لتجعلها العاصمة الفنية والثقافية الصيفية لمصر. وفي الشتاء ينحسر الازدحام تدريجاً عن المدينة، وتصبح الاسكندرية أكثر هدوءاً وروعة، وهو الفصل الذي يستمتع فيه أهل الاسكندرية بمدينتهم، التي يعرفون اسرارها ويحفظون مواطن جمالها عن ظهر قلب. وشأنها شأن معظم المدن الساحلية المطلة على البحر المتوسط، تزخر الاسكندرية بالآثار اليونانية والرومانية، التي شهدت قمة ازدهارها في عهد الحضارتين المتوسطيتين الآفلتين. والزائر للمدينة لا تفوته زيارة المتحف اليوناني الروماني، الذي يحكي تاريخ المدينة وحضارتها في مرحلة من أهم مراحل التاريخ القديم، وهي المرحلة التي امتزجت فيها الحضارات الشرقية والغربية، للمرة الأولى في تاريخ الانسانية، لتخرج الى الوجود حضارة انسانية موحدة، وهي التي يطلق عليها الحضارة "الهيلية". يقع المتحف في وسط المدينة ويحوي ما يزيد على 60 ألف قطعة أثرية ترجع الى فترة القرنين الثالث قبل الميلاد والخامس الميلادي. ومن أهم معروضاته المومياوات المحنطة وعمرها نحو ألفي سنة، بالإضافة الى تماثيل رخامية وغرافيتية لكليوباترا ومارك انطونيو واغسطس ويوليوس قيصر وغيرهم من ملوك البطالمة وأباطرة الرومان. ويحوي المتحف كذلك مجموعة من تماثيل لسيدات سكندريات تسمى "التناجرا" وهي تماثيل فخارية دقيقة الحجم تمثل الحياة اليومية في الاسكندرية في العصرين اليوناني والروماني. ويحوي ايضاً مجموعة كبيرة من العملات الأثرية النادرة من مختلف العصور التاريخية، تعتبر من أهم وأقيم العملات الأثرية في العالم. وعلى مقربة من المتحف يقع المسرح الروماني، وهو المسرح الوحيد من نوعه في مصر، ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، وكان يستخدم كصالة للموسيقى يبلغ قطرها 42 متراً، وتتخذ مدرجاته، وعددها 12 مدرجاً شكل نصف دائرة. وفي السنوات الماضية كشفت حفريات أثرية قريبة من المسرح عن مدينة بيزنطية كاملة تحوي شبكة من الطرق القديمة ومدرسة فلسفية وحمامات رومانية كبيرة وخزانات للمياه. وفي منطقة "كرموز" الشعبية يقع عمود السواري، وهو عمود من الغرانيت، يبلغ طوله 27 متراً، وقطره نحو 7،2 متر، ويعرف في المصادر الغربية باسم "عمود بومبي" وذلك بسبب الاعتقاد الشائع بأن رماد جثة القائد الروماني الشهير بومبي كان يحفظ في وعاء من البرونز في قاع العمود. فيما يؤكد الأثريون أن العمود أقيم تخليداً لذكرى الامبراطور الروماني "دقلديانوس" الذي تمكن من إخماد ثورة قام بها شعب الاسكندرية للانفصال عن روما، بعد حصار دام أكثر من ثمانية أشهر. وتحوي المنطقة كذلك اطلال معبد السراييوم الذي أقيم لنشر الديانة الجديدة التي ابتدعها ملوك البطالمة للتوحيد بين عناصر الديانتين الفرعونية واليونانية، بهدف التقرب الى المصريين. أما أهم المقابر الأثرية التي ترجع إلى ذلك العصر، فهي المقبرة الرومانية التي تقع في حي كوم الشقافة. ويرجع تاريخ انشائها الى القرن الأول الميلادي، وهي تمثل طراز المقابر السفلية الكاتاكومب ذات الحجرات المنحوتة في الصخر عبر سراديب تحت الأرض. وتتكون من بئر يدور حولها درج حلزوني يؤدى الى طبقات المقبرة، المبنية على ثلاثة مستويات مختلفة. ولا تقتصر آثار الاسكندرية على الرومانية فقط، لكنها تزخر أيضاً بالآثار الاسلامية. وتضم مناطق الانفوشي واللبان وكرموز والجمرك، وهي الاحياء التي تكونت في العصور الاسلامية، عدداً من المساجد والوكالات والحمامات القديمة، التي انشئت اثناء العصور الفاطمية والايوبية والمملوكية والعثمانية، مثل جامع العطارين الذي بناه بدر الجمالي وزير الخليفة المستنصر بالله الفاطمي سنة 477 هجرية، ويعد من أقدم مساجد المدينة. كذلك مسجد عبدالقادر الجيلاني الذي يرجع إنشاؤه إلى آواخر العصرالايوبي، وكان