وزير الاقتصاد والتخطيط: رؤية المملكة 2030 مثال على القيادة الجريئة والتنفيذ بتفاؤل والإدارة بحكمة    القصبي: 540 مليار ريال حجم تجارة الخدمات بنمو 7% سنويا    وزير الخارجية السوري: نستلهم سوريا الجديدة من رؤية السعودية 2030    شراكة بين مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة وجامعة الجوف    وكيل محافظ الطائف يشهد حفل تكريم 850 طالباً وطالبة بالتعليم    روماريو: نيمار عانى في مسيرته مع الهلال.. أتمنى عودته للبرازيل    إحباط تهريب 352275 قرصًا من مادة الأمفيتامين بحالة عمار    القادسية يهزم العروبة بهدفين ويرسل النصر للمركز الرابع    جمعية "سند" الخيرية تُكرم الفائزين بجائزة الأميرة عادلة بنت عبدالله    جرد مصادر المعلومات لتطوير 153 مكتبة عامة    الشذوذ ومعالجة الانحراف السلوكي    المدينة تستقبل الدفعة الثالثة من ضيوف الملك    دبلوماسي سعودي رفيع المستوى يزور لبنان لأول مرة منذ 15 عاما    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة    السعودية تحقق رقما قياسيا جديدا في عدد صفقات الاستثمار الجريء    إنتاج المدينة من التمور يزداد بنسبة 31%    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الفرنسي تطورات الأوضاع الإقليمية    إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط    «التجارة»: 19% نمو سجلات «المعلومات والاتصالات»    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تعقد ورشة عمل عن أسس ترميم المخطوطات والوثائق    22 ولاية تطعن في أوامر ترمب لمنع منح الجنسية بالولادة    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    حسام بن سعود: التطوير لمنظومة العمل يحقق التطلعات    آل الشيخ: خطبة الجمعة للتحذير من ظاهرة انتشار مدعي تعبير الرؤى في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي    محافظ الأحساء يُدشّن وجهة "الورود" أحدث وجهات NHC العمرانية في المحافظة    أقل من 1% تفصل الذهب عن قمته التاريخية    بدء أعمال المرحلة الثانية من مشروع تطوير الواجهة البحرية لبحيرة الأربعين    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير جوازات المنطقة بمناسبة تعيينه    اعتقالات وحواجز أمنية وتفجيرات.. جرائم إسرائيل تتصاعد في «جنين»    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    محافظ الخرج يستقبل مدير مكافحة المخدرات    أنغولا تعلن 32 حالة وفاة بسبب الكوليرا    أمير الشرقية يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي السادس والعشرين للجري    توقيع شراكة بين جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل وجمعية هجر الفلكية    صندوق الاستثمارات العامة وشركة "علم" يوقّعان اتفاقية لاستحواذ "علم" على شركة "ثقة"    كعب «العميد» عالٍ على «الليث»    فرصة هطول أمطار رعدية على عدة مناطق    وفاة مريضة.. نسي الأطباء ضمادة في بطنها    اعتباراً من 23 رجب.. حالة مطرية «سابعة» تترقبها السعودية    انخفاض في وفيات الإنفلونزا الموسمية.. والمنومون ب«العناية» 84 حالة    سكان جنوب المدينة ل «عكاظ»: «المطبّات» تقلقنا    10 % من قيمة عين الوقف للمبلّغين عن «المجهولة والمعطلة»    سيماكان: طرد لاعب الخليج «صعّب المباراة»    علي خضران القرني سيرة حياة حافلة بالعطاء    إيجابية الإلكتروني    شيطان الشعر    دوري" نخبة آسيا" مطلب لجماهير النصر    وفاة الأمير عبدالعزيز بن مشعل بن عبدالعزيز آل سعود    تعديل قراري متطلبات المسافات الآمنة حول محطات الغاز.. مجلس الوزراء: الموافقة على السياسة الوطنية للقضاء على العمل الجبري بالمملكة    إنستغرام ترفع الحد الأقصى لمقاطع الفيديو    قطة تتقدم باستقالة صاحبتها" أون لاين"    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    كيف تتخلص من التفكير الزائد    عقار يحقق نتائج واعدة بعلاج الإنفلونزا    الدبلوماسي الهولندي مارسيل يتحدث مع العريفي عن دور المستشرقين    خطة أمن الحج والعمرة.. رسالة عالمية مفادها السعودية العظمى    متلازمة بهجت.. اضطراب المناعة الذاتية    في جولة "أسبوع الأساطير".. الرياض يكرّم لاعبه السابق "الطائفي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعقيب على البيان - الرسالة للمثقفين الأميركان الستين

أما وقد رأت "أميركا التي تفكر" أن تخاطب العالم، من خلال ما بات يعرف ب"رسالة الستين مثقفاً"، فذلك ما قد يشكّل مستجدا بالغ الأهمية، أقله منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر التي كانت منطلق طور جديد في الحياة الدولية وتاريخ العالم وموقع الولايات المتحدة منهما. وهذا سواء نسبنا إلى الفعلة الإرهابية المذكورة صفة التأسيس في ذلك، كما يرى البعض، أم حجبناها عنها واعتبرناها مجرد ذريعة سنحت للسيطرة على العالم، كما يرى بعض آخر.
