يعتبر كتاب "علم الاحلام" لمبتدع التحليل النفسي في الفكر العالمي، النمسوي سيغموند فرويد واحداً من أشهر الكتب العلمية في تاريخ البشرية. وهو يأتي، بعد الكتب المقدسة وأعمال شكسبير بالطبع، في مقدمة الكتب التي تترجم الى شتى لغات العالم، غير ان هذا الكتاب المتوافر في عشرات ملايين النسخ ومئات الترجمات لا يقرأه كل هذا العدد من البشر بصفته كتاباً علمياً، بل بصفته كتاباً في تفسير الاحلام. بل ان هذا هو العنوان الذي يقدم فيه، في بعض ترجماته ومنها الترجمة العربية. والحقيقة ان هذا الكتاب الضخم الحجم والسهل القراءة - على غير عادة فرويد في كتبه - يحتوي على الكثير من تفاسير الاحلام، بل ان تفسيرها يكاد يكون موضوعه الرئيسي، ولكن - طبعاً - ليس بالمعنى الذي يتوخاه منه عامة القراء. ذلك ان فرويد لم يكن مهتماً حين وضع الكتاب عند النقطة الزمنية الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بأن يوفر للحالمين بأن تهديهم الاحلام نظرة الى الغد، تطمئنهم او تخيفهم، مادة تعزز لهم فكرتهم عن الحلم ودوره في حياة الانسان، هؤلاء مثَّل الحلم بالنسبة اليهم اشارة الى ما سيحدث في المستقبل. اما فرويد، في كتابه، فكان همه ان يبحث، في شكل علمي، علاقة الحلم بصاحبه بشخصيته بمزاجه، وبما كان حدث له في اليوم السابق على الحلم، او في الزمن السابق عليه في شكل عام. من خلال الحلم ووصفه كان فرويد متهماً بالامعان في تحليله النفسي لشخصية صاحب الحلم. من هنا يعتبر كتاب فرويد هذا، والذي نشر في العام 1900 تحديداً، اول محاولة علمية لدراسة الحلم بصفته فعلاً نفسانياً، مرتبطاً بالحياة الواعية. وأكثر من هذا: اول محاولة للبرهان على صواب ان نكتشف "في الحلم دلالة تسمح بالتأكيد على ان النمو ليس سوى استمرار لحياة اليقظة". ويرى الباحثون ان قيمة هذا العمل - حتى وان كانت الدراسات العلمية اللاحقة عليه طوال القرن العشرين قد تجاوزته - انما تأتي من "رفض اعتبار النوم مجرد ظاهرة فيزيائية بسيطة وعمياء". كتاب "علم الاحلام" وفي صفحاته الكثيرة يتضمن، اولاً، جزءاً تاريخياً يتعلق بدراسة الاحلام، وهو الجزء الذي لا تزال له كل أهميته حتى ايامنا هذه. والى هذا يتضمن "تحليلاً للعناصر المكونة للحلم بأشكالها الاساسية البسيطة ولكن ايضاً بأشكالها المركبة، ثم نظرية حول تشكل الحلم وسيرورته والاسباب التي تحدده، وخصوصاً الدلالات التي يرتديها". ويرى فرويد، من خلال هذا كله ان الحلم انما هو، في شكل جوهري، تمثيل للرغبة المتحققة: فالجائع او العطش، يحلم بأنه يأكل او يشرب. والاطفال يحلمون بأن يحصلوا على الدمى التي يتوقون الى الحصول عليها. فإذا تجاوزنا هذه البنى الاولية الى احلام اكثر تركيبية، كما يقول دارسو فرويد، نجد ان "اوالية الحلم يترتب عليها ابدال للقيم: فهنا يمكن اعتبار الحلم فكرة تترجم الى صور. وبما ان عناصر الرغبة، لا يمكنها كلها ان تكون ذات شكل بصري، يضيف الى تلك الرغبة ان تنقل او تبدل على شكل تمثيل رمزي: وهنا نكون قد حصلنا على صيغة اولية لمحتوى الحلم". وبعد ان يشرح فرويد هذا كله ينتقل، ودائماً بحسب باحثي عمله، الى مستوى آخر اكثر اهمية بكثير، بين المستويات التي "تتدخل في سيرورة وجود الحلم: انه المستوى ذو العلاقة بالحياة الاخلاقية، اي غير المادية: فحين تكون رغبتنا ذات طبيعة تدفع حسَّنا الاخلاقي الى ادانتها، تأتي نشاطاتنا الواعية لتمارس على تلك الرغبة "رقابة" مشددة... غير ان هذه الرقابة لا يمكنها ان تمحو الرغبة. هذه الرغبة التي تمكن عند ذلك، وعلى رغم كل شيء، من التعبير عن نفسها، بواسطة بدائل تتخذ اشكال كفاية ومظهراً بريئاً". وفي