بيان الستين كاتباً أميركياً عن أحداث 11 أيلول سبتمبر وما تلاها في عنوان "من أجل ماذا نحارب" جدير بالاهتمام، لأنه يعلن بوضوح معتقدات ومبررات الكثير من المثقفين الأميركيين ضد ما أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية والشرقية "الحرب ضد الإرهاب". ويشكّل كشفاً واضحاً لجبهة خطاب عالمي تضم الكثير من المثقفين وحكوماتهم، يتشاركون جميعاً في تبرير القمع الجماعي: مثقفونا ومثقفوهم، حكوماتنا وحكوماتهم. في ما يلي مناقشة للبيان: يقول بيان المثقفين الأميركيين: "في ديموقراطية مثل التي عندنا، تنبع سلطة الحاكم من إرادة محكومه وتستمد السياسات جذورها من قيم وأوليات المجتمع ككل". وأقول إن العالم الآن، الأول والثاني والثالث، يتشابه - وبدرجات متفاوتة - في وأد الديموقراطية. فسلطة الحاكم جورج بوش لم تنبع من إرادة المحكومين بل من قوة المؤسسات والبنوك وجماعات الضغط التي روجت وسوقت لسياستها وأوهمت "المحكومين" أن هذه السياسات التي ينتهجها الحاكم نابعة من إرادته. لا فارق حقيقياً بين بوش وموغابي إلا في الغلظة البدائية التي استخدمها الثاني فالمجتمع البدائي يفرز قمعه المماثل. ويعتبر البيان إن نتائج الحادي عشر من أيلول "واجب يلقي بظله على الأميركيين، يقتضي مواجهة الجوانب غير الجذابة في مجتمعنا". وفي فقرة أخرى يحدد البيان هذه الجوانب بأنها "النمط الاستهلاكي، مفهوم الحرية المفتقد للضوابط، تراجع الزواج والحياة العائلية"، ويصفها بالمؤذية أيضاً. وهي "قيم" نابعة بالأساس من مجتمع مستغرق في ذاته. هذه مشكلات المجتمعات الرأسمالية وتلك الزاحفة إليها من "العالم الاشتراكي السابق"، لكنها ليست الأسباب التي تجعل المجتمع الأميركي مكروهاً أو محتقراً كما يقول البيان. فالنمط الاستهلاكي للفرد الأميركي لم يكن هو الدافع الأساس الذي جعل البيت الأبيض يمول مؤامرة "خليج الخنازير" أو "إيران كونترا"، ولم يكن تراجع الزواج والحياة العائلية ما حدا بالاستخبارات الأميركية لتمويل "المجاهدين وجماعة بن لادن" وتسليحهم ليحاربوا السوفيات في أفغانستان. لا يهمنا هذا النمط من الحياة، ولا نريد من الأميركيين أن يتراجعوا عنه أو حتى يعتذروا بسببه! لكن، لنلق نظرة على "قيم" مجتمع النخبة الأميركي الذي يتحكم بالمؤسسات الرئيسة في أميركا: الإعلام والاقتصاد والكنيسة. إنها "القيم" في الفقرة الثالثة التي تفاخر الوثيقة بها وهي: "كل الأشخاص يمتلكون الكرامة الإنسانية وهي حق لهم بالولادة.. فالناس جميعاً خلقوا على صورة الله ومثاله". ويرجع البيان، هذا الحق إلى مرجعية دينية. من منطلق هذه المرجعية يريد أن يقنعنا بأن "الديموقراطية هي الصيغة السياسية الواضحة التي تجسد هذا الإيمان بالكرامة الإنسانية السامية". وجه المغالطة هنا هو التزلف للدين والله لترسيخ الاعتقاد بأن الديموقراطية هي نتيجة طبيعية للإيمان. الديموقراطية الغربية الأوروبية جاءت نتيجة صراع وتضحيات هائلة ضد حكام يحظون بمباركة الكنيسة، وضد سلطة الكنيسة ذاتها. ولم يكن في استطاعة السود في أميركا الصلاة في كنيسة البيض، حتى سنوات خلت. يعترف البيان في "القيمة الثالثة" "باستحالة مقدرتنا كأفراد وكجماعة في الوصول إلى الحقيقة كاملة" لكنه لم يقدم تفسيراً أو سبباً لهذه الاستحالة، بل قدم طريقة العلاج، وهي انتهاج "الروح المدنية والانفتاح على وجهات النظر الأخرى وكذلك المحاججة المقنعة عند البحث عن الحقيقة". وهذا أيضاً موقف "أخلاقي". فوجهات النظر الأخرى