في الأصل مدرسة وتكية محلق بها مسجد. ولكن أهم مساجد المدينة وأكثرها شهرة على الاطلاق جامع ابو العباس المرسي، ويرجع تاريخ انشائه إلى سنة 706 ه، وقد أعيد بناؤه وترميمه غير مرة. ويقع أمامه مباشرة مسجد الإمام البوصيري صاحب القصيدة المشهورة في مدح الرسول والمسماة "بُردة المديح"، والتي نسج على منوالها أمير الشعراء احمد شوقي قصيدته الرائعة "نهج البُردة". ومن أهم الآثار الاسلامية في المدينة كذلك قلعة قايتباي، التي تعد نموذجاً رائعاً للعمارة الحربية في العصر المملوكي، ذلك العصر الذي شهدت فيه المدينة رواجاً تجارياً كبيراً، وكانت محطة رئيسية لنقل التجارة بين الشرق والغرب، ولعبت دوراً مهماً في حماية السواحل المصرية وصد غارات الحملات الصليبية، التي استهدفت المشرق العربي طوال قرنين من الزمان. أقيمت القلعة على انقاض منارة الاسكندرية، على مدخل الميناء الشرقي القديم. وبناها الملك الاشرف قايتباي سنة 1477، وهي على شكل شبه مربع يبلغ طولها 150متراً وعرضها 130 متراً، وتبلغ مساحتها ما يقرب من 20 ألف متر مربع، ويحيطها البحر من ثلاث جهات. ومن الأحياء ذات الشهرة التاريخية في الاسكندرية والجديرة بالزيارة ضاحية "أبو قير" التي تقع على بُعد 20 كيلومتراً من قلب المدينة، وسُميت بهذا الاسم نسبة الى القديس بوكير وهو من شهداء العصر الروماني. وكانت أبو قير في الماضي مسرحاً لمعارك بحرية عدة، من أشهرها الموقعة التي تحطم فيها الاسطول الفرنسي على يد الاسطول الانكليزي اثناء حملة بونابرت على مصر. وتم العثور في مياه أبو قير على بقايا سفن حربية فرنسية غارقة. ولمنطقة العلمين التي تبعد عن الاسكندرية نحو 100 كيلومتر غرباً، شهرة عالمية من نوع خاص. فبعد الحرب العالمية الثانية اصبحت العلمين من أشهر المزارات الجنائزية في العالم، إذ يتوافد عليها ألوف السياح من أوروبا لزيارة مقابرها التي دفن فيها عشرات الألوف من الجنود. على هذه الأرض دارت معارك ضارية بين جيوش الحلفاء والفيلق الالماني بقيادة رومل الملقب بثعلب الصحراء، وكانت هزيمة الالمان في هذه المنطقة نقطة تحول أساسية في الحرب العالمية الثانية. في الاسكندرية عشرات المتاحف والحدائق والمتنزهات السياحية التي يصعب حصرها ووصفها، مثل المتحف البحري، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف الاحياء المائية، ومتحف الفنون الجميلة، ومتحف محمود سعيد للفنون التشكيلية، والكنيسة المرقسية، ومعبد القيصرون، ومعبد الرأس السوداء، ومقابر الشاطبي، وحديقة الحيوان، وحديقة الشلالات، وحديقة انطونيادس التي تشبه إلى حد بعيد حدائق فرساي. وتعتبر حدائق المنتزه من أجمل الحدائق العامة في البلاد، وهي تحيط قصر المنتزه الذي كان المقر الصيفي للأسرة المالكة. ويعتبر تحفة معمارية رائعة. وشُيد فوق ربوة عالية تطل على أجمل شاطيء في الطرف الشرقي للمدينة، وسط حديقة كبيرة ذات تنسيق بديع، تبلغ مساحتها نحو 370 فداناً وفتحت حدائق وشواطئ المنتزه أبوابها للجمهور بعد ثورة 23 تموز يوليو سنة 1952. وقبل مغادرة المدينة لا بد من زيارة متحف المجوهرات الملكية، الذي يقع في قصر الأميرة فاطمة الزهراء في منطقة "جليم". وهو يحوي مجموعات نادرة وقيمة من التحف والمجوهرات والأوسمة والنياشين الخاصة بأسرة محمد علي، التي ظلت تحكم مصر قرابة 150 عاماً، واتصفت بالبذخ والثراء. وتقدر قيمة المجوهرات التي يحويها المتحف بمئات الملايين من الدولارات. وعندما نودع الاسكندرية، نودع المدينة التي خلدها كبار الشعراء والفنانين في قصائدهم وأعمالهم، وتغنت بها فيروز ووصفت العيش فيها بالدنيا الهنية والليالي الرضية، تلك المدينة التي لفرط عشق المصريين لها قالوا عنها: "الاسكندرية مارية وترابها زعفران".