أمطار متوسطة إلى غزيرة على 4 مناطق    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    البليهي: مشكلة الاتحاد انه واجه الهلال وكل المدافعين في اتم الجاهزية    وزير الاتصالات: بدعم ولي العهد.. المملكة تقود أعظم قصة في القرن ال 21 في الشمولية وتمكين المرأة    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    غزة.. الاحتلال يبيد العائلات    أمريكا: نحذر من انهيار البنوك الفلسطينية    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    الهلال يكسب الاتحاد بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    خادم الحرمين لملك البحرين: نعزيكم في وفاة خالد آل خليفة    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    للأسبوع الثاني.. النفط يواصل صعوده    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    "طويق" تحصل على شهادة الآيزو في نظام الجودة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    أحلامنا مشروع وطن    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    لعبة الاستعمار الجديد.. !    فأر يجبر طائرة على الهبوط    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    نسخة سينمائية من «يوتيوب» بأجهزة التلفزيون    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    يوم مجيد لوطن جميل    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    مسيرة أمجاد التاريخ    الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل".. الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل"    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أن تتصرف الزوجة كأنها أمة، وأن تتصرف الأمة كأنها زوجة . قضية هيلاري كلينتون : أي شخص ، وأي دور ؟
نشر في الحياة يوم 23 - 08 - 1998

في المسلسل الأميركي الطويل تكثر الأسماء: مونيكا لوينسكي وكينيث ستار وبولا جونز وجنيفر فلاورز و... بيل كلينتون. هؤلاء جميعاً "قضاياهم" معلنة وصريحة. صاحبة القضية المخفيّة اسمها هيلاري كلينتون. ماذا تريد؟ ماذا تفعل؟ ماذا تخطط؟ ولماذا؟
ولأن العام في هيلاري يتداخل بالشخصي "الخفي"، فإن متابعتها تستجيب رغبةً في الثرثرة، وفي الاشاعة، وفي التلصص، وهي كلها وجدت في عصر الحداثة التقنية الرفيعة ما يغذّيها.
لكن "قضية هيلاري" أبعد من هذا. انها تبدأ بالسؤال: لماذا يكرهون هيلاري؟ فكراهيتها، بحسب البعض، غدت ظاهرة نفسية، او هذا ما يبدو عليه حال اليمين معها. ففي احد مؤتمرات الجمهوريين بيعت دميةٌ بعشرين دولاراً يمكن فصل يديها وقدميها ورأسها عن باقي الجسم ورميها بعيداً. يمكن فعل اي شيء بها قطعةً قطعة. الدمية هي هيلاري. الرغبات حيالها واضحة.
برامج الدردشات التلفزيونية تعج بكلام بذيء ومبتذل عن "هيلاري السحاقية" و"هيلاري التي تتعاطى المخدرات". التحليلات التآمرية في ما خص "علاقتها" بالمنتحر فنسنت فوستر لم تتوقف: العلاقة الموصوفة تتفاوت بين كونها "عشيقته" وكونها "قاتلته". بعض المسرحيات الشعبية يقدمها "ساحرة" والبعض يقدمها "عاهرة". ويسلي برودهان، وهو معلق سياسي يميني في "الواشنطن تايمز"، أفتى بوجوب السماح لبيل كلينتون بأية علاقة نسائية يشاء لأن "الشيطان الذي في السيدة هيلاري جعله يفعل هذا".
فكرة السحر، خصوصاً، تتغذى من أن الزوجة تدفع زوجها الى تنفيذ أغراضها الراديكالية والمتطرفة: هو لا أحد، لا شيء. هي القديرة، العارفة، المخططة. هو عكس المبادىء. هي المبدئية. هو أضعف رئيس منذ هاردنغ. إذن هي وجماعتها الراديكالية يحكمون من وراء ظهره.