ووجه الأهمية في الرسالة مزدوج. فهي، من جهة، وكائناً ما كان الرأي بمحمولها، تعيد الاعتبار الى المخاطبة الثقافية العابرة للهويات والبلدان والثقافات الموضعية، متعاطيةً مع قيم انسانية وعامة، او ما يُراد له ان يكون كذلك، بما يليق بالمثقفين ووظائفهم. لكنها، من جهة أخرى، إذ تجنح إلى مجال الأفكار، تنتقل بالصوت الأميركي إلى حيث يتعذر عليه الإملاء وتعرّض قوّته إلى النسبية. ذلك أنه إذا ما كان بوسع الولايات المتحدة أن تفرض إرادتها على العالم، أحادياً وإطلاقياً، في الشؤون العسكرية والإستراتيجية، أو الديبلوماسية والاقتصادية، أي حيث القوة من طبيعة كمية أو مادية والفرض هذا ما لم تتورع عنه إلا قليلا في العقد الأخير، فمثل ذلك يبقى دون متناولها في المجال الفكري.
فهنا، وحيث يتعلق الأمر بمخاطبة كل من كان قادرا على إعمال العقل، أو من امتلك حسا نقديا، تظل الولايات المتحدة، ومهما بلغت درجة التفاوت لصالحها، مجرد قوة بين قوى أخرى. وهذا ما لا يعني اتهام المثقفين الذين وقّعوا الرسالة بأنهم ينزعون الى مواكبة سياسة بلادهم وفرض هيمنة فكرية على الكون. الا أن ضعف نبرة النقد الذاتي في رسالتهم يغذّي الارتياب بوجود صورة لديهم عن العالم، لا نتهمها طبعاً ب"التآمر" جرياً على عادة عربية شهيرة، بل بالبراءة الساذجة التي تسمح لنفسها بممارسة قدر من الأبوية. فافتراض أن مجرد التعريف بالنفس كافٍ لاستجلاب حب الآخرين يقوم، ضمناً وافتراضاً، على أن لهذه النفس الجماعية سحراً لا يُقاوَم، وانها، من ثم، متفوقة على سائر النفوس الجماعية.
وهذا لا يلغي إقرارنا بأهمية قصوى ترتديها المساهمة الأميركية، في الأفكار كما في سواها، وبمدى الاستفادة التي جنتها منها شعوبنا وشعوب أخرى. لا بل لا يلغي الشجب لنزعات المعاداة لأميركا التي تتفاوت بين كره خجول للغريب وعنصرية صريحة. وهي، بالمناسبة، نزعات قد تلبس لبوساً ايديولوجياً لا حصر له، قومياً كان أم دينياً، يمينياً أم يسارياً. بيد أن التسليم بتماهٍ ما بين أميركا الرسمية وبين المثقفين هو، في نظرنا، أخطر من أن يكون اتهاماً. ذاك أنه تعبير ناجز عن إجماع يبدو متيناً داخل الولايات المتحدة حول كيفيات الحرب على الإرهاب. إذ لو كانت الرسالة قد كُتبت بإيعاز من الإدارة الأميركية أو بعض دوائرها، على ما ألمحت بعض الردود العربية أو افترضت، لهان أمرها أكثر.
