كلما طلع الاميركيون بفكرة، بتهديد، بإنذار، أو حتى بمبادرة - على قلة المبادرات في هذه الأيام - يقولون خصوصاً للعرب: انها الفرصة الأخيرة. لم تكن هناك فرص حقيقية، ولا أخيرة بطبيعة الحال، وإذا وجدت فإن الاميركيون يجهدون لتضييعها اذا لم تكن تناسب اسرائيل في نهاية المطاف. لنقل ان محادثات الرئيس الاميركي مع ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز "فرصة أخيرة" لجورج دبليو بوش. فالعرب يراهنون على هذا اللقاء. والفلسطينيون الذين حطم الجيش الهمجي الاسرائيلي مؤسساتهم وبيوتهم، وخرب شبكات الكهرباء والري، ودمّر الاقتصاد والطرق والمرافق، وألقى بقذاراته في المدارس والمستشفيات ومآوي المعوقين، لا بد ان يعوّلوا على زيارة الأمير عبدالله التي اكسبتها الظروف المأسوية تاريخية مضافة. انها "فرصة أخيرة" لجورج بوش كي يسمع ويعرف ويفهم ويتفهم: - إن أحداث 11 ايلول سبتمبر شيء ومعاودة الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية شيء آخر تماماً. - ان الربط بين الحرب الاميركية على الإرهاب وحرب شارون ضد الشعب الفلسطيني لم يكن سوى خدعة، وكان يفترض ان لا تسمح الادارة الاميركية به. - ان العمليات الاستشهادية لأنها ليست "انتحارية" هي كل ما تبقى لشعب يتعرض لعدوان خاضه شارون بتغطية اميركية وأصر عليه ونفذه بكل وحشية الجيش المستعمر كما في عصور غابرة. - إن مجازر جنين ونابلس جرائم حرب تضاف الى مسلسل جرائم حرب راكمها الاسرائيليون واعتمدوا دائماً على اميركا لتعفيهم من المحاسبة والعقاب. - ان عملية السلام ولدت مبادرة اميركية ولا تزال أميركية، وان تعطيلها وإفشالها لا يتحمل الفلسطينيون والعرب وحدهم مسؤوليته. فالسلام هو إزالة الاحتلال واسرائيل هي التي تحتل الأرض الفلسطينية والعربية وتتهرب من استحقاقات السلام. - ان التدخل الاميركي لم يفشل في عهد بيل كلينتون لأن الأخير تدخل أكثر مما يجب وانما لأنه لم يتدخل كما يجب، الى ان أخفق في كامب ديفيد لأنه في اللحظة التي كان يجب ان يكون فيها وسيطاً محايداً اختار ان يغلب الانحياز ويفرض تسوية نهائية تفتقر الى العدالة. - ان تجربة عدم التدخل، كما اتبعتها الادارة الحالية، أفادت الطرف الاسرائيلي في لحظة تطرفه ونقضه لكل ما انجز باسم السلام. والأكيد ان المشهد الفلسطيني الحالي هو نتيجة لعدم التدخل هذا بمقدار ما هو نتيجة الارهاب الاسرائيلي. - إن عدم التدخل تحول مع الوقت الى تواطؤ مع شارون في التخريب والمجازر، كما في التملص من التزامات السلام. بل أصبح عدم التدخل نوعاً من اللامسؤولية، وهو ما لا تستطيعه دولة عظمى احتكرت في يدها المبادرات ومنعت الوساطات الاخرى عربية كانت أو أوروبية وجعلتها عديمة الجدوى. - ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع الاكتفاء بطرح "رؤية"، فالمجتمع الدولي يعتبرها طرفاً. واذا لم تكن قادرة على التحرك لأسبابها الداخلية الانتخابية والمصلحية والكونغرسية، فالأحرى بها ان تحرر الاممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى العرب المتصالحين من قيودها وغموض ترددها. - ان الغضب والحقد الناجمين عن أحداث 11 ايلول تحولا الى ظلم للعلاقات الاميركية مع العرب، وان السياسات التي بنيت خطأ على هذين الغضب والحقد ينبغي ان يوضع لها حد، وفي اسوأ الاحوال ينبغي ان لا تجيّر لمصلحة الحقد الاسرائيلي والاجرام الشاروني. - ان الولاياتالمتحدة استثمرت في الارهاب الاسرائيلي، تمويلاً وتسليحاً ودعماً سياسياً، اكثر مما استثمرت في الاعتدال العربي. لكن الاعتدال العربي استثمر في علاقاته الاميركية الى حد لا يستحق معه ان يوصم اعتباطاً ب"الارهاب" أو يعامل بجريرته أو يخاطب بكفر من نوع ان "شارون رجل سلام". هذا بعض ما يفترض ان يعرفه جورج بوش، وان يبني سياساته عليه في الشرق الاوسط. فعندما قال: "إما معنا أو مع الارهاب"، قيل له بالممارسة "نحن معك". لكن العالم وليس العرب وحدهم يقول له اليوم: "إما مع السلام، وإما مع شارون". فما عساه يقول؟ هو الآن مع شارون بكل وضوح، لكنه يتحدث عن السلام. المشكلة ليست مشكلة مصداقية فقط وانما هي مشكلة انعدام رؤية دولية لما تريده اميركا، ولما يريده بوش. يعترف العرب اصدقاء اميركا، قبل سواهم، بأن البوصلة معطلة مع واشنطن والحوار معها مشوش. لا يمكن التحاور مع رئيس الدولة العظمى على اساس بناه مجرم الحرب الاسرائيلي، ولا يمكن التوصل الى نتائج اذا كان بوش أو وزراؤه يفاوضون بشروط ارهابي اسرائيلي لا يحترم القرارات الدولية ولا دعوات الرئيس الاميركي نفسه ولا نداءات المجتمع الدولي. لا أحد يتوهم بأن تغييراً جذرياً سيطرأ على نهج بوش، ولكن التماهي بينه وبين شارون ظاهرة خطيرة لا يستطيع ان يفرضها على أحد، والأهم انه لا يستطيع ان يصنع بها سوى المزيد من الدمار والتخريب والمجازر.