هيلاري، بحسب كاتب سيرتها اليميني ديفيد بروك، وعنوان كتابه ذو دلالة: "اغراء هيلاري رودام"، تزوجت "الرعاع" فعلياً و"أغرت" الذي تزوجته: بيل. لكنها حين كانت "تعمل" في مكتب روز للمحاماة، كانت في الحقيقة تعمل في "المراكز والمؤسسات اليسارية والراديكالية". كانت تبث سمّها بالمعنى الذي يصف فيه اللاساميون "مؤامرات اليهود". انها ليست فقط حليفة الشيوعيين والليبراليين ممن يعتبرونها "قطباً من أقطابهم"، بل أيضاً نصيرة متحمسة ل"الفهود السود". هكذا فان انجراف بيل، اللاأخلاقي والتافه والعديم المعنى، الى مِتَعه هو نعمة مُقنّعة على الأميركان: انه يلهي هيلاري قليلاً عن توجيه شرورها كلها اليهم.
تمسكها، بعد زواجها، باسمها العائلي: رودام، كان سبباً لشتمها عند بعض الذين تناولوا تاريخها الشخصي. وحين تخلت عن اسمها انطلقت حملة تشنيع بها، إن لم يكن من الأشخاص أنفسهم فمن بيئتهم اياها. مقالاتها عن حقوق الطفل استخدمها الكاهن بات روبرتسون وآخرون من اليمين المسيحي المتطرف ليُظهروا أنها دافعت عن حق الأبناء في الاجهاض من دون مشورة أهلهم. ولهيلاري، بالطبع، رأيها في هذا الموضوع، وهو أنها تعلمت من تجربتها في نيو هايفن أن "الأهل يريدون الاجهاض لبناتهم لكي يجنّبوا أنفسهم العار أو الذل أو الحرج".
"ذي سبكتاتور" المحافظة جداً قدمتها بصفتها ليدي ماكبث. ريتشارد نيكسون قال عنها: "اذا ظهرت المرأة قوية جداً وذكية جداً، فانها تجعل الزوج يبدو مثل...". صحافيو مستنقعات الفضول الجنسي والحذلقة القانونية اهملوا القضايا العامة المهمة، ليوجهوا سهامهم الى هيلاري. والدة رئيس المجلس نيوت غينغريتش، الفخورة طبعاً بابنها الفذ، قالت عنها انها "عاهرة"، وقد قالت ذلك للتلفزيون. مؤسسة جمهورية لاستقصاء الرأي العام اعتبرتها ذات فائدة للنساء اللائي تتراوح اعمارهن بين ال18 وال34، الا انها عبء على كل من عداهن.
حملات قاسية ودنيئة هبّت على العهد من مؤيدي قتل السود بلا محاكمة، وانصار الاعدام، والمعادين للضمان الصحي، والمحيطين بلوبيات السجائر. الكثيرون يقولون ان هيلاري هي التي يستهدفها حلف السُقاطات هذا، أما زوجها فتم استهدافه لمجرد أنه النقطة الرخوة في جبهتها. فهي المرشحة الفعلية المقبلة لرئاسة الجمهورية:
حين ذهبت الشهر الماضي الى سينيكا فولز، لتتحدث عن قضايا النساء، استقبلتها شعارات مكتوبة تقول: "هيلاري للرئاسة". اذن المطلوب اعاقتهما، هي وزوجها، كي لا ينجزا شيئاً خلال ما تبقى من الولاية الثانية. لكن المطلوب بالدرجة الأولى هو منع هيلاري من أن تصبح السيد الأول!
بيل أتفه، كما يقال، من أن تتشكل جبهة لمحاربته. هو ليس بالايديولوجي ولا حتى ذاك المتماسك في أي شيء. موقفه من المثليين في الجيش مجرد مَثَل. تنازله للجيش كان اشارة الى تحرك الكونغرس ضده. يريد ارضاء الجميع فلا يفعل شيئاً. يقارب البكاء في طلب الرضا. وكم هو صعب على شخص كهذا ان يجد نفسه مكروها الى هذا الحد، وكم هو غير مألوف في الآخرين أن يكرهوه بدل ان يحتقروه!