يبقى أن المجال الفكري يتيح، بطبيعته، قدرا من ندّية يتعين معها عدم استسهال الركون إلى "غريزة" الهجاء والتنديد من موقع الضحية، على ما قرأنا في بعض الردود العربية على الرسالة.
فمثقفو الولايات المتحدة إذ عمدوا إلى صوغ رؤيتهم ل "الحرب على الإرهاب" في وثيقة كهذه، ووجهوها إلى العالم، عرّضوا تلك الرؤية إلى المساءلة وارتضوا لها ذلك. ويتعين على المساءلة تلك أن تجري بكل الجدية الممكنة، أي بالتركيز على النص ذاته وعلى محتواه وطريقته في بناء استنتاجاته واجتراحها، لا من خلال الاكتفاء بكيل انتقادات هي من قبيل ما يكال عادة إلى السياسة الأميركية عموماً، أو من خلال التركيز على ما أهمله النص ولم يشر إليه وذلك ما قد يكون نقدا ميسورا يمكن توجيهه إلى أي نص كان، أو من خلال إلقاء الشبهة على الموقّعين أو على بعضهم. فكل ذلك مما قد يشكل مآخذ وجيهة، لا يمثل صلب العملية النقدية، بل ينحرف بها إلى هوامش النص وحيثياته. وبهذا يُمنح النص اياه، في نهاية المطاف وفي العمق، فرصة النجاة من النقد.
ان قارئ هذه الرسالة يخرج باستنتاج أولي لا يلبث أن يتأكد لديه عند التمعن فيها والعودة إليها، مفاده أنها تنطوي على وثيقة إيديولوجية، بل قد تكون أخطر صياغة إيديولوجية تصدر عن مجتمع الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. وهي تعمل، عبر مقاربة تتوخى قدرا من الإحكام الفكري، على تأسيس شرعية الدور والنفوذ الكونيين للقوة العظمى الوحيدة في هذه الحقبة من تاريخ العالم. وهي تسلك في ذلك نهجا يمكن وصفه بالكلاسيكي في مثل هذه الحالات، قِوامه الانطلاق من مسلمات أولى يُفترض أنها بديهية بذاتها ولذاتها، وهي المتمثلة في المبادئ والقيم الإنسانية التي صدّر بها المثقفون الستون رسالتهم، ثم تتوسّلها في قراءة حدث يبقى عينيا ومنفردا، بالرغم من كل ما اتسم به من فداحة واستثنائية أو ربما بسبب ذلك، ونعني عدوان 11 أيلول، خلوصاً إلى إرساء مقولة أخلاقية أو قيمة متعالية على السياسة والتاريخ هي "الحرب العادلة": ذلك العبء - الواجب الذي على الولايات المتحدة أن تنهض به، ليس لاعتبارات ذرائعية مرجعها أنها القوة الوحيدة القادرة على تولي تلك المهمة بتفويض من العالم وتحت رقابته، لكنْ باسم ما سمّاه الموقّعون "القيم الأميركية"، وهي عندهم "القيم الكونية" ذاتها أو رديفها.
وهكذا يجري، في هذه الرسالة، الاتكاء على حق أميركي محدد ومعين هو الرد على عدوان أيلول. وهو حق لم يكد يوجد، خارج قطاعات راديكالية ضيقة، من يجادل الولايات المتحدة فيه، وقد أقر لها الجميع به. وإن اعترض معترض فعلى بعض جوانبه في التطبيق والتنفيذ شأن آثاره على المدنيين الأفغان لا عليه من حيث المبدأ. لكن الاتكاء هكذا على الحق يُخشى تحويله إلى حق مطلق ذي سند أخلاقي يراد له أن يكون قائما على أسس نظرية صلبة عمادها مفهوم "الحرب العادلة". فهذا المفهوم الذي تنكّبت رسالة المثقفين الأميركان مهمة إرسائه والتبشير به، يثير مغالطة أساسية ليس مصدرها خبث النية، وانما الركون إلى نظرة "مركزية أميركية" في الإقبال على شؤون العالم، من علاماتها إحلال عدوان أيلول منزلة الفرادة المطلقة لا يضاهيه أي جرم في عالم كالذي نعيش فيه.
