الفاشية التي اعتادت ان تمد يدها الى المسدس كلما سمعت كلمة ثقافة ما عادت بحاجة الى مسدسها في زمن العولمة والانفتاح، فكثيراً ما تحول رصاصتها الى وردة. لأن الأجيال الجديدة من الشباب اليميني دخلت الى ثقافة الاستهلاك والعنصرية والضغينة التي تصنعها لها. الشباب الايطالي فئة اجتماعية عريضة تمثل أكثر من 50 في المئة من تعداد السكان يتم تناول مشكلاتها تناولاً سطحياً، وتهمل الكثير من قضاياها، فيتباطأ المسؤولون في ايجاد الحلول الحاسمة للمشكلات الهيكلية والطويلة الأجل، وينظر الى الشباب على انهم مجرد يد عاملة مؤجلة في سوق العمل. لقد عجز المجتمع هنا عن توفير فرص عمل للآلاف من الشباب. ترتب على ذلك مواقف سلبية في الانتماء للوطن، ومن ثم السخط على المجتمع، ناهيك عن الانحراف الذي وجدت فيه رياح التطرف اليميني متنفساً وفرصة. والشبيبة اليمينية الايطالية تضم الآن نسباً كبيرة من الحرفيين والطلبة والفلاحين والموظفين والعمال، يشكلون نسيجاً اجتماعياً وتربوياً وأخلاقياً شديد الهشاشة، حيث يدرب هؤلاء على رفض الآخر المختلف، وتربط بينهم علاقات صداقة وثيقة ذات طابع محلي قبل كل شيء، ويتأثر انتماؤهم الاجتماعي بالبيئة المتداعية للأحياء الفقيرة التي يقيمون فيها، حيث يعيشون على هامش الرخاء، ويشكون من تزايد الهوة بين الفئات الاجتماعية. يشكل المجتمع الاستهلاكي في ايطالياتربة بيئة خصبة لتنظيمات الشبيبة اليمينية بعد ان تعزز دور الأحزاب المتطرفة التي تستوحي ايديولوجيتها من التجربة الفاشية، اضافة الى تغلغل اليمين الجديد في صفوف القوى والأجهزة الرسمية. ولا تزال نزعة الضغينة وعدم التسامح، والتمركز حول الذات القومية على أساس التميز العرقي أو الاثني أو حتى الجغرافي أهل الشمال يكرهون أهل الجنوب ويطلقون عليهم اسم تيّرونى وأهل الشمال والجنوب يكرهون الأجانب من العالم الثالث. الجرائم في الأحياء المعزولة المصابة بالكساد ونموذجها مدينة روما ونابولي وباليرمو، يقترفها غالباً أعضاء التجمعات اليمينية. وحال الخوف التي يسببها تنامي هذه الجرائم لم تقتصر على عامة الناس بل تعدتهم لتصبح هاجس الأوساط الحاكمة البلدية والسياسية والقضائية. في احدى ضواحي روما تور بيلا مونكا يلاحظ المرء ان الأوضاع المتأزمة التي عكست نفسها على الحال المعيشية للمواطنين وخصوصاً الشباب، أدت الى مزيد من التفسخ الاجتماعي والتحلل الأخلاقي الفاضح، وتنامى التيار اليميني من خلال تشكيله بؤراً للعنف تفتح الأبواب أمام الجريمة والتخريب ضد الأفراد أو المؤسسات الخاصة والعامة. الأسر في شكل عام في هذه الضاحية مفككة والأبناء ينسلخون عنها في سن مبكرة قبل ان يبلغوا العشرين. الضاحية الفقيرة تتحول في المساء الى ساحة لنعرات الشر وفورات العنصرية، وتزدحم المقاهي بألعاب الفيديو العنيفة، والقنوات التلفزيونية المخصصة للأفلام حول الجنس والعنف، اضافة الى ممارسة لعب الورق والبلاي ستايشن، والإسراف في تناول الخمور، وتدخين الحشيش، واقتناء الدراجات النارية. الشباب اليمينيون يعانون ظاهرة السمنة والوزن المفرط، نتيجة جلوسهم لساعات طويلة أمام