الحلم، بحسب فرويد، "يتعين التمييز بين المحتوى الظاهر والمحتوى المبطن. فالأول يتشكل من عناصر بصرية، تحيل الى صور ومشاعر راهنة... وهي في مجموعها تشكل المادة الخام التي يتكون منها الجوهر التمثيلي الرمزي للحلم، وتخدم في ترجمة القيم التي لا يمكن تمثيلها: ان المحتوى الثاني - اي المحتوى المبطن - فإنه يتكون بفضل دلالته العميقة والخبيثة". لكن فرويد اذ يصل الى هذا التفريق الواعي بين المحتويين، يسعى على الفور الى توحيد دلالتيهما: وهو خلال مسعاه تمكن من العثور على الجوهر الاساس المشترك الذي يجمع بين الاحلام كافة: انه الرغبة الجنسية. ف"تماماً كما ان الصور الراهنة، هو الوسيلة التي يمتلكها الحلم من اجل تمكنه من تمثيل رغبتنا مهما كان شأنها، لا تكون هذه الرغبة بدورها سوى الوسيلة التي يعبر بها، عن غريزتنا الجنسية الاكثر عمقاً وانغرازاً فينا" ومن هنا فإن فرويد يرى - ودائماً بحسب دارسيه ومفسري اعماله وهم كثر، لا سيما بالنسبة الى كتابه الاشهر هذا، كثرة معارضي الكتاب وناقديه ورافضيه كلياً. اذاً، يرى فرويد، ان الحلم يمثل طبقات عدة وللوصول الى اللب، يجب اجتياز الكثير من هذه الطبقات، ذلك ان تمثيل رغبة ما، سرعان ما يتحول الى رمز لرغبة اخرى، ليست في حقيقتها سوى رمز لرغبة ثالثة، تتبعها رابعة وخامسة وهكذا... حتى الوصول في نهاية الامر الى الرغبة الجوهرية المختبئة خلف رمزية الرغبات الاخرى جميعاً، وهي الرغبة الجنسية". ويرى فرويد ان الامر يكون على هذا النحو خصوصاً حين تمارس النفس، اذ تستنكف في شكل خاص الاعتراف بوجود هذه الغريزة في داخلها، رقابة مشددة على التمثيلات كافة التي يمكنها الكشف عنها: "وعند هذا نصل الى الرغبة المدفوعة او المطرودة اي الى الفعل الذي به يدفع المرء احساسه الجنسي الى عمق ظلمات وعيه الباطني او لا واعية. وفي مثل هذه الحال، تحيل ذهانيات الانسان حين يتصرف داخل الحلم، حساسيته الجنسية هذه، الى اشياء رمزية ذات ايحاءات سرية...". ويرى الباحثون ان هذه الاستنتاجات الاخيرة، والتي تحتوي بحسب رأي فرويد جوهر نظريته كلها، تبدت دائماً الاكثر ضعفاً بين كل ما يقدم في هذا الكتاب، ذلك ان "اعادة الحياة السرية التي يعيشها عقلنا كلها، الى حساسية اساسية ليبيدو، معناه حصر الفكر في نزعة وضعية كان فرويد نفسه ينوي تجاوزها" بحسب واحد من الباحثين. ولكن على رغم هذا كله، نال هذا الكتاب شهرة واسعة وقرئ كما اشرنا، على نطاق واسع، بل ان ثمة من يرى فيه جذور الكثير من النزعات الفنية والادبية في القرن العشرين، ولا سيما التيار السوريالي وتيار الدادائية، ذلك ان هذين التيارين قاما على التوغل في قضية الحلم، وتفسير الاحلام، كما على احلام اليقظة، والدوافع الجنسية للابداع... بالتوازي مع الدوافع الجنسية للحلم، حيث لا يعود ثمة ما يميز بين الابداع والحلم. وسيغموند فرويد 1856-1939 هو كما نعرف مؤسس تيار التحليل النفسي، وليس مؤسس علم النفس، كما ترى الصيغة الشعبية. وهو مارس الكتابة والتحليل النفسي والتدريس في فيينا وأسس الجمعيات وكان له تلامذة وحواريون، ويعتبر، في شكل من الاشكال، احد كبار المؤسسين للفكر الحديث في الكثير من المجالات. وكتبه الكثيرة، التي صيغ اكثرها في الاساس على شكل محاضرات ودراسات مطولة، ترجمت الى شتى اللغات، ومنها العربية حيث توجد ترجمات عدة لمعظمها، منها ترجمة حققها الباحث جورج طرابيشي: اما كتاب "علم الاحلام" فقد ترجمه الى العربية الباحث المصري مصطفى صفوان، وصدر في طبعات عدة، اما بالنسبة الى فرويد فلا بد من ان نذكره انه عورض كثيراً في حياته وبعد مماته وكان من ابرز معارضيه تلميذاه يونغ وآدلر.