وقد يصعب انكار الخصوصية الناجمة عن اقتران العمل الارهابي بفتوى تجيز قتل كل أميركي، وعن تنفيذ هذا العمل المعقد بعيداً عن الأمكنة والبلدان التي صدر عنها المنفّذون، ومن دون وجود ساحة حرب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ناهيك عن تتويجه لأعمال وأقوال جعلت تأخذ الأميركان جميعاً، وفي أبعد بقاع الأرض، بجريرة سياستهم.
لكن ما يُخشى هو أن يفضي إحلال تلك الجريمة منزلة الفرادة إلى جعل ضحيتها مطلقة اليد وفي حلٍ من أية مساءلة، على ما هو سلوك الإدارة الأميركية حالياً.
ومن هنا أهمية السعي إلى تفكيك المنطق الذي يمكن تأويله، أو ربما استخدامه، في الاتجاه هذا، كائنةً ما كانت نوايا أصحابه.
والرسالة المذكورة تبدأ بوضع مبادئ خمسة، وب"تأكيد" ما أسمته "حقائق أساسية خمساً تنطبق على كل الشعوب دون تمييز"، هي من قبيل ما يمكن التسليم به دون صعوبة، إن لم يكن على نحو إجماعي لا يشذ عنه أحد، فعلى نحو بالغ الاتساع. فالمبدأ القائل بأن بني البشر قد ولدوا "أحرارا متساوين في الكرامة وفي الحقوق"، أو ذلك الذي ينص على أن الكائن البشري هو أساس المجتمع وأن الدور الشرعي للحكومات هو الحماية والمساعدة على توفير شروط الازدهار الإنساني، أو ذلك الذي يقر بأن "القتل باسم الله منافٍ للإيمان بالله وهو أكبر خيانة لكونية الإيمان الديني"، وسوى ذلك، هي من المبادئ التي يمكن المصادقة عليها وعلى صوابها دون تردد. بل ان بعضها هو مما يمكن أن يتأوّله حتى من لم يكن مؤمناً بالديموقراطية، ضرورة ولزاماً، ويمكن أن يزعم إقراره به.
فكونية تلك المبادئ، إذن، أمر لا غبار عليه. وكون الديموقراطية الأميركية تستقي أسسها منها، وكون تلك الديمقراطية بعض أنضج وأرقى أنظمة الحكم التي عرفها التاريخ الحديث، كل ذلك ليس محل جدال جدي. فالإشكال الذي تطرحه الرسالة لا يتعلق بتلك الجوانب، بل بانتحال صفة الكونية التي تتسم بها تلك المبادئ العامة والأساسية، وفي إضفاء تلك الصفة على ما أسموه "القيم الأميركية" وعلى التجربة الأميركية. والحق أن التجربة تلك، وإن كانت في مجال الديموقراطية بعض تجلياتها الناجزة، ليست إلا إحدى تلك التجليات وإحدى صيغها الكثيرة. فهي جزء من منحى عالمي لا كل ذلك المنحى، ولا أفضله بإطلاق. أما القول بغير ذلك، فقد لا يدخل في مضمار الفكر السياسي ومناهجه، بل في نطاق الإيمان الإيديولوجي نرجسيةً وإجحافا وابتسارا. وهو بذلك ربما نافى المقاربة الديموقراطية ذاتها، تلك القائمة على نسبية الحقائق ونسبية المفاضلة.
فإذا ما كانت الديموقراطية الأميركية تتفوق على صنواتها في أوروبا الغربية، مثلا، في بعض الأوجه، فإن الأخيرة تبزّها وتتجاوزها في أوجه أخرى. إذ أن تلك الأوروبية تبدو أكثر اكتراثاً بالمحتوى القيمي الإنساني للديموقراطية، أي بروحها، على ما يتبدى في الموقف من حكم الإعدام، أو في السعي إلى جعل احترام حقوق الإنسان أحد بنود دبلوماسيتها وعلاقاتها بالعالم الخارجي، أو في الاستياء الذي أثارته لديها معاملة أسرى القاعدة وطالبان في غوانتانامو. وهذا في حين تبدو الممارسة الديموقراطية الأميركية أكثر نصّيةً وميلا إلى الثأرية في أحيان كثيرة، أو تتضمن العنف، مُكوّنا من مكوّناتها، ولا تنفيه.