صحيح أنه لم يقاتل في فييتنام، وأنه "ستيني" بمعنى ما، وأنه تعاطى الماريغوانا، الا انه حضر عملية اعدام عشية انتخابه للولاية الرئاسية الأولى، فشارك في كرنفال وحشي ليسترضي كرنفاليي الوحشية. انه، بذاته، لا يثير المخاوف. ثم أن عادية الظرف وازدهاره الاقتصادي يزيدان في استبعاد الصراع معه: فالحديث عن "ديكتاتورية روزفلت" كان يلزمه كساد و"نيو ديل"، ووصف جونسون، من الطرف الآخر، بأنه "قاتل الاولاد" استدعته حرب فييتنام. فأي مصيبة، سوى هيلاري، تصحب كلينتون؟
النسوية والرئاسة:
عنصران من دونهما ما كانت السيدة الأميركية الأولى لتثير كل تلك الكراهية. الأول، انها تعبير عن صعود النسوية في المجتمعات الحديثة: النساء بدأن ينافسن الرجال ويتفوقن عليهن في ميادين كثيرة من التعليم الى الاقتصاد والمهن، فلماذا لا يحصل الأمر نفسه في السياسة، وفي ذروتها الأعلى: رئاسة الجمهورية؟ صحيح أن هيلاري صعدت، عبر زوجها، ومن خلاله، لكن الدعابة الشائعة تولّت ايضاح تعقيدات العلاقة. فهي كانت، بحسب الدعابة، كفيلةً بجعل أي زوج تقترن به... رئيساً للجمهورية. البرهان أنها أوصلت بيل!
امرأةٌ قوية زاد تسليطَ الأضواء على قوتها ضعفُ زوجها وتخلّعه. هذا ما رفد حسَ المؤامرة بمادة وفيرة: انها تختبىء وراءه، وتنفّذ أجندتها الشريرة.
وما زاد في استغراب نفوذ السيدة الاولى انها لا تملك منصباً أو لقباً ولا يُصرف لها معاش. وأن تكون امرأةٌ ما سيدةً أولى فهذا لا يعدو كونه شأناً احتفالياً بحتاً، فلتشكرْ صاحبته الرب لأن أحد عباده الصالحين من الرجال اقترن بها وصار رئيساً للجمهورية. لتفرح كثيراً وتصمت، فلا تتوهم لنفسها الدور الذي هو حصة الآخرين: الذكور وحدهم.
والصعود، حيث لا يُتَوقع الصعود، لا يفعل سوى احاطة صاحبه صاحبته بالألغاز والسحر. إذ، كما يقول الأشد تخلفاً في اليمين الأميركي من أصحاب "الأعناق الحمر"، ماذا تفعل رئيسة الجمهورية حين تلم بها العادة الشهرية؟
لكن العنصر الثاني يوضح باقي القصة، أو يوضح درجة الحدة فيها: فالصعود هو في اتجاه... البيت الأبيض. وقد سبق لإليانور روزفلت ان صاغت بدقة وظيفة السيدة الأولى، أو بالأحرى زوجة الرئيس، اذا ما آثرت لنفسها السلامة: "دائماً احضري في الوقت اللازم. لا تحاولي ابداً اقامة صِلات شخصية خاصة بك. تحدثي اقل ما يمكن ان يتحدثه بشري. لا تدعي اي شيء يثير انزعاجك. دائماً افعلي ما يُطلب اليك ان تفعليه وبأسرع ما يمكن. تذكري ان تقفي في الاحتفالات في مكان غير متصدّر، بحيث يستطيع الناس ان يروا زوجك. لا تسمني كثيراً بحيث تجلسون ثلاثةً على مقعد واحد. ابتعدي عن الأنظار بالسرعة التي لا يعود أحد فيها بحاجة اليك".
زوجة الرئيس عليها، اذن، ان تجسد اكثر التصورات محافظةً بالنسبة الى المرأة. النسوية ليست سكيناً صالحاً لقطع زبدة البيت الأبيض. عملها يتوقف هنا. فالرئيس، في اميركا، يمثل الشخصية الجماعية وثباتها واستقرارها، فلا ينبغي ان يدخل الاضطراب على صورته صورتنا من خلاله عبر زوجته. وهيلاري، بالعلاقات المهنية والسياسية الكثيرة التي بنتها في حياتها، حملت معها الى البيت الأبيض "جماعتها" التي كثيراً ما تصطدم ب"جماعة" الرئيس. انها لم تعمل بالنصيحة الساخرة لاليانور، ولم تسلك مسلك بعض زوجات الرؤساء اللواتي يختبئن وراء الزوج ويمارسن تأثيرهن، كما كانت تفعل نانسي ريغان، مثلاً. كانت تقول ها أنذا. ميلها التوكيدي وطباعها الحادة زادا في رفضها. وهذا جميعاً يبث في صورة ضعضعةً وقابلية للانقسام.