ليست وليدة تخرصات لأفراد ممسوسين. إنها محصلة لأشواق وتوترات لفئات وطبقات متنوعة من البشر تتوق لأن يُسمع صوتها وان تنال حقوقها. في "القيمة الرابعة" ربط بين "حرية الضمير والحرية الدينية وانهما من الحريات الأساسية المعترف بها في بلادنا وفي كل مكان آخر كانعكاس للكرامة الإنسانية الأولية وشرط مسبق لقيام الحريات الفردية الأخرى". يندهش الانسان من مدى المقدرة على المغالطة في مواضيع تصلنا دقائقها البشعة كل يوم عبر نشرات الأخبار، من مصادرها الغربية والشرقية: اعتقالات من دون محاكمة لمتهمي الضمير وسجنائه، انعدام الحريات الدينية حتى بين من يدينوا بالدين ذاته وان اختلفت المذاهب هذا يقع في النشاط اليومي للدولة والهجوم على دور العبادة المختلفة وقتل المصلين أو ذبحهم في الشوارع النشاط اليومي للأفراد. هذه النشاطات المختلفة، لا تنفرد بها دولة عن أخرى أو "حضارة" غربية عن شرقية. فالمقابر الجماعية تنتشر من رواندا إلى كوسوفو، والسجون الأميركية تمتلئ بمعتقلي الرأي كما تتكدس بالمناضلين سجون ايرلندا الشمالية. و"تستضيف" السجون العربية الشعراء والأكاديميين وجماعات حقوق الإنسان. وهناك تسميم وقتل الآلف من الأكراد بواسطة حكومة بغداد... الخ، إضافة إلى القتل اليومي بين الهندوس والمسلمين والهجوم على المعابد المتنوعة في المساحة الشاسعة بين أميركا وباكستان. بتأمل بسيط، نجد أن معظم هذه الأماكن تحت "الحماية" الأميركية. وتؤكد القيمة الخامسة: "ينبغي دائماً الانحناء للعدالة... لكل العالم". لأن الاتهام الأساس وقع على كاهل أسامة بن لادن وجماعته، وهو مطلوب حياً أو ميتاً. ما يثير الغيظ هنا ان الكتّاب الستين "يبشرون" بمنظومة وهمية. مثلما فعل المستوطنون الأوائل: يقدمون الخرز الملون في مقابل العاج. نظرة سريعة على هشاشة منظومة القواعد والقوانين النابعة من القيم الاجتماعية والدينية المسيحية الأميركية، بعد الحادي عشر من أيلول. فقد نشرت "نيويورك ريفيو" شباط/ فبراير 2002 تعليقاً كتبه اريه نئير على الأمر الرئاسي الذي أصدره الرئيس جورج دبليو بوش في ما يخص أسرى الحرب في أفغانستان، وقد قسمهم إلى 4 فئات تخضع للمحاكمة العسكرية: 1- الأسرى المساجين الذين يتم القبض عليهم أسرهم في أفغانستان. 2- مقاتلون غير قانونيين أو غير شرعيين يؤسرون في أفغانستان أو أي مكان آخر في العالم خارج الولاياتالمتحدة. 3- غرباء غير شرعيين أو غير قانونيين في الولاياتالمتحدة، أو الغرباء الذين يقدمون في شكل غير شرعي غير قانوني الى الولاياتالمتحدة - مثل الطلاب أو الزوار بعد الحصول على تأشيرة دخول - لكنهم يبطنون غرضاً غير شرعي للانخراط في الإرهاب. 4- غرباء لهم وضع شرعي قانوني للبقاء في الولاياتالمتحدة، يُتهمون بأنهم منخرطون في قضية إرهابية. نعلم أن الكونغرس بمجلسيه وافق بالإجماع على الأمر الرئاسي عدا صوتاً واحداً نكرر: صوتاً واحداً معترضاً! للتذكرة، نقول: ليست المرة الأولى التي تميز فيها أميركا دولة ونواباً وشعباً بين الأميركي وغيره. فعندما دمرت اليابان ميناء بيرل هاربر قبضت السلطات على آلاف الأميركيين - اليابانيين ووضعتهم في معسكرات حتى نهاية الحرب! رأى أصحاب البيان انه من المستحب أن يتزلفوا المسلمين في أنحاء العالم بأن يفصلوا بين إسلامين: إسلام بن لادن الشرير لاحظ هنا الاستخدام الاخلاقي - الديني ومن لف لفه، وإسلام المسلمين "الطيبين" الآخرين المطلوب منهم التعاطف مع مشروعية الحرب وعدالتها، ويفصلوا كذلك بين