وفي ما خص العرب، أو أياً من شعوب "العالم الثالث"، يُستبعد أن يتجه الميل الى التحديث والحداثة الى محاكاة التجربة الأميركية حصراً. إذ الأقرب الى المعقولية الاتجاه الى استيعاب المحصلة الاجمالية لجهد الحداثة، والذي أسهمت فيه شعوب الأرض قاطبة، ليستقر ويشهد تتويجه في المختبر الأوروبي الغربي. وعملية التلاقُح هذه لا يمكن ان تتم، اذا تمت، الا بتلوين كل واحد من الشعوب لهذه الحداثة بلونه الخاص والمميز، والا غدا العالم، في أحسن أحواله، فقيراً وباعثاً على الضجر.
وهذا، بالضبط، ما حدث في أميركا نفسها. صحيح أنها، كيانا ونظاما، الوحيدة التي قامت، صراحةً وإرادةً، على المبادئ الكونية الآنفة الذكر، وأنها تأسست عليها منذ استقلالها عن بريطانيا، واتخذتها معيار الانتماء إليها بالنسبة إلى جحافل المهاجرين التي أمّت أرضها وأقامت فيها وحصلت على المواطنة. تلك واقعة متمايزة، لا مراء في ذلك. لكن تمايزها يعود إلى فرادتها، أي إلى تعذر تكرارها أو عسره، ولا يؤسس بالضرورة لنموذجية يمكن، أو يتعين، الاحتذاء بها بالمطلق.
ذاك أن الولايات المتحدة بين قلة قليلة من البلدان تأسست على نحو إرادي، وأدرجت في تأسيسها المبادئ التي آمن بها باعثوها إلى الوجود. وما يصح عليها لا يصح على سواها من كيانات تاريخية هي الأغلب على وجه الأرض: كيانات وجودها مديد ضارب في القدم، بحيث لا يمكن لسعيها إلى الديموقراطية إلا أن يأخذ بعين الاعتبار ميراثاتها المتراكمة والمتمكنة من الأذهان ومن البنى الاجتماعية فيها. وهذا انما يتطلب التعاطي معه مشقةً أكبر، ولا يمكن للتقدم فيه أن يجري تصاعدياً، على نحو لا تعتريه نكسات، بحسب ما يبرهن التاريخ الأوروبي خلال القرنين الماضيين.
وحتى موقع المسألة الدينية من "نمط الحياة الأميركي"، وهو الذي يكاد أن يكون مختلفا تمام الاختلاف عن مجمل التجارب "العلمانية" بأنواعها، ربما كان عائداً إلى نفس تلك الفرادة، ولا يمكنه بالتالي أن يكتسب صفة النموذج النهائي.
فأصحاب الرسالة يوحون بأن الولايات المتحدة قد توصّلت إلى أفضل حل ممكن لمشكلة الملاءمة بين الدين والديموقراطية، على نحو يقرّ للأول بمكانته في كنف هذه الأخيرة، فلا يقمعه ولا يقصيه من الفضاء العام، بل يوفّر له أسباب التعبير والازدهار. وربما كان ذلك صحيحاً، إذ من المعلوم أن سمتين تجتمعان في أميركا لا تجتمعان في أي مجتمع غربي آخر: أنها، في الآن نفسه، بين الأبعد شأواً في الديموقراطية، وبين الأكثر تديّناً. لكن ذلك ربما كان عائدا إلى البروتستانتية ذاتها، هي الميّالة إلى التشرذم والإنقسام مللا ونِحلا، والتي لم تعش في تاريخها تجربة الديانة - الأمة على منوال الدولة - الأمة على ما هي حال الكاثوليكية والإسلام مثلا. هكذا كان بإمكانها أن تقيم مثل ذلك التجاوُر والتعايش بين الديانات، والإقرار به مبدأً ينظم الحياة العامة دون خشية من تماهٍ بين عقيدة هذه المجموعة البشرية أو تلك وبين دولة الجميع، أو من غلبة تلك على هذه. وبما أن البروتستانتية تمتعت بصلاحية التأسيس، وأنشأت الكيان والنظام الأميركيين على صورتها، استطاعت أن تُدرج كل الديانات الأخرى ضمن منطق النحل ذاك. وربما حوّلت كل واحدة منها إلى مجرد نحلة بين سواها. وليس أكيدا أن استلهام تلك الخاصية الأميركية متاح في أماكن وفي فضاءات أخرى، سيما وأن التجربة الأميركية وبروتستانتيتها لم تتعرضا لما عرفته أوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي الثورة العلمية والتنوير، مما تحتاجه شعوب "العالم الثالث" على نحو ماسّ. وما تعرضت اليه أميركا منهما، وبطريقتها الخاصة، ظل أميركياً بحتاً يفتقر الى التواصل، تأثيراً وتأثراً، بباقي العالم.
