نجح جان ماري لوبن في الوصول الى منافسة جاك شيراك على رئاسة الجمهورية الفرنسية - وهو من المعروفين بكراهيته للعرب، وبممارسة التحريض اليميني المتطرف - ضدهم بعد نجاحه في الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 21 نيسان ابريل. لقد هزّ احتمال وصول لوبن الى رئاسة الجمهورية الفرنسية اوروبا الغربية الديموقراطية حتى النخاع الشوكي، وما زالت فرنسا تحاول ان تتأقلم مع ما يحمل هذا الزلزال السياسي الداخلي من معان، وما قد يسببه لها من اذى يلحق بسمعتها الدولية. كان لوبن شخصية هامشية يفتقر الى الصدقية، ولم يكن له وزن كبير في الحياة السياسية الفرنسية لعشرات السنوات. لقد وفّرت له مشاعره العنصرية الفاضحة، وخطابه السياسي الفاشي، التفاف عدد من الاتباع، من ذوي الميول العنصرية المتطرفة حوله، ولكنه بقي شخصية مكروهة مرذولة تستجلب الادانة والشجب. ومهما يكن من أمر فإن الاختراق الذي احدثه في المشهد السياسي الفرنسي، في الواحد والعشرين من نيسان، موعد الدورة الاولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، قد ارتفع به الى مركز الثقل في الصراع السياسي الفرنسي، وجعل منه نجم استقطاب لا يمكن تجاهله او الالتفاف عليه. كان ترتيبه، في عدد الاصوات، الثاني بعد الرئيس جاك شيراك، وقد نجح في اسقاط رئيس الوزراء ليونيل جوسبان وابعاده نهائياً عن حلبة السباق على الرئاسة. ليس من المحتمل ان يدخل لوبن قصر الاليزيه، مهما كانت التطورات والمفاجآت، ولكن صعوده الدراماتيكي الى مركز الصدارة السياسية طرح اشكالاً خطيراً يربك اوروبا بأسرها، ومما يفاقم الامور انه لا يوجد بين الزعماء السياسيين الاوروبيين ولا بين قادة الاحزاب السياسية، من هو على استعداد لمواجهته بنزاهة، او معالجته بمهارة. هذا الاشكال هو وضع المهاجرين الذين يتدفقون على اوروبا، وله بعدان: الاول، ان عدداً كبيراً من المهاجرين - اكراد، اتراك، افارقة سود، آسيويين من شبه القارة الهندية، وعرب من شمال اوروبا - قد دخل اوروبا اما بطريقة شرعية او بطريقة غير شرعية، آملين بأن يحصلوا على مستوى حياة يتعذّر عليهم تحصيله في بلادهم. الثاني، ان الحكومات الاوروبية لم تنجح في ادماج هؤلاء المهاجرين في الحياة الاوروبية التي بقيت غريبة عليهم وعلى مختلف الاصعدة الاجتماعية والثقافية والديانية. وكان من نتيجة هذا الوضع ان تشكلت من جهة طبقة رثة، حاقدة، ومتمردة من المهاجرين وأولادهم، تعاني من البطالة وتدني مستوى التربية والاسكان، وتشكلت من جهة اخرى لدى عن السكان "البيض" الذين ينتمون الى الطبقة العاملة في الضواحي احقاد وضغائن ضد المهاجرين ليس من السهل تذويبها. وقد ولّد هذا المزج "الاعتباطي" بين المهاجرين الغرباء والسكان الفقراء الاصليين وضعاً متفجراً، وتحولت ضواحي المدن الاوروبية الى ساحات تتحكم بها العصابات، ولا يجرؤ البوليس على دخولها، ويسودها "الفلتان الامني". استيراد العنف الشرق - الاوسطي الى اوروبا اصبح هذا الاشكال اكثر حدة هذا العام لانه ارتبط في اذهان الناس بتفاقم موجات العنف، والجرائم في المدن الاوروبية، واتهام المهاجرين الغرباء، ظلماً، بأنهم المسؤولون عنها. يبدو جلياً ان الاوروبيين - من كل الطبقات والاجيال والمستويات الاقتصادية - بدأوا يتضايقون من استيراد الصراعات العربية والاسلامية الى قارتهم. وقد حفل العام المنصرم بعدد من الاحداث المثيرة و"المزعجة". ** بعد الهجوم الارهابي على الولاياتالمتحدة في الحادي عشر من ايلول سبتمبر اصيب الاوروبيون بالهلع حينما اكتشفوا ان الناشطين الاسلاميين في هامبورغ ولندن ومدريد ومدن اوروبية اخرى قد شكلوا خلايا سرية وخططوا للقيام بعمليات ارهابية، انطلاقاً من الاراضي الاوروبية ضد بعض الاهداف الاوروبية. ** تسبب اعتداء شارون المشين على المدن والمخيمات الفلسطينية في قيام تظاهرات مناصرة للفلسطينيين، وتظاهرات مضادة مناصرة لاسرائيل في كثير من المدن الاوروبية، خصوصاً في باريس، وقد انتهى بعض هذه التظاهرات بصدامات واعتداءات على الممتلكات، واكثر ما لفت الانظار الاعمال العدوانية التي اقدمت عليها عصابات "البيتار" الصهيونية، المسلحة بالعصي والقضبان الحديد. ** وقد اثار مخاوف الرأي العام الاوروبي العنف المزعوم انه "معاد للسامية" الذي اجتاح اوروبا الغربية في الاسابيع الاخيرة. وافاد المؤتمر اليهودي العالمي الذي اجتمع في بروكسيل الثلثاء الماضي ان ما لا يقل عن 300 حادث اعتداء ضد اليهود سجل في الاسابيع الثلاثة الماضية، تراوح بين الاعتداء بالقنابل الحارقة على الكنس اليهودية، والتحرش بالحاخامات وطلاب المدارس اليهود، الى "طرش" البنايات والمساكن اليهودية بالشعارات المعادية. وكان مما اثار الرأي العام الالماني، بشكل خاص، مقتل اكثر من اثني عشر سائحاً المانياً في تونس، في حادثة اعتداء على كنيس يهودي قديم في جزيرة جربة، اثر انفجار قنبلة في شاحنة بالقرب من الكنيس. هذه الاحداث، وما رافقها من انتشار الشعور بانعدام الامن، يمكن ان تفسر "الشعبية" التي استحوذ عليها رجل مثل لوبن في انتخابات الرئاسة الفرنسية. ان برنامجه السياسي يستهدف اثارة "أخس المخاوف والتحاملات الفرنسية ضد الغرباء". انه يجاهر بأنه سيطرد كل المهاجرين الذين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، وسيحرم الغرباء من كل فوائد الضمان الاجتماعي، وسيفتح 200 ألف مكان جديد في السجون الفرنسية، وسيسعى الى ارضاء المغبونين والمحرومين من الامتيازات، والعمال اليدويين، واصحاب الدكاكين الصغيرة الذين تثقلهم الضرائب والتعقيدات البيروقراطية، والعاطلين عن العمل الذين تولد عندهم اليقين بأن "الغرباء والمهاجرين قد صادروا وظائفهم وفرص العمل المتوافرة لهم". وبالاضافة الى هذا كله فان لوبن هو وطني فرنسي متعصّب معاد للأوربة، وللأمركة، وللعولمة، ولطغيان الشركات الكبرى المتعددة الجنسية. انه يعارض بشدة الحركات التي تطالب بالفيديرالية الاوروبية، ويكره السلطات الكبيرة الممنوحة ل"بيروقراطية بروكسيل". انه يريد ان يحرّر فرنسا من الاتحاد الاوروبي، وان يلغي اليورو، وان يعيد التعامل بالفرنك، وان يضاعف موازنة الدفاع. انه يريد ايضاً ارجاع القيود الجمركية، وتخفيف الضرائب، والغاء السماح بالاجهاض، والحكم على الشذوذ الجنسي بقسوة واعتباره جرماً اخلاقياً فادحاً، كما يريد ان يشجع النساء الفرنسيات على البقاء في المنازل والاكثار من الاولاد. وقد صرح اخيراً انه يفضل ان "يقتصر الفريق الوطني لكرة القدم على اللاعبين البيض". بكلمة مختصرة: "تحيا فرنسا، والى الجحيم بكل هؤلاء الغرباء من مختلف الالوان والانتماءات!". ليس لوبن سوى نموذج يجسد الانزلاق الاوروبي الكبير نحو اليمين: فلقد ظهر في عدد من البلدان الاوروبية الاخرى زعماء قوميون وشعوبيون ومعادون للهجرة: ففي النمسا هناك يورغ هايدر وحزب الحرية، وفي