شاشات التلفزة لا تقل عن خمس أو ست يومياً، هم ينظمون عمليات الغزو الليلية على الأحياء الأخرى، كما تنظم هذه الجماعات حملات لسرقة المساكن والمتاجر والأسواق داخل المدن الكبرى. يكتفي هؤلاء الشباب بلبس بنطلونات الجينز ويتعمدون تمزيقها وترقيعها، والأحذية الرياضية الضخمة والقمصان الجلدية، وبدأ معظمهم من كلا الجنسين بتقصير الشعر وتثبيته بواسطة الجيلاتين في شكل عمودي تتخلله بعض الألوان، وتنتشر السلاسل والأساور الحديد على الرقاب والأيدي والأرجل. ويثقب الشباب الأذنين لوضع الحلقات والصلبان المعقوفة أو الأقراط الطويلة، كما توضع الحلقات والدبابيس في الأنوف والشفاه، وبعضها في الألسن والوجنات والجبهات، وتحمل القمصان عبارات بعضها فاضج واحتجاجي. ومع ان هذه التنظيمات والجماعات ضئيلة وهامشية، إذ لا يتجاوز عدد أعضائها أكثر من 3000 عنصر من حليقي الرأس تتراوح أعمارهم بين 16 و26 سنة، غير انها أقلية بالغة العنف والشراسة. وهذه التنظيمات مستقلة لا تنضوي تحت راية الأحزاب اليمينية المتطرفة، الا ان هذا لا ينفي التماثل في التوجهات الفكرية والسياسية والتقارب في الأهداف. ولا توجد هذه التجمعات في أحياء المدن المعروفة بهيمنة القوى اليسارية وخاصة جماعات المراكز الاجتماعية "مناهضو العولمة" مخافة اقتحام مقراتهم وضربهم، لأن بين الطرفين حرباً معلنة تكاد تندلع. ففي حي سان لورينسو الشعبي القريب من جامعة لاسابينسا المعرفة ومن محطة القطار الرئيسية تيرميني والذي تهيمن عليه قوى اليسار، لا توجد تجمعات يمينية الا تحت واجهة نوادٍ رياضية مقفلة الأبواب، محددة العدد ولا تفصح عن أهدافها وشعاراتها، وحين يتنقل الشباب اليمينيون في شكل جماعات، يتسلحون بالسكاكين الصغيرة والتلفونات المحمولة خوفاً من مداهمتهم من جماعات المراكز الاجتماعية النشطة. وعادة ما يتجول أعضاء هذه المجموعات في النهار في مراكز المدن لاصطياد فريستهم التي تكون عادة من المهاجرين الأجانب كالباعة المتجولين. وتسعى تجمعات اليمين للترويج لما يسمى ثقافة التطرف بين الشباب من خلال الرحلات الشهيرة الى ملاعب كرة القدم والتي يتم فيها حرق الرايات وانشاد أغاني التفوق العنصري وممارسة الاعتداءات على المجموعات الأخرى. وفي الآونة الأخيرة بدأوا الاهتمام بإقامة الحفلات الموسيقية الصغيرة الصاخبة كما حدث قبل أيام في مدينة بريباديو الشمالية التي ولد فيها موسوليني ولمناسبة ذكرى وفاته السابعة والخمسين، حيث اصطفت اعداد كبيرة من الشباب وهم يرتدون ما يشبه الزي الموحد يتشكل من قميص أسود وبنطلون أسود، أما الوجوه الغضة الشابة، فقد تحولت الى خرائط من الأصباغ والنقوش والرموز المبهمة، وينطلق الصراخ لينتفض جمهور القاعة مع أغنيات الفرقة وعنف الموسيقى الصاخبة بأغنيات فاشية معروفة يرددونها في محافلهم وفي ملاعب كرة القدم. في مقرات التجمعات الشبابية الأنيقة وفي أروقة الجامعات والمعاهد ألصقت صور على الجدران لقادة يمينيين الى جانب أعلامهم ومقولاتهم وحكمهم الدموية اضربهم حتى تنزف دماؤهم. ولا تشفق عليهم. إذا عطسوا في المترو انزع فكوكهم من أمكنتها.