أما عن المفاضلة بين ديموقراطية تقوم على إجلاء الدين من الفضاء السياسي العام، وبين أخرى تقوم على تجاور الإطلاقيات الإيمانية، ضمن نصاب سياسي ومجتمعي يُفترض أن أساسه نسبية الحقائق، فذلك يطرح جدالا شائكا، وغير محسوم، لن نخوض فيه هنا مكتفين بالاشارة الى تدليله على غنى النماذج وتعددها.
وإذا كنا قد أسهبنا في تناول هذه الجوانب، فذلك لأن الايحاء بكونية "القيم الأميركية"، أو اقتراحها، استغرقا قسطا كبيرا من رسالة المثقفين الأميركان، مما ألزم بمناقشته، خصوصا أن الأمر ذاك جاء بمثابة التوطئة النظرية لتسويغ مقولة "الحرب العادلة".
ومقولة كتلك، حتى لو سلمنا فرضا بكونية "القيم الأميركية"، لا يمكننا، فكريا وأخلاقيا، الا التحفظ عنها. كما نرى أن إدراج ذلك المبدأ في الحياة الدولية الراهنة، وهي حاليا مجال الغلبة حيث تنعدم المرجعيات المحايدة المجمع عليها، أمر بالغ الخطورة.
ففي نظرنا، يقوم تنافٍ أصلي بين مفهومي "الحرب" و"العدالة". ذلك بالنسبة إلينا منطلق فلسفي يرى استحالة التوفيق بين العنف وبين عدد من القيم، خصوصا تلك المتعلقة بالحياة وببعض أسمى ما يجسد إنسانية الإنسان. وكما ينطبق ذلك على الجمع بين "الحرب" و"العدالة" ينطبق على الجمع، مثلا، بين "العدالة" و"عقوبة الإعدام". فالحرب، وهي شر، لا يمكنها ان تكتسب صفة العدالة، أو أية صفة أخلاقية أخرى، فيما المنطق البسيط يردعنا عن وصف الشر بالعدالة والأخلاق. ويصح هذا خصوصاً في الصيغة الحديثة للحرب، تلك التي يصعب عليها التمييز بين المقاتلين والمدنيين. بل ان أكثر الضحايا، منذ الحرب العالمية الأولى إلى النزاعات الدائرة في يومنا هذا وأفظعها تلك الجارية منذ عقد ضد العراق بواسطة الحظر وحده من دون اسقاط شعرة من رأس النظام، كانوا من هؤلاء المدنيين.
غير أن القول بهذا المبدأ لا يعني أخذا بضرب من اللاعنفية الساذجة. فنحن نشاطر القائلين بأن خيار الحرب أحيانا ما يكون ضروريا، لدرء عدوان، أو لحماية الأبرياء أو ما إلى ذلك من المبررات المشروعة. لكن خلافنا معهم أن ذلك لا يمكنه أن يؤسس لمفهوم اسمه "الحرب العادلة".
