اواصل تدوين هذه الملاحظات في غمرة مخاض التاريخ، في مقال ثالث. واتساءل: ماذا بمقدور التصوير بالاقمار الفضائية أن يخبرنا عن ما يحصل في الضفة الغربية؟ انه سؤال مثير للاهتمام وربما يكون مثمراً. ففي 1995 أصرت القيادة السياسية والعسكرية الصربية في البوسنة على انكار عمليات القتل الجماعي للرجال واليافعين المسلمين بعد خطفهم من سربرنيتسا. لكن الاقمار العسكرية الأميركية كشفت في حقول في المناطق المجاورة آثار واضحة لعلميات حفر وردم، وأيضاً عدداً من الجرارات المتوقفة على أطراف بعض تلك الحقول. وكان المراسلون الصحافيون ومسؤولو حقوق الانسان اعتقدوا دوماً أن الصرب ارتكبوا مجزرة كبرى بحق الرجال واليافعين من سكان المدينة ودفنوهم بسرعة في قبور جماعية. وادى نشر الصور الفضائية الى معرفة الصحافيين والمحققين فوراً بالمواقع المرجحة لتلك القبور. وشكلت الجثث التي تمكنوا من انتشالها من تلك الحقول دليلاً قوياً لملاحقة قادة صرب البوسنة قضائياً بتهمة جرائم الحرب. وربما كان الأهم من ذلك ان اسر الضحايا تمكنت من استرجاع جثث ذويها. في الوضع الراهن في الشرق الأوسط لا بدّ ان الاقمار العسكرية الأميركية تتخذ مواقع ثابتة فوق اسرائيل وفلسطين المحتلة. ورغم انني لست خبيرة بهذه القضايا التقنية فالمؤكد أن أساليب التصوير الفضائي قد تحسنت، أو على الأقل لم تتراجع، منذ 1995 والاّ لماذا عليّ أن أدفع كل هذه الضرائب الباهظة سنوياً الى العسكريين الأميركيين؟! من هنا فالمهم الآن المطالبة برؤية الصور التي سجلتها تلك الأقمار منذ بداية الشهر الجاري - وهي كلها محفوظة لدى الوكالة الوطنية للتصاوير والخرائط - لنعرف ما جرى في جنين. هل هناك ما يدل على قبور جماعية، أو مثلما حصل في البوسنة وكوسوفو عمليات نقل واخفاء لجثث؟ وما هي المعلومات الأخرى التي يمكن استخلاصها من الصور عن ممارسات اسرئيل في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة كافة؟ لنأمل بأن الأميركيين، في سياق الجهود المستمرة لبناء الثقة بين كل الأطراف في الشرق الأوسط، سيرون ان من المفيد نشر تلك الصور، لأن ذلك قد يشكل مساهمة مهمة في تدوين سجل حقيقي لما حدث في جنين، وربما لا يزال يحدث في انحاء الضفة الغربية. أما اذا امتنع الأميركيون عن ذلك فعلينا بالتأكيد ان نسأل عن السبب. ولنأمل بأنه ليس تورطهم في عملية اخفاء منظمة للحقيقة. الصور لدى الوكالة الوطنية هي من دون شك أفضل ما يمكن الحصول عليه. ومن المهم تماماً نشرها خدمة للحقيقة وبناء الثقة. لكن حتى اذا لم يتم ذلك فهناك صور فضائية من الدرجة الثانية يمكن ان تساعد على تكوين سجل تاريخي موثوق. وهناك صور من هذا النوع تعرضها شركة "ايكونوس/سبيس ايميجيز" التجارية. وقد فهمت من موقع الشركة - قسم الشرق الأوسط على انترنت أن في الامكان طلب صور محددة لمناطق بعينها. هل بدأت وسائل الاعلام العربية ومنظمات حقوق الانسان في طلب مثل هذ الصور ونشرها؟ من الخدمات التي تعرضها الشركة نفسها مجاناً صورة لوسط المدينةالمنورة، ويمكنك ان تميز فيها كل سيارة على حدة اثناء سيرها في الشوارع. هناك أيضا عملية حفريات كبيرة والجرارات العاملة فيها. الوضوح والاضاءة ليسا على أفضل ما يمكن، لكن لشريط متسلسل زمنياً من هذه الصور أن يكشف اذا كانت هناك عمليات حفر في مخيم جنين - مثلاً في الفترة بين سقوط آخر موقع دفاعي وبدء الاسرائيليين بالسماح للصحافيين ومسؤولي الاغاثة بالدخول. * * * انه اقتراح متواضع بالطبع، وربما ليس جديداً، هدفه العثور على وسائل اضافية لتحدي الغطاء الكثيف من الأكاذيب والافتراءات على الفلسطينيين الذي تحيكه اسرائيل لطمس طبيعة وأهداف عملياتها الحالية في الضفة الغربية. فقد سمعنا، هنا في أميركا، الكثيرين من الناطقين الاسرائيليين يؤكدون أن الهدف هو "تدمير البنية التحتية للارهاب". وكما نعلم فان تعابير مثل "الحملة على الارهاب" تلقى تجاوباً واسعاً في الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. ثم ينتقل الناطقون الاسرائيليون بعد ذلك فوراً الى اتهام السلطة الفلسطينية نفسها بأنها جزء من "البنية التحتية للارهاب". ومن هنا تبدو محاولات شارون تدمير كل مرافق واجهزة السلطة وكأنها مبررة. لكن نتيجة هذه المحاولات بالطبع انهيار النظام واشاعة الفوضى في شكل متزايد في المناطق الفلسطينية. ومن المحتمل جداً أن هذا هو الهدف الحقيقي لحكومة شارون - تماماً مثلما أعلن حاكم الجزائر الفرنسي لا فيوليت ان هدفه تحويل المجتمع الجزائري الى تراب. لكن محاولات التدمير الكامل لمرافق حياة شعب ما قد تأتي بنتيجة عكسية، مثلما حصل للفرنسيين في الجزائر، وللاسرائيليين انفسهم في جنوبلبنان. وهل من حاجة لذكر فيتنام؟ * * * أتيت للاقامة في الولاياتالمتحدة في 1982 - وغمرني ذلك الصيف شعور هائل باليأس عندما كنت اشاهد، ليلة بعد ليلة، جيوش شارون وهي تدك بيروت الغربية ومناطق واسعة من جنوبلبنان. لكن ما كان يؤلمني بالدرجة نفسها ادراكي ان الغالبية الكبرى من السكان، في بوسطن التي يفترض انها مدينة تميل الى اليسار، ثم بعد ذلك بأسابيع في العاصمة واشنطن، صدقت أكاذيب شارون وافتراءاته وساندت حملته عليهم. وفي تلك السنة ذهبت الممثلة اليسارية المشهورة جين فوندا وقد تخلت عن يساريتها في الآونة الأخيرة الى الشرق الأوسط لدعم قوات اسرائيل، ونشرت صور لها وهي على سطح دبابة على مشارف بيروت المحاصرة. وربما رأينا هذه السنة توجه بعض مشاهير هوليوود لاخذ صور مشابهة في الخليل أو غزة من يعرف ما هو الهدف المقبل لدبابات اسرائيل. مع ذلك فإن انطباعي العام من رحلة قمت بها أخيراً على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة هو ان قطاعاً واسعاً من الجمهور الأميركي، من ضمنه غالبية اليسار والكثيرين من تيار الوسط، ينظر بقلق شديد الى ممارسات حكومة اسرائيل، ويبدو اكثر استعداداً لانتقاد شارون مما كان الحال في 1982. لكن المؤسف ان هذا التطور الايجابي محدود القيمة، لأن ممثلي الشعب في مجلسي الكونغرس يواصلون اجماعهم على التأييد المطلق لاسرائيل وسياسات شارون مع اسثناء واحد هو السناتور الجمهوري تشاك هاغل. انه لا شك أمر يثير الاحباط، وهو يأتي نتيجة الجهود والقدرة التنظيمية الهائلة لدى اللوبي الاسرائيلي، وأيضاً الافتقار شبه الكامل الى أي قوى توازنه. أين جماعات حقوق الانسان؟ أين المجموعات الأميركية العربية؟ لا أثر لها في أي مكان. وادى هذا التنظيم المحكم للوبي الاسرائيلي الى تقييد كولن باول في شكل كامل، وهو ما يتفق عليه الحزبان. اذ يتهيأ الديموقراطيون، مواصلةً لتاريخهم الطويل في مساندة اسرائيل، لمهاجمته لدى أي تحرك قد يهدد موقع شارون. واذا لم يكن هذا جديداً من الديموقراطيين، فالجديد هو ان اللوبي الاسرائيلي أصبح يسيطر بالكامل تقريباً على قيادة الجمهوريين، مستفيداً من موجة العسكرة في أميركا اليوم والموقف المشترك المزعوم "ضد الارهاب". لكنهم أيضاً نجحوا في تقوية الدعم لهم في صفوف الحزب عن طريق تحالفهم المتين مع المنظمات المسيحية التبشيرية القوية النفوذ في الحزب. ولا بد في هذا السياق من الاعتراف للسناتور هاغل بشجاعته ومواقفه المبدئية، التي يديمها في وجه عزلة سياسية تامة في الكونغرس. * * * الواضح الآن أن اللوبي المساند لاسرائيل نجح في "استعادة" قلب الرئيس جورج بوش بعدما أبدى، لفترة قصيرة بعد الرابع من الشهر، ميلاً الى موقف اكثر انصافاً وانسانية. ولا حاجة للقول ان نتائج تلك العودة الى أحضان اللوبي ستكون مخيفة بالنسبة للفلسطينيين والشرق الأوسط والاستقرار العالمي عموماً. وما علينا عمله هو الحفاظ بإصرار وهدوء على المبدأ القائل بأن حياة أي انسان مساوية في القيمة لحياة أي انسان آخر، والمحافظة على الخط السياسي الانساني النابع من هذا المنظور، وان نتجب بحزم ومهما كان الثمن الغوص في أوحال الحقد العنصري، ونستمر في مناداة المشاعر الانسانية التي لا تزال موجودة لدى يهود اسرائيل وكذلك الأميركيين. ان الاصرار على انسانيتنا المشتركة يشكل في اللحظة الراهنة الوسيلة الأفضل لانقاذ الفلسطينيين - لأننا نعرف جيداً ان ليس من جيوش قريبة يمكنها انقاذهم من القوة النارية الهائلة التي توفرها أميركا لاسرائيل. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.