ما أطلقوا عليه "الحرب المقدسة لجماعة بن لادن" وبين "الحرب العادلة التي تجد لها جذوراً في تقاليد أخلاقية مختلفة وفي التعاليم اليهودية والمسيحية والمسلمة". لا يترك الموقعون موضوع "الحرب العادلة" هكذا في العراء، بل يبذلون الجهد، لاستخلاص القيم والقواعد التي يجب اتباعها في الحروب العادلة، ومن يستحق القتل ومَنْ مِنَ المدنيين سيصيبه القتل ايضاً نتيجة وجوده الخاطئ في ميدان المعركة باعتبار أن هذا أمر لا مفر منه مثلما يحدث للمواطنين الأفغان. وبينما يقول البيان "إن قتل المدنيين بقصد الانتقام أو حتى بقصد مواجهة الهجوم الآتي من قيادتهم خاطئ أخلاقياً" فإنه لا يجرمه بل يبرره. ويضيف: "مع ذلك يبقى من الممكن في بعض الظروف وفي حدود ضيقة إيجاد تبرير أخلاقي للأعمال العسكرية الموجهة ضد مقاتلين ويمكن أن توقع بعض الضحايا في صفوف المدنيين في شكل غير مقصود، ولكن، متوقع". يدين البيان "الحروب العدائية والتوسعية، فهي غير مقبولة. ولا تكتسب الحرب العادلة شرعيتها إذا شنت لتحقيق مجد وطني أو الانتقام لماض خاطئ أو كسب الأرض أو أي هدف غير دفاعي آخر". لم افهم ما المقصود في الترجمة العربية "بماض خاطئ" لذا سأتجاوزه. بل سأتجاوز مجمل "شروط الحرب العادلة" لأنني أجدها هراء يحاول تجميل الوجه القبيح للعدوان. فالذي يشن الحرب عادة - كما علّمنا التاريخ - جماعات ودول تعتقد أنها تمتلك الأسباب "الشرعية" للحرب، وتنظّر لها أجهزة الدعاية بأنها عادلة: الحرب العالمية الأولى كانت نتيجة الخلاف بين الدول الأوروبية القوية على توزيع غنائم سلب الشعوب المغلوبة في أوروبا الوسطى وأفريقيا وبعض آسيا. والحرب العالمية الثانية كانت بسبب صعود الرايخ الثالث بقيادة هتلر وحزبه والإحساس الألماني الشعبي العارم بالظلم ورفض بقية الدول الأوروبية مشاركته في كعكة المستعمرات، كما جاء نتيجة رغبة اليابان في إعلان سيادتها على آسيا القريبة منها وفتح مجالات طبيعية لها. لا توجد حروب عادلة. استدرك فأقول توجد حروب مشروعة تقوم بها حركات تحرير من أجل تحقيق المبدأ الأول الذي تقول الوثيقة به: الحق في عيش وكرامة لجميع البشر! جريمتان ليس لهما من تبرير سياسي أو ديني أو حتى أخلاقي: مذبحة الحادي عشر من أيلول جريمة، وتبعتها جريمة الحرب ضد الشعب الأفغاني بحجة القضاء على "القاعدة" وإحضار أسامة بن لادن حياً أو ميتاً للعدالة الأميركية. ينزعج مؤلفو البيان مما حدث في نيويورك. يلقون باللوم على تنظيم "القاعدة التي تنامت وحظيت في بعض الأحيان بتسامح وحتى بدعم الحكومات لتجهر علناً برغبتها وتبدي مقدرة متزايدة على استخدام القتل العمد لتنفيذ أهدافها". ما الفارق إذاً بين ضحايا الحادي عشر من أيلول الذين عرّفهم البيان بأن "غالبيتهم من المدنيين غير المقاتلين وغير المعرّفين من قاتليهم إلا بصفتهم أميركيين"، وبين آلاف القتلى المدنيين العراقيين والمدنيين الأفغان الذين أوجدتهم ظروف الحياة القاسية في بلادهم ساعة ألقت عليهم الطائرات الأميركية وطائرات التحالف مئات الأطنان من "القنابل العادلة"؟ نرفض المرجعية الأخلاقية، لأنها قيمة براغماتية مطاطة. فما يراه الغرب أخلاقياً يراه الشرق غير أخلاقي. والعكس صحيح. فأية قيمة، يمكن اللجوء إليها، إذاً، في مواجهة "القواعد" المسلطة علينا من الشرق أو الغرب، إذاً؟ القيمة الوحيدة المتبقية والصحيحة هي "القيمة المدنية" التي يؤطرها القانون الدولي. القانون الذي أعلن منذ البداية، على رغم الضغوط الهائلة الأميركية، التي استخدمت الحجج الدينية والأخلاقية كافة ضد أسرى الحرب الأفغانية. أعلن القانون الدولي أحقيتهم كأسرى حرب، ويناضل حتى الآن من اجل الحفاظ على حقوقهم. مذبحة الحادي عشر من أيلول ليس لها ما يؤيدها دينياً أو سياسياً. إنها - ببساطة - جريمة. وكل مجرم قاتل يجب أن تتم مطاردته والقبض عليه وتقديمه للمحاكمة التي تمحص الأدلة وتقضي له، أو عليه. ونعرف جميعاً أن "القيم الأميركية" استخدمت في تمويل العصابات "الجهادية" الأفغانية بأموال المخدرات، وان بعض الكنائس الأميركية في "حزام الإنجيل" يمول في شكل مستمر آلة الحرب الإسرائيلية بدعوى التعجيل للمجيء الثاني للمسيح هذه الكنائس - حزام الإنجيل في الشرق والجنوب الأميركيين حيث يقطن اكثر من نصف الشعب الأميركي!. وأخيراً... على الإنسان الشريف والشجاع، ألا يخجل من قوله ان غالبية شعب ما مثل اليهود في إسرائيل وغالبية الشعب الأميركي وشعوب أخرى في أماكن أخرى من العالم عنصرية تحتقر الآخر، بل يبشر بعضها بقتله وتخليص العالم منه. إن إخفاء الحقائق لن يسمح باختفائها. لذا نحن وغالبية سكان كوكب الأرض نشترك جميعاً في العنف وعلى قدر كبير من براعة التبرير وتحويل الأكاذيب إلى حقائق. ان تجارب الحياة وضرورة العيش المشترك على هذا الكوكب علمتنا ان "نتسامح" على الرغم منا، وأجبرتنا على التقبل الاضطراري للآخر المختلف في اللون والجنس والعقيدة. لأننا من دون هذا التسامح الإجباري لن نتمكن من العيش. هذا التقبل الإجباري للآخر فرض على المجتمع البشري منظومة من القواعد تطورت إلى قوانين تُطبَّق بصرامة أو قواعد للسلوك البشري نسميها "تحضر" أو "مجتمع مدني حضاري" الخ. هذه القواعد والقوانين بالغة الهشاشة نتيجة إنسانيتها فتتحطم تحت أي ضربة مهما كانت ضعيفة، أو مهما كانت أسبابها، أو حتى غموض أسبابها، مثلما حدث في الحادي عشر من أيلول من دون الدخول في أكاذيب تبريرية عرقية أو وطنية. يجب الاّ ننسى في غمار سعادتنا وإن لم نعترف علناً نتيجة لوضعنا الإنساني بالتخلص من طالبان اننا جميعاً شاركنا - بأشكال مختلفة - في خلق الوحش. لم تكن "طالبان" هي الوحش الوحيد. فقد شاركنا بالصمت عن وحوش صغيرة "منزلية" ونحن نرى تعاظم التيارات الدينية المتعصبة من الأديان والمعتقدات كافة تحتل مواقعها في المعابد والشوارع وتستولي على الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام وأجهزة الدولة. بل على الأزياء وفن العمارة والكتب ومعارضها والمعاهد العلمية وكليات الطب والهندسة ووسائل الحياة والمواصلات والاتصالات والويب سايد والإنترنيت كافة. ما دورنا نحن في حرب الوحوش هذه، ونحن نعلم اننا لا نمتلك من امرنا شيئاً كثيراً بعد ان استولت الدولة عندنا على مقدرتنا، ومقدراتنا، وأنشأت محاكمها العسكرية الخاصة؟ علينا المناداة: يجب العودة مرة أخرى إلى الأصول: أي فصل الدين عن الدولة من دون حجج واهية بأن الإنسان - كما يقول البيان الأميركي - ديني. نحارب المتعصبين لأنهم يريدون قتلنا. ندافع ببساطة عن حياتنا، لكن، يجب أيضاً ألاّ ننسى "القوانين الإجبارية" التي نخضع لها كمجتمعات بشرية، وهي إتاحة العدل الحقيقي، الذي توصلنا الى وجوده منذ ان خرجنا من الكهوف المرعبة واستطعنا السباحة في الفضاء. العقاب الجماعي من الدولة مرفوض مثلما مرفوض أيضاً، إرهاب الدولة للفرد أو الجماعة. والعقاب البشري من خلال القوانين الوضعية، ضروري بالتالي، لبقاء البشر وإحساسهم بالأمن. * كاتب مصري مقيم في هولندا.