فالحرب، كعنف أقصى واستثنائي قد يخوّل أهل السلطان التحلل من كل ضابط قانوني ومن كل رادع قيمي، لا يمكنها أن تكون أخلاقية إلا على سبيل الترجيح والجواز وغلبة الظن، لا على سبيل القطع والإيمان المطلق ب"أخلاقيتها". أي أن الحرب لا يمكنها أن تكون، في أحسن الأحوال ومهما كانت المبررات، غير ضرب من "أبغض الحلال"، على ما كان يقول فقهاء المسلمين في الطلاق. أما القول بمفهوم "الحرب العادلة"، كقيمة في حد ذاتها، تسبغ على الحرب سمة من التسامي الأخلاقي، فأمر يبقى منافياً للأخلاق ذاتها، حتى في تلك الحالات المتمثلة في واجب حماية الأبرياء. إذ أن خطر مثل تلك المقولة، خصوصا إذا ما توسّلتها قوة تنفرد بالنفوذ وبإمكانات فرض إرادتها على العالم، على ما هو شأن الولايات المتحدة، أنها قد تُتخذ مصدرا للتسويغ وللتبرير ربما نزع نحو الإطلاق. فيلغي بذلك كل ما عداه من اعتبارات قانونية أو سواها، ويخرج بالنزاعات من نطاق مبدأ الواقع وما يتطلبه من نسبية في النظر، ليدرجها في الإطلاقيات الإيديولوجية التي لا تجد شرعيتها إلا في ذاتها. ولعل سلوك السلطات الأميركية حيال معتقلي غوانتانامو، عيّنة أولى، يُخشى ألا تكون الأخيرة، على مغبّة الأخذ بمقولة "الحرب العادلة" تلك على نحو إطلاقي يفضي إلى إقصاء الخصم من دائرة الإنسانية. وقس على ذلك تقسيم العالم ودوله وفق "مقاييس" ليس لها من قيمة موضوعية ك"الخير" و"الشر".
والحال ان الطرف "الشرير" ينتصر ايديولوجياً وقيمياً على الطرف "الخيّر"، حتى لو انهزم عسكرياً أمامه، تبعاً لنجاحه في جرّه الى الحرب كنشاط تبادلي شرير.
ان التوكيد على الطابع الاضطراري للحرب يلغي فرضية الحرب بوصفها خياراً حراً، أكانت ضد "الشر" أو غيره. وبهذا فهو لا ينزع منها فقط صفات التمجيد المحتملة وما قد يترتب عليها من بعث للنعرات الشوفينية لدى الجماعات التي تخوضها، بل ينجز هدفين مهمين آخرين:
الأول، انه يهيء لابقائها مضبوطة في حدود القوانين، فلا تتعداها ولا تخل بحدودها.
والثاني، انه يبقي سمتها الدفاعية، او سمتها كعمل دفاعي، متقدمة على سمتها الهجومية، حتى في لحظات الانتقال الى الهجوم بالمعنى العسكري او الاستراتيجي.
وهذه الوظيفة الأخيرة تخدم في ضبط الحرب جغرافياً، فلا تتحول الغرائز التي تطلقها الى ميكانيزم مستقل يعمل بذاته، بحيث نجد أنفسنا أمام مسلسل لا ينتهي على غرار الحروب القديمة البونية في التاريخ الأقدم، النابوليونية في التاريخ الأحدث التي تخرّ أمامها البلدان تباعاً.
وهذا الوعي في عمقه وعي امبراطوري لا يمكنه النظر الى الحرب الا كلحظة امبراطورية. وفي المقابل، تترك الحرب بوصفها حالة أملاها الاضطرار، متسعاً لمهمة نقدها ومراجعتها والتعريف بها، وهو ما يتجسد حالياً في حرية الاعلام والصحافة، كما في القدرة على متابعة أوضاع المساجين وطرق معاملتهم.
والراهن أن الفارق كبير بين الحرب العادلة وحرب الاضطرار العادل، ليس فقط في درجة المركزية التي يحتلها العنف في التصورين، بل أيضاً في الأثر المترتب على البشر - الضحايا تبعاً لمدى القابلية للتسويات وأنصاف الحلول، والسياسة عموماً. فحتى في أرفع الحروب الاضطرارية عدالةً وتطلباً للمواقف الراديكالية، أي الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية، وُجد من يساجل بأنه ربما كان في الوسع، في ما لو قُدّمت الحرب بدرجة أرفع من توكيد اضطراريتها ودرجة أقل من توكيد عداليتها، تجنيب ملايين اليهود تصفيتهم، وبالتأكيد كان يمكن تجنيب مئات آلاف البرلينيين والبرلينيات شقاءهم واغتصابهن، كما كان يمكن عدم تدمير مدينة درسدن. لا بل ان ضرب هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين نوويتين يمكن النظر اليه على خلفية مركزية الحرب بصفتها عادلة، وبصفتها قابلة بالتالي لأن تستقل بذاتها عما عداها، فتكرّ من مكان الى مكان، وتخرّ امامها البلدان تباعاً فيما يُفتتح فصل جديد من تاريخ امبراطوري.
