على رغم بحر الأحزان المخضب بدماء الشهداء الأبطال في فلسطين من رام الله إلى بيت لحم ومن نابلس والخليل الى جنين الأسطورة، أقترح بسخرية مريرة ان نوجّه رسائل شكر الى السفاح آرييل شارون لأنه حقق لنا إنجازات عجزنا عن تحقيقها وكشف لنا "المستور"، وقدم للعرب خدمات إعلامية وسياسية لم يحققوا جزءاً يسيراً منها خلال أكثر من نصف قرن من "النضال الزائف"! ومع رسائل الشكر هذه يُطرح سؤال صارخ عن المحاسبة والمسؤولية والتقصير والأسباب والمتسبب في كل ما وصلنا إليه... وهو سؤال مؤجّل بسبب الإنشغال بدفن الأحزان مع جثث الشهداء وإخفاء الآلام بالمسكنات مع أرواحهم الطاهرة والاستيقاظ من الدهشة ازاء الموقف الأميركي الذليل والعجز العالمي... والعربي. فلو كنت مكان الرئيس ياسر عرفات لبادرت بشكر شارون ومعه عتاة حكومته المجرمة على إجتياحه وحصاره لمقرّه وتهديد حياته فقد ساهم في رفع شعبيته إلى أقصى مدى لم يصل إليه في أي مرحلة من مراحل نضاله. وحوّله الى بطل أسطوري لشعبه وقضيته ولقضايا التحرر والاستقلال في العالم عبر التاريخ وفتح له باب أجمل نهاية لأي إنسان، فكيف بالمناضل، وتتمثّل في بلوغ إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة. صحيح أن ما جرى أخيراً من عدوان واجتياح ومذابح رهيبة بحق المجاهدين الأبرار أكبر من "شخصانية المعركة"، فهناك حقيقة لم ننساها يوماً وهي ان الصراع مع اسرائيل والصهيونية العالمية هو صراع وجود لا صراع حدود، وان الغزو الأخير لم يكن سوى حلقة من سلسلة فصول لمخطط جهنمي إجرامي يحاول القضاء على جذور القضية ومحو هوية الشعب الفلسطيني ليكمل نهب ما تبقى من حقوقه وأرضه ومقدساته. ولكن هناك حقيقة أخرى أو جوانب منها تثبت ان من أهداف الغزو الشاروني النيروني القضاء على السلطة الوطنية الفلسطينية بكل ما تمثل، وما تملك من بنية تحتية وأسس للدولة الفلسطينية المستقلة وتصفية رئيسها الذي تحوّل الى رمز بكل ما يمثله للفلسطينيين وللقضية. وفي هذا المجال هناك جانب شخصي ثأري إنتقامي بين شارون وعرفات عمره أكثر من ربع قرن، وصفه الإعلام الاسرائىلي بأنه عبارة عن حرب بين عجوزين لا تنتهي إلا بأن يقضي أحدها على الآخر أو بالقضاء عليهما معاً. ويصف بعض الكتّاب والمعلقين الاسرائىليين هذه الحرب من المنطلق الصهيوني بأنها عبثية مرضية خاصة عندما صارح شارون صحيفة عبرية، مبدياً ندمه الشديد لأنه تعهّد للرئيس الاميركي بعدم تصفية غريمه بعدما اعترف من قبل بأنه نادم جداً لأنه لم يقض على عرفات خلال اجتياح لبنان في حزيران يونيو 1982. وقال أحد الكتّاب أن شارون مريض نفسياً وأن مرضه اسمه "عرفات" الذي تحوