قد يشبه فن الخطابة، وموضوعه هو طرائق الإقناع بواسطة الحجج وتقسيم الأقوال وترتيبها، فن الحرب. ومقالة المثقفين الأميركيين في علل الحرب التي تخوضها الدولة الأميركية على "القاعدة" وأنصارها وحلفائها الإسلاميين أذاعها "المعهد الأميركي للقيم" في اواخر النصف الأول من شباط/ فبراير المنصرم، ونقلت صحيفة "السفير" اليومية البيروتية، في 16 منه، متن المقالة، من دون هوامشها، نقلاً تقريبياً تشبه بدورها فن الحرب هذا. والحرب التي تتناولها المقالة الأميركية هي الحرب العادلة. وعلى هذا فخطابة البيان أو المقالة تسعى في شبه هذا الضرب من الحرب، تمهيداً وتقديماً وتسويغاً وعدلاً. مقالة المثقفين الاميركيين لا تصف واقعة عدوان بن لادن ورجاله على الولاياتالمتحدة ابتداءً، بالعدوان أو العمل الحربي الغادر، أو بالإرهاب على خلاف تقديم الصحيفة وناقلَيْ المقالة الى العربية. ولا تخلص، تالياً، من هذه الصفة الى جواز الرد بالمثل. فالمقالة، لو انتهجت هذا النهج لرضيت بحمل الحرب على بن لادن وأصحابه على حربٍ خاصة، على المعنى الحقوقي للحرب الخاصة وهي حرب الأفراد أو الجماعات التي لا يضويها "قانون مدني واحد" ولا يجمعها "جسم وطني" أو "جسم امة سياسي" على تعريف هيغو غروتيوس صاحب "قانون الحرب والسلم"، أو حقوقهما، المطبوع في 1625م. ولا يجهل اصحاب المقالة الأميركيون في الحرب العادلة ان الحق الذي يحتكمون إليه، ويدعون قراءهم، من مسلمين وغير مسلمين على خلاف تقديم الصحيفة التي تخص "العالم الإسلامي" بالرسالة، ويدعون انفسهم ومواطنيهم الى تحكيمه في أفعال دولتهم، لا يجهلون أن من معاني الحق او القانون دفعَ الضرر، والحؤول دون إنزاله عمداً فيمن لا ناقتهم ولا جملهم في الخلاف أو الخصومة، إذا عُلم موضوع الخلاف والخصومة. وهذا المعنى، وهو يستنتج استنتاجاً، لا يدرك مباشرة ومن غير واسطة. فهو أدنى مرتبة من "الحق الصريح" أو "الصراح" الذي يستقوي به من يثبتون ويوجبون عدالة حروبهم من غير احتجاج ولا برهان غير يقينهم الراسخ والعام. وعليه، ترسي المقالة في جزء اول أركان الاحتجاج لجواز الحرب العادلة. وتقوم الأركان هذه من خطابة المقالة مقام إعلان الحرب والإنذار بها من الحرب الحقيقية. فيعلن اصحاب المقالة الأصول الخلقية والحقوقية التي يصدرون عنها، ويدعون من يرون رأيهم ومن يخالفونهم الرأي الى الإجماع عليها. وحجتهم ان هذه الأصول، ومعظمها يستعيد إعلان حقوق الإنسان الذي أقرته شرعة الأممالمتحدة، هي الجامع العام بين البشر. ولا يسوغ احتكام الى العقل والمقال إلا من طريقه، ومن طريق الأصول المشتركة التي يفترضها. فإذا لم يتقاسم الناس اعتقاد المساواة بين البشر في الحرية والكرامة، وإذا لم يقدموا الإنسان الفرد على السلطة، ولم يظنوا خَيْراً في ميل البشر الى الحقيقة والسؤال عن معنى الحياة وغاياتها، ولم يحسبوا ان حرية الرأي والاعتقاد شرط رعاية هذا الميل - بطل الاحتكام الى العقل والمقال، وإلى الحق والقانون تالياً، وعصف العنف والإفناء المتبادل في المجتمعات وبين المجتمعات من غير قيد عليه ولا رادع له. وتخلص مقالة الأميركيين - وهي ليست مقالة اميركية - من الأصول الجامعة والعامة هذه، ومن تقيد مقالتهم بها وبترتيبها، تخلص الى النظر في فعلة اصحاب الحادي عشر من ايلول سبتمبر. فتصفها بإعمال القتل "العظيم"، أو قتل الجملة ومن غير تمييز في الأبرياء. ولكن المقالة في الحرب العادلة، والمرتبة على خطابة "عادلة"، لا تخلص الى وصف الفعلة بانتهاك الأصول الخلقية والحقوقية المشتركة بين البشر وفيهم قبل ان تورد حجج المنتهكين وقَتَلة الجملة ومن غير تمييز. فيقر اصحاب المقالة بأن "أمتهم" لم تبرأ يوماً من العجرفية "غطرسة" المقالات الصحافية العربية ولا من الجهالة. ويقرون بتقصيرها "في معظم الأوقات" عن العمل بموجب مثالاتها وغاياتها. ولكنهم يسألون عما إذا كانت اخطاء السياسات الأميركية الخارجية تسوغ إعمال قتل الجملة في الأميركيين، أي تسوغ انتهاك الأصول الخلقية والحقوقية الجامعة والعامة. ويجيبون بالنفي حيث تجيب قلة كبيرة وثقيلة من العرب والمسلمين يقدرها بعضهم ب10 الى 15 في المئة من الجماعتين بالإيجاب. فيذهب اصحاب المقالة الى أن وازرة الأخطاء السياسية الأميركية لا تزر وزراً يسوغ القصد الى قتل الأميركيين و"الإثخان فيهم"، على قول يتردد على ألسنة "امراء" الجماعة الجزائرية الإسلامية المسلمة. فالمقالة تظن في قَتَلة الجملة إرادة إبادة عامة. وهذا ما لا ينفيه القتلة هؤلاء. وإذا كان اغتيال ثلاثة آلاف فعلاً "حميداً"، على قول شاع، فينبغي ان يكون تكثير الاغتيال فعلاً أحمد وأعظم "أجراً". وما تخلص إليه إرادة إبادة عامة، أو ما تفترضه فرضاً لازماً لا يُناقش ولا يُسأل، هو استحالة الفصل بين وجود الجماعة وهي الأمة الأميركية، أو شعب الولاياتالمتحدة وبين اخطاء سياساتها الحكومية. ويؤدي وصف امم ودول وشعوب عن بكرة ابيها ب"الكفر" الى هذه النتيجة، أي الى استحالة الفصل بين الجماعة وبين افرادها، وبين هؤلاء وبين حكومتهم. ويتشارك أهل "القاعدة" مع جماعات اسلامية كثيرة في هذا المذهب. ولعل الجماعة الجزائرية ابرزها وأظهرها. ولم يتنصل رأس "حزب الله" اللبناني الخميني من هذا المذهب، بل عمد الى "عقلنته" بذريعة التعبئة الإسرائيلية واليهودية العامة، العسكرية والمالية والاجتماعية والثقافية، ليخلص الى إباحة قتل الجملة فيمن إذا لم يكن اليوم جندياً عدواً فهو جندي عدو غداً، أو هو اخو جندي عدو أو أبوه أو ابنه أو اخته أو مموله أو محرضه وينهل الرجل من معين إمامي كتب الشروح المطولة على قصة النبي ادريس، وذمَّ الرأي والقياس بناءً عليها. فحق لأصحاب المقالة الأميركيين ان يخلصوا من توحيد الأميركيين كلهم ببعض حوادث السياسة الأميركية، إلى أن المسوغ السياسي الجزئي ذريعة عارضة. فأصحاب بن لادن لم يشترطوا اي شرط على من قتلوهم. ولم يشترطوا على حكومتهم قبل مباشرتهم القتل. ولم يقيدوا فعلتهم بإجراء معقول، ولم يفاوضوا على مطاليب، ولم يعلقوا إنفاذ ما أعدوا العدة له على رد متوقع او ممتنع. فلا غاية سياسية من القتل هذا. ولا يصح حمله على السياسة ووسائطها وذرائعها وموازينها الحقيقية او المزعومة. وليست السياسة الأميركية هي المقصودة بمثل هذا القتل. والمقصود به هو المجتمع الأميركي كله، اهلاً وقيماً ونهج حياة. ولا ينكر اصحاب المقالة في الحرب العادلة ان بعض وجوه النهج الأميركي تبعث على الإنكار. وبعضهم كتب في هذه الوجوه، وجهر مطاعنه: فديفيد بلانكينهورهن ندد بضعف الأبوة والعائلة في المجتمع الأميركي المعاصر، وشخص روبيرت بوتمان في أفول الرابطة "المدنية الوطنية" عرضاً من أعراض التصدع، ودعا مايكل نوفاك الى تقوية اواصر الرأسمالية بالديموقراطية، وحذر آميتاي ايتزيوني من تجريد المجتمع الأميركي من روابط جماعاته الجزئية، واحتسب مايكل فالزير الهويات والإقرار بها في التوزيع العادل والمتكافئ للخيرات الاجتماعية - وكلهم من موقّعي المقالة، وصبغوها بصبغتهم. ولكن اختصار المجتمع الأميركي، والأميركيين، في هذه "العيوب"، وفي غيرها مثلها، على ما يصنع اصحاب التكفير جملة - وتكفيرهم جملة يمهد لقتل من الضرب نفسه، إذا وسعهم ذلك وحين يسعهم - انتهاك للأصول الجامعة العامة والمشتركة. فالقتل من غير تمييز المحاربين من غير المقاتلين" وإيقاعه على أفراد جماعة لا لعلة إلا كونهم هم، أي على اعتقاد وإيمان ولون ونهج حياة" ومباشرته من غير اشتراط شروط مثل الاستتابة، أو العودة عن فعل او حيازة ولا تخيير مثل التخيير بين البقاء على اعتقاد وبين أداء جزية - فهذه خروج على الأصول المشتركة والجامعة كلها، وهدم لأركان الاجتماع، وشروع في إفشاء الحرب والقتل في الناس جميعاً وإلى لا غاية. وينحو النحو نفسه إغفالُ وجوه اخرى في النهج الأميركي، شأن إغفال هذه الوجوه أو ما يشبهها في مناهج مجتمعية غير نهج المجتمع الأميركي. وينحو النحوَ نفسه إغفال وجوه اخرى في النهج الأميركي، شأن إغفال هذه الوجوه أو ما يشببها في مناهج مجتمعية غير نهج المجتمع الأميركي. فما يختاره اصحاب الرسالة او المقالة من النهج الأميركي هو النازع الى الجامع العام والمشترك الإنساني مثل الإيقان بأن الكرامة هي حق فطري لكل انسان يتشارك فيه البشر جميعاً على اختلاف الجنس والعرق ولون البشرة" والإيقان بحقائق خلقية عامة لا يستثنى منها احد" وبقصور المعرفة الإنسانية، الفردية او الجمعية، وترتب وجوب الاحتكام الى المدنية والتسامح والعقل في مناقشة المعتقدات المتباينة" ويترتب كذلك على القصور الإنساني إباحة حرية الرأي والمعتقد شرطاً لحقوق الإنسان الأخرى. ويثبت حقيقة هذه الوجوه وفداحةَ اغفالها المتعمد تالياً نازع مهاجرين من الأعراق والديانات والمعتقدات والأعمار كلها ومن كلا الجنسين، الى الهجرة الى الولاياتالمتحدة الأميركية وتوطنها. ولا يعقل عموم هذا النازع، ودوامه منذ قرون، لولا اختبار المهاجرين ثم المتوطنين والمواطنين حقيقة الوجوه الجامعة العامة والمشتركة هذه في نهج الحياة الأميركي. وهذا قرينة قوية، على ما يذهب إليه اصحاب المقالة، على فرادة الجمع الأميركي بين الهوية الدستورية والمدنية الوطنية والخاصة وبين إرادة التمثيل على حقيقة الأصول أو المبادئ الجامعة العامة والإنسانية. ولا يستقيم هذا الجمع، على القدر المشكل دائماً الذي يتحقق فيه، من غير الفصل بين الحرية وبين الإيمان، ومن غير قصر السياسة على دائرة الآراء والأهواء والمصالح الجزئية والخلافات وتقييد يد الدولة في الشؤون الدينية. والتقييد لا يعني الشل، على ما يرجو بعض بقايا "دولة الفاكهاني" من "ماويين - خمينيين" تحركت لواعجهم الدستورية والإنسانية بذريعة "اضطهاد" المسلمين المقيمين في اميركا ونفي سجناء "القاعدة" بغوانتانامو من قانون اسرى الحرب - والأمران موضع خلاف داخلي اميركي-. وهم، أي البقايا، لاذوا بالصمت، ولا يزالون، في شأن أنظمة التمييز القومي والديني، ولم يفهموا يوماً ما يدعو الى الإنكار في سجون ايفين وقصر النهاية وتدمر وطبرق وتازمامرت وغزة وبعلبك وغيرها من السجون "النهائية" في عالمهم الكبير "الجسم". ولكن الحرب العادلة دفاعاً عن الأبرياء وغير المحاربين، وردعاً لأعمال عدوان يرجح استمرارها وتكرارها إذا لم تكبت بؤرتها، وعملاً بأصل الدفاع المشروع عن النفس - لا تجيز الحروب الخاصة، ولا الانتقام أو الثأر. وعليه فهي لا تجوز إلا اذا نهضت بها وتولتها سلطة شرعية، مستوفية شروط الشرعية الداخلية المدنية والخارجية الدولية. ولا يبطل هذا لجوء الخارجين على الاستبداد والطغيان الى السلاح، وانتفاضهم على السلطة الشرعية الحاكمة. فمفهوم الحرب العادلة ليس مفهوماً محافظاً، بل هو يتحدر من حمل القيام على الظلم والطغيان على وجه الحق الطبيعي والمعقول. وعلى نحو ما يوجب تسويغُ الحرب الخارجية والدولية العادلة قصرَ الحرب على المقاتلين من دون المدنيين، وحصانة غير المقاتلين، ويوجب المناسبة بين الرد وبين الضرر والمخاطر الناجمة عن العدو، وينبه على ضرورة لجم الفورة القومية التي تصاحب الحروب وتعمي الأبصار، يوجب التسويغُ نفسه على مقاومي الاستبداد والطغيان التقيدَ بالأصول إياها. فإذا جرى التفريق بين وجوه كثيرة من السياسات الأميركية و بين الأصول الأخلاقية والحقوقية التي يقر بها الأميركيون ناظماً وركناً لمجتمعهم ودولتهم ونقد السياسات الأميركية إنما يستقوي بهذه الأصول على خلاف نقد الحركات النازية والشيوعية و"القومية - الاجتمعية" الذي يضطر الى التوسل بأصول من خارج هذه الحركات ولا تقر الحركات هذه بها، لم يصح إلا إعلان الحرب على الولاياتالمتحدة الأميركية، ودعوتها الى المفاوضة، عدا التأليب السياسي والثقافي عليها. ولم يصح قتل الأميركيين الساعين في اعمالهم، ولا اغتيالهم، ولا اتخاذهم رهائن وابتزاز دولتهم وسفاراتهم وديبلوماسييهم. وليس هذا من ابتداع الموقعين على "رسالة اميركا"، على ما سمتها بعض الصحافة. فهو من اوائل الفكر الحقوقي وبدائهه وأركانه. واشتراط الشرائط على الحرب إنما الغاية منه، الى إدخالها في باب العقل العملي وحمل المحاربين على الاحتكام الى "حق" حربي، تعظيم امرها وأمر ركوبها. ولعل الفرق الكبير بين الأصول التي تحتج مقالة الأميركيين لها وبين منطق غلاة الإسلاميين مرده الى استسهال الغلاة امر الحروب كلها، واستصغارهم شأنها وشأن مباشرتها ومديحهم "عشق الشهادة"، و"الصراع"، وتهويلهم حربَهم على العدو وتصغيرهم شأنها على أنفسهم وجماعتهم، على خلاف المكانة التي تنزل الديموقراطيات عموماً الحرب، وتقييدها اياها بألف قيد. ولكن الحرب ليست إلا دائرة من الدوائر الكثيرة التي تمتنع في مجتمعاتنا من إعمال فكر الحق الحقوق والقوانين والقواعد فيها. فإعمال الحق في الدوائر هذه مؤداه الى التقييد والقبض والحسبة. وهي مكروهة كلها. * كاتب لبناني