وما من شك في أن أثر حرب 1948 اليهودية العربية على الفلسطينيين كان ليكون أقل وطأة، وربما مرارة، لو أن التأكيد على الاستقلال اليهودي كان أقل من التوكيد على الاضطرار الذي أملته المحرقة النازية واغلاق الدول الغربية ابوابها في وجه اليهود الهاربين.
وقد يقال ان العسكريين ودعائيي الحروب لا يمكن ان يفكروا على هذا النحو، وان هذه الطريقة قد تبدو لهم انهزامية. الا اننا نتحدث هنا عن الوظيفة النقدية للمثقفين المدعوين الى استخدام كل قدرتهم على الشك لمواجهة الشياطين التي تسكن اليقين الحربي والغرائز التي تستنهضها الحروب لمجرد كونها عنفاً.
لكل ذلك، لا يتعين حتى على مواجهة آفة مثل الإرهاب أن تنضوي تحت مقولة "الحرب العادلة" كما طرحتها رسالة المثقفين الأميركان، ولا أن تجري معالجة تلك الظاهرة خارج كل قانون. فالإرهاب في نهاية المطاف جريمة من جرائم الإبادة، في نظرنا، إن لم يكن من حيث عدد ضحاياه فمن حيث وازعه ومنطقه طالما أنه يستهدف ضحاياه لا على أساس من عداء سياسي أو كقوة عسكرية، بل في ذاتهم كعينة عشوائية تقوم مقام الكل من شعب أو إثنية أو ثقافة أو فئة اجتماعية أو سواها، تُضرَب في ذاتها من غير تمييز في دواخلها ومراتبها. ولذلك يمكن أن ينطبق على مقترفيه ما انطبق على مرتكبي جرائم الإبادة منذ محاكمات نورمبرغ حتى محاكمات بروكسيل أو لاهاي التي قاضت أو تقاضي مجرمي الحرب أو المجرمين في حق الإنسانية من البلقان أو من روندا. تلك السوابق القضائية يمكنها أن تُسحب على جرائم الإرهاب، دونما حاجة إلى معالجة هذه الأخيرة خارج كل إطار قانوني وعلى نحو يجد مرجعه، هلامياً، في مفهوم ل"الحرب العادلة" مفتوح على كل التجاوزات.
هي طائفةٌ من الملاحظات نطرحها سعياً إلى حوار نعتبره ضرورة حيوية، علما بأننا، نحن الموقعين على هذا النص، لا نزعم تمثيلية من جانبنا، طامحين، من مواقعنا كأفراد، الى تعزيز نزعة النقد والنقد الذاتي التي تحتاجهما ثقافتنا، وحياتنا العربية عموماً، أكثر ما تحتاج.
ولا يسع، بالمناسبة، الا تسجيل درجة القصور التي تعانيها ثقافتنا في هذا المجال، والتي جاء يوم 11 أيلول ليُظهرها، من دون ان تتعلم الكثير منه ومن تداعياته. فقد ثبت بالملموس كم ان الوعي الشعبوي الذي غذّته الحرب الباردة، ومعه الوعي الخرافي لأزمنة سحيقة لم ينجح التحديث في طيّ صفحتها، لا يزالان متمكّنين منها.
والتصدي لهذه المهام منوط بالعرب أساساً، وبمثقفيهم خصوصاً، الا ان المُلاحَظ أن ما يعقّد الأداء على هذه الجبهة، هو بعض السياسات الأميركية التي سبق الالماح اليها. ومن موقعها كان في وسع الرسالة ان تحض، تخصيصاً وتعييناً، على تلافي بعض عيوب تلك السياسات، بإيلاء اهتمام أرفع لمفهوم العدالة، خصوصاً متى طُبّق على الشعب الفلسطيني الذي تعرض، ويتعرض، للظلم. والذي كان ظلمه والتغاضي عنه من أسباب البلاء في الشرق الأوسط عامة.
وهذا، بالطبع، ما لا ينبغي ان يحبط الجهود العربية باتجاه محاورة الآخر الأميركي، واقناعه، كما لا يجب ان يمنح العرب اعذاراً عن قصور يرجع اليهم السبب الأول في تأسيسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.