رئاسة الجمهورية، في اميركا، حالة ثبوتية ناجزة: الرئيس ذَكَر، ابيض، متزوج، بروتستانتي، ينتمي الى طبقة تقع بين وسط الهرم الاجتماعي واعلاه، لديه اولاد وكلاب. الاستثناءات تؤكد القاعدة: عازب واحد بوكانان، وكاثوليكي واحد كينيدي، ومطلق واحد لكنه عاد وتزوج ريغان، بل تزوج جداً وأراد تزويج الناس جميعاً. لا امرأة، لا يهودي، لا أسود، لا فقير في البيت الأبيض. لا ثاتشر او انديرا او غولدا او باندرانيكه. ولا مكان لرئيس حكومة يكسر النمط، أو يخففه، لأن الرئيس الاميركي هو رئيس حكومته أيضاً.
البيت الابيض هو، بالتالي، احد المواقع القليلة في الحياة الحديثة حيث لا يزال يُعتبر خضوع المرأة لزوجها ولمتطلبات مهنته واجباً، لا بل ارفع الواجبات. ونساء الرؤساء معظمهن، إن لم يكن كلهن، وصلن اليه بموجب تصورات صنعها وحددها الزوج. كان عليهن ان يتبنين مشروع الزوج وحسب. اما هيلاري فلديها في ذاك البيت، وفي الحزب الديموقراطي، اصدقاؤها الخاصون بها ممن يعدون امتداداً لروبرت كينيدي ودائرته وخطه. هم متميزون حتى ايديولوجياً: اشد اهتماماً بمسائل الفقر والعرقية. كذلك لديها حليفاتها النسويات اللواتي لا يترك ظهورهن الى الواجهة على اليمينيين الا ما يتركه الصليب على دراكيولا حين يتراءى له في الليل.
شخص السيدة الأولى
لا تكفي السياسة والنسوية تفسيراً. ينبغي العودة الى شخص هيلاري الذي زاد في كرهها.
مظهرها يدل على أننا أمام "سيدة حديد" من نوع آخر. ألوان ثيابها الزرقاء خصوصاً وقصّاتها التقليدية تذكّر بثياب مارغريت ثاتشر وألوانها. أحياناً تلبس بنطلوناً وفوقه سترة لصيقة بالجسم منتصبة الكتفين ولا تَهدّل فيها كأنها بزة عسكرية. مقتصدة هي في تعبيراتها، وغالباً ما تساعدها النظارات على اخفاء التعبير كلياً. نظراتها كثيراً ما تبدو متعالية ومتشاوفة، صادرة عن امرأة انجازية، بل رواقية، لا الفرح يعنيها ولا الترح، سائقها الوحيد التأهب للمسؤولية.
هي احيانا مثل المعلمات، جامدة وخشبية، تذهب مباشرةً الى الصائب والحكيم. مشيتها الواثقة لا تطرد عنها صورة الحسم والحزم، بل تقطع بهما. الجد الزائد هنا يخرجها عن "حكمة" نانسي، وعن "دفء" بربارا، وعن "ورع" روزالين، وطبعاً عن "جمال وسحر" جاكلين، ليضعها في المكان المتقدم والفعلي لمنافسة الرجال. وهذا له مقدماته.
أبوها هيو رودام. قاس وبخيل وكمالي ومتطلب وسريع الغضب. أرادت، طفلةً، الحصول على حبه وقبوله فتماهت، بحسب البعض، مع "القوي المعتدي" الذي فيه. حين عادت اليه ذات مرة بعلامات مدرسية كلها ممتازة، قال: "لا بد انها مدرسة سيئة جداً". عمله مدرباً لمتطوعي البحرية في الحرب الثانية، ضاعف عسكرة البيت الذي ولدت فيه هيلاري. بعد ذاك غدا رجل أعمال ناجحاً ما جعله ينقل عائلته، في شيكاغو، الى ضاحية بارك ريدج الغنية، وذلك بعد ثلاث سنوات على ولادتها. تغيرت أوضاعه ولم يتغير بخله: كان يعطّل جهاز التسخين في البيت وقت النوم، ما فسّره بعض المحللين بابقاء العائلة عند سوية الانشغال بالأساسيات. اذن: لا فرار من الواجب، ولا راحة من المسؤولية حتى في الليل، ومن ثم لا مكان للأحلام.
الوالد كان دائماً "على صواب"، وحياة العائلة غدت كلها جداً لا مزاح فيه ولا لعب. الأم دوروثي رودام كانت قاسية أيضاً، لكنها بلا وظيفة أو دور. ربما احتقرتها ابنتها، وربما زادها تعلقاً ب "أيديولوجية أبيها" أن أمها تردد أفكاره ولا تكف هي نفسها عن استعارة ايديولوجيته تلك: حين عادت هيلاري ذات مرة الى البيت، هاربة من "فتاة بغيضة" ضربتها، قالت الأم: "لا مكان في هذا البيت للجبناء". رجعت هيلاري الى مواجهة خصمتها وتغلبت عليها، فاكتسبت... الاحترام.
هيلاري رودام المولودة في 26 تشرين الأول أكتوبر 1947 في شيكاغو، تربّت في أسرة جمهورية الهوى والميل. لكن تأثيراً مبكراً على حياتها حمله اليها راعي الكنيسة الذي نظّم ذات مرة لقاء بين بعض رعيته ومارتن لوثر كينغ. لقد حضّها على الاحتكاك بالناس جميعاً، خصوصاً اذا ما كانوا من أعراق أخرى، ونقل اليها حب الفقراء والأطفال، وكره العنصرية.
الهم العام انضاف الى الانجازية، ومذاك راح البعدان يندمجان: حين تخرجت هيلاري من الثانوية في 1965، كانت بين افضل طلاب صفها. انتسبت الى كلية ولسلي في ماساشوستس. مادتها الاساسية كانت العلوم السياسية، كما نشطت بين الجمهوريين الشبان. ميولها السياسية تعرضت لانعطافة كبرى في اواخر الستينات مع اغتيال مالكولم اكس ولوثر كينغ والسناتور روبرت كينيدي. وهذا الى جانب العنف الذي عاينته خارج المؤتمر الوطني الديموقراطي عام 1968، ذكّرها بتعاليم استاذها القديم وقذف بها نحو الديموقراطيين. صارت قيادية طلابية فضلاً عن تفوقها الدراسي. عملت على تسهيل دخول اعداد اكبر من السود الى ولسلي، وكتبت اطروحتها عن الفقر والتنمية المدينية، كما تسجلت في مدرسة القانون في يال حيث التقت اشخاصا افادوها في حياتها المهنية اللاحقة.
التأثير "اليساري" الذي حمله القس، غاير التأثير "اليميني" للأهل، الا أنه التقى معه عند نقطة المسؤولية: هنا المسؤولية حيال الضعفاء.
مسؤوليتها حيال شخصها تمثلت في النجاحات المدرسية وفي ان مجلة National Law Journal سمّتها مرتين واحدةً بين ابرز مئة محام في البلاد.
مسؤوليتها في الحقل العام تجسدت في عشرات النشاطات والمشاريع المتعلقة بالأطفال والفقراء والمرضى.
دور بيل
زوجها الذي اقترنت به في 1975، لم ينجح في مخاطبة أي من حسي المسؤولية: انه الفجيعة بالأب. بعض صورها القليلة التي تبدو ناظرة اليه بحب، وهو في مكان أعلى منها، توحي بمحاولة استعادة فاشلة طبعاً لما أرادته أن يكون. هو، منذ البداية، اعلن انه لا يفهم بشؤون المال، وعليها هي ترتيب هذا الأمر، على ما دلت تحقيقات وايتووتر. بعد ذلك كرّت سبحة التنازلات عن السلطات: منه اليها، وكرت سبحة الفضائح التي يمكن الافتراض معها باستحالة أي تعامل معه كشخص على شيء من الصلابة والمعنى.
في المقابل فحبه ارضاءَ الجميع، وتوفيقه الكلي بينهم، يجعل من المستحيل التعويل على انحيازه للذين انحازت اليهم هيلاري. تراجعه عن بعض البرامج الأقل وسطية يؤكد ذلك. دعمه الاتفاقات التجارية الدولية، التي عارضتها النقابات، وجهوده للحد من نمو الانفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية، مثلاً، حولا الحزب الديموقراطي الى "يمين" لا تستسيغه دائماً هيلاري، وإن تقبّلت الكثير من طروحاته.