ايطاليا هناك امبرتو بوسي والرابطة الشمالية، وفي الدنمارك هناك بيا كيرغارد وحزب الشعب الذي يترأسه، وحتى في هولندا المعروفة بتسامحها احرز الزعيم اليميني بيم فورتين 36 في المئة من الاصوات في مدينة روتردام، وهو مرشح لان يحسّن وضعه في الانتخابات القادمة التي ستجري في 15 ايار مايو. وقد هزمت الحكومة الاشتراكية التي يرأسها انطونيو غوتيريس في البرتغال وفاز عليها ائتلاف الوسط اليميني الشعبوي الذي وعد بحل اشكال الهجرة، في حين ان ائتلاف مستشار المانيا شرودر المشكّل من الديموقراطيين الاجتماعيين والخضر سيجابه تحديات اليميني ادموند شتويبر في انتخابات ايلول سبتمبر القادمة. الحاجة الى رد فعل عربي يتوجب على الزعماء العرب، وعلى المثقفين العرب ايضاً، ان ينتهبوا جيداً وأن يدرسوا هذه الظاهرة الخطيرة التي تجتاح اوروبا هذه الايام وان يعملوا كل ما في وسعهم لايقافها والحد من اضرارها. ان ارتفاع عدد المهاجرين العرب الذين يفتشون عن حياة كريمة، وتدفقهم الى اوروبا من العالم العربي شاهد على اخفاق النظم العربية الاقتصادية وعلى سيادة القمع السياسي في المجتمعات العربية. والعرب بأمسّ الحاجة الى المساهمة بجدية وايجابية في الحوارات التي تجري اليوم في اوروبا، والتي تبحث في اوضاعهم وتعنيهم مباشرة. ما السبل الى خلق مجتمعات متعددة الثقافات الاصيلة؟ ما هو افضل حل لتحقيق ادماج العرب والمسلمين في المجتمع الغربي المعاصر؟ هذه بعض الموضوعات التي تصلح للمناقشة والحوار والبحث. وعلى العرب ان يفكروا ملياً، ويساهموا في حوارات اخرى لا تقل اهمية، لعل اكثرها الحاحاً النموذج المفضّل الذي تختاره اوروبا لتحقيق وحدتها واندماجها؟ هل تسعى اوروبا الى اقامة ولايات متحدة اوروبية ام انها ستبقى تجمعاً رخواً من دول قومية تحافظ على سيادتها؟ ما هي الاصلاحات الدستورية الجوهرية التي ستجريها اوروبا في المستقبل القريب على انظمتها الحالية؟ هل ستكون القرارات مركزية، أم انها ستبقى موزعة ومن صلاحيات الدول المختلفة؟ وهل تحتاج الديموقراطية الاوروبية الى تنشيط القواعد أم أنها ستبقى محصورة في القيادات؟ ان الساسة والمفكرين الاوروبيين مشغولون ومنهمكون بهذه الاسئلة، اليوم اكثر من اي وقت مضى، بسبب صعود رجال من أمثال لوبن، وما يحمله هذا الصعود من دلالات تكشف ضعف البنيان السياسي الحالي وتراخيه، واحتمال سيادة التيار اليميني العنصري في قمة الهرم الحاكم. يقع العالم العربي على بوابة اوروبا، وقد شاء القدر ان يتعايش الاثنان معاً، وان تتشابك مصالحهما الحيوية، ولا مجال للفصام او الانفصال. متى سيشعر العرب بالحاجة الى القيام بحملة اعلامية وثقافية حيوية للتعريف بقضاياهم، والدفاع عن مصالحهم على امتداد الساحة الاوروبية؟ متى سيبادر كبار رجال الاعمال العرب الى تمويل الدراسات العربية، وتخصيص كراسٍ ثابتة لها في الجامعات الاوروبية؟ متى ستنظم الزيارات العلمية بين الاساتذة والطلاب، ويجدول مواعيد اقامة المعارض الاثرية والفنية، مما يساعد الحكومات الاوروبية ومراكز الدراسات على تحقيق اندماج المهاجرين العرب والمسلمين في نسيج المجتمع الاوروبي المعاصر؟ واقع الحال ان شيئاً من هذا كله قد تحقق، ولكنه لا يكفي، وما لم تتضافر كل الجهود لمواجهة الواقع الراهن بسرعة، فسيبقى العرب في اوروبا فريسة للتجاهل، وعدم التسامح والكراهية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.