أغلب الظن أن الزوجة أحست بقدر بعيد من الاحتقار للزوج، وهو احتقار يغلّب فيها بعض استعداداتها الأصلية: المزيد مما هو "مسؤول" و"إنجازي" على حساب ما هو "شخصي" و"جنسي". فاذا كانت العلاقة بين الجنسين على هذا النحو وفي هذا المستوى، على ما تدل مغامرات زوجها، فلتكن العلاقة مع الرجال لاجنسية، اي ليس بوصفهم رجالاً. وإذا كان بيل لا يأتيها الا بالمفاجأة بعد الأخرى، فإخفاء التعبير يصير امتيازاً، اذ باختفائه يختفي قدر كبير ومتواصل من الاندهاش والحرج.
ثم ان بيل عفوي وطائش وأحياناً أحمق، ما استدعى ذهابها في الوجهة المقابلة، وجهة السيطرة وقمع العفوية. كلما أرخى كان عليها أن تشد، وهو يرخي دائماً فتشد دائماً. لقد بدأت آلةً، والآلات لا تكابد. وبدورها فالمبالغة في اخفاء التعبير، وفي الآلية، كرّست، عند خصومها، صورتها كساحرة أو كمسكونة بشيطان.
لحظات المقارنة المباشرة به لم تفعل الا تغذية المنحى هذا: حين توجهت الى أركنساس لتعلّم الى جانب بيل، اعتبر كثيرون من أصدقائها أنها تضحي بمواهبها. وحين حاول اهل احد الأحياء المحافظة في اركنساس اغلاق كومونة مجاورة أنشأتها الشبيبة، دافعت هيلاري عن الكومونة، ولم يُسمع صوت زوجها في قضية أهل ولايته. وحين ترشح بيل ليكون مدعيا عاما كان لا يزال يسدد قروض دراسته، اما هيلاري فكانت تربح اكثر بكثير من ال35 الف دولار سنويا التي تقاضاها في وظيفته الجديدة. كتابها "انها تستدعي قرية" سجل نجاحاً تجارياً منقطعاً. كتابه الذي هو تجميع مقالاتٍ، كان فشلاً مالياً بحتاً.
وبيل، بعد كل حساب، غير ناضج عاطفياً: مثَله الأعلى في مخاطبة النساء ألفيس بريسلي. كلماته في الغزل مستقاة من أغانيه وأقواله. طفليته هذه كانت تنكشف تماماً حين تتواجه مع الرعائي المسؤول الذي في هيلاري: طفلٌ آخر في مواجهة خليط من أم بيولوجية وأب وظيفي.
الزوج غدا يتواطأ مع الآخرين لتأمين هربه من رقابتها. ومن اقواله المعبّرة: "أنا ولدت في عمر ال16 وسأبقى دائماً في عمر ال16. هيلاري ولدت في عمر ال40".
وتروي احدى القصص المنقولة عن رجال الامن في البيت الابيض، ان كلينتون خرج بسيارتهم في احدى الليالي، لكن السيدة كلينتون ما لبثت ان اتصلت تليفونيا بموقع الحرس سائلةً عنه. عندما قالوا لها انه خرج وحده في نزهة قصيرة، خبطت التليفون بقوة. احد الحرس اتصل بالرئيس عبر تليفونه النقال ليقول له انها وراءه. "يا ألله!" قال مذعوراً. بعد دقائق، حضرت السيارة وتوقفت امام باب المطبخ. حين جاء صاحبها، الحارس، ليستردها، سمع مهاترات وصياحا في داخلها. وعندما رجع اليها بعد ساعتين وجد المطبخ منبوشاً ومنتَهَكاً.
المهاترة الصاخبة في المطبخ، أو ضرب الزوج بلمبة، كما أشاعت احدى الصحف، لا يعنيان أي حب بالمعنى الشخصي، العاطفي والجنسي. انهما يتصلان بالدور والحرج والكرامة، ويدخلان في "العام" أكثر بكثير مما في "الخاص". وتعاطي هيلاري مع المحنة الأخيرة كان مدهشاً، بمعنى تغليب العام على الخاص في قضية خاصة بقدر ما هي عامة، أو على الأقل، يفترض بها أن تكون خاصة جداً للزوجة.
لقد تحدثت عن "مؤامرة اليمين" وعن "الصعوبات التي توضع في وجه القادم من أركنساس الجنوبية". وكانت، منذ بداية الأزمة، "المخطط الاستراتيجي" لسياسة الحد من الاضرار والانتقال الى الهجوم المضاد التي اتبعها البيت الأبيض. راحت، بسلوك معهود في المناضلين المتفانين، تمارس ادوارها وتلتقي الناس وترعى حملات انتخابية، محلية وفرعية، للديموقراطيين، مساهمةً بنشاط في جمع الاموال لهم. ومن برامجهاالتي اعلنتها اذّاك رحلاتٌ وشيكة الى روسيا وتشيلي واوروغواي وايرلندا دعماً لاتفاقية السلام فيها. وقبل ايام فقط قادت مجموعة من المؤرخين والصحافيين في رحلة بالباصات الى الشمال الشرقي للولايات المتحدة، بهدف تسليط الضوء على المواقع التاريخية والأثرية التي في حاجة الى ترميم. ومن المقرر ان تعلن هذا العام، اذا ما بقي زوجها في الولاية، مبادرة لدعم الثقافة والفن في المدارس الفنية، ولزيادة الموازنة المخصصة للأولاد ذوي الاوضاع الصحية الخطرة، كما لأبحاث السرطان. ومؤخراً، ولدى كتابة خطابه الذي ساهمت في صياغته، تحرك السياسي فيها فيما اللحظة شخصية جداً، فجعلها الأشد اصراراً على ادانة كينيث ستار والدفاع عن... الحياة الشخصية.
من دون شك، اذن، يحرجها سلوك بيل. لكن لها من القوة على مواجهة الحرج بقدر ما لها من القدرة على التعاطي مع احراجاته: انها انحرافات طفلية ومزعجة، ينبغي ضبطها والسيطرة عليها بعيداً عن أية عاطفة، ما خلا التي تستدعيها "الصورة".
في البيت الابيض ارتبط اسمها بالنظام والقانون. الآخرون نظروا اليها بوصفها "الشرطي السيء". كاتب سيرة كلينتون ديفيد مارانيسّ سماها "حارسة بوابة كلينتون".
الرواية التي تقول انهما اتفقا على أن يمارس كلٌ منهما حياته الخاصة، على ان لا يعرف الآخر، تقطع بتراجع الشخصي، خصوصاً أنهما قد تشاجرا بما يكفي في السنوات الأولى لزواجهما، بسبب نسائياته. ديدي مايرز، السكرتير الاعلامي السابق للرئيس قال مؤخراً: "انه ظرف في غاية الصعوبة، واعتقد ان الرئيس والسيدة كلينتون ربما كانا يتواصلان في امور عدة عبر محاميهما. هذه من القضايا التي اعتقد ان الازواج والزوجات لا يجلسون في الغالب ليحلّوها في مناقشات صريحة".
الرواية المنقولة عنها بأنها لا تحتمل حياة زوجية مضجرة بلا خلافات ومشاجرات و"بعض الطاقة"، ربما كانت استباقاً للحرج المحتمل واشارة يأس أخيرة من امكان التغيير. الرواية القائلة ان خلافاتهما، منذ سنوات غير قليلة، صارت تطول السياسة اكثر مما تطول خياناته الزوجية، قاطعة في دلالتها. الروايات الأخرى من أن هيلاري مثلية، أو أنها لا جنسية، ربما كانت صحيحة، وربما كانت صدى استقرائياً لنشاطية زوجها الجنسية وليبيدوه غير المسيطر عليه، لكنها ربما كانت، في حال صحتها، تعبيراً عن احتقار له يذهب بها مذهب المجافاة الكاملة له ولسلوكه. انه التماهي المضاد. ولوصولها الى خيار كهذا لا بد ان تكون عبّأت واستنفرت كل ما لديها من طاقة على التعالي المسؤول.
راديكاليتها
المرأة التي اسمها هيلاري كلينتون، حاملة مشروع يجعلها تصمت وتتحمل، ويجعلها أحياناً تتنازل لمتطلبات "الصورة".
السلاح الأمضى في مكافحة مشروعها أنها "راديكالية". والحال أن هذه الراديكالية مزحة سمجة. فكل ما اتصل بها، شخصياً، محافظ: مكتب روز للمحاماة الذي عملت فيه، حتى اصبحت في 1980 شريكة، كانت سمعته انه اكثر المكاتب محافظة واحتراما في اركنساس. قبل ذلك درست القانون في يال، ومدرسة يال للقانون مؤسسة عريقة في محافظتها. وهي حاولت دائماً الظهور بأنها مؤمنة، فحين ألمّت المحنة بها وبزوجها، اختارا عقد جلسات ل"المساعدة الروحية" مع "الاب" جيسي جاكسون.
وحين نشرت مؤخراً "نيويورك تايمز" 12 آب/ أغسطس نتيجة استطلاع للرأي أشار الى أن شعبية هيلاري لامست "الرقم السحري" أي 50 في المئة، رد خبراء الاستطلاعات صعود شعبيتها لأسباب معظمها يندرج في خانة المحافظة - إما محافظتها حقيقيةً كانت أم مصنوعةً، أو محافظة مجتمعها التي توسّلتها: النساء الأميركيات معجبات بصمودها امام سيل الاشاعات والادعاءات المشينة ضد زوجها، ثم هناك العوامل الكثيرة، المتعارضة أحياناً، التي لعبت دورها: احترامها لنفسها كسيدة أولى، قياسها بمونيكا لوينسكي، الشعور بالأسى عليها، احترام أدائها الزوجي ووقوفها بدعم الى جانب زوجها.
فعلياً، هي في كل ما يخصها من علاقات ومظاهر، محافظة. لكنها حاملة خير للفقراء والأطفال والضعفاء من هذا الموقع الذي هي فيه. ولأنها صادرة عن هذه المؤسسات الغنية والقوية، فهذا سبب إضافي لكرهها، كما لو انها تخون العالم الذي صدرت عنه، وتخونه من قلعته: البيت الأبيض.
النزعة الرعائية والاحتوائية التي فيها كتبت هيلاري مقالاتها الاولى عن حقوق الأطفال تعززت بمصادر كثيرة: التماهي مع الأب، والعطف على الضعفاء والأطفال، ثم احتقار الزوج والحلول محله. لكن الأفكار الراديكالية لم تقاربها بالتأكيد، أو أنها لامستها ولم تترك كبير أثر عليها.
برنامج الضمان الصحي الذي طرحته، ساعد في احباطه عدم رغبتها هي في البحث عن حل حكومي، أو حل "الدافع الأوحد" بسبب تعبيرها. لقد رغبت في ربط تنفيذه بحوافز السوق، ما أدخله في متاهات استفاد منها الخصوم. أفكار كتابها لقيت من اليساريين انتقادات تعادل ما واجهته من انتقادات اليمينيين. لكن الذين يودون احراق هيلاري بنار الراديكالية شريرون جداً. وربما كان اليمين الأميركي أشرّ أنواع اليمين في العالم، هو الذي تمرس في ما لا يُحصى من حروب، ولم يتعرض لأية مراجعة بعد المكارثية وعنها. فالستينات ركزت على الخروج من فييتنام وعلى الحقلين الثقافي والفني وعلى الحق في المتعوية، لكن المكارثية نفذت بريشها. وجاءت الريغانية لتقول ان الستينات كانت العيب الوحيد في التاريخ الأميركي الحديث، والريغانية كانت ثورة منتصرة. إذن فلينتشِ الذين تشربوا بالايديولوجيا الحدودية وعقوبة الاعدام وأحط أشكال الذكرية البيضاء، من دون ان يتحملوا اي ارتداد عن الريغانية الظافرة.
فما تطرحه "قضية هيلاري" لا يقل عن ازمة تطور اميركا اليوم بما يجعل الأفكار والسياسات تواكب التقدم المادي والتقني. لهذا يستشرس المستشرسون فيخوضون المعركة كما لو انها مطاردة ساحرات.
وقد يرى البعض أن تصرف الزوجة كأنها "أمة" تصرف بشع. وهذا، حقاً، بشع حين يصدر عن زوجة، أو عن زوج، أو عن أي كان. بيد أن الأبشع منه والأخطر، هو ما يريده كينيث ستار وصحبه حين يطالبون "الأمة" بأن تتصرف تصرف "الزوجة" فلا تفعل غير البحث في أخلاق الزوج وعلاقاته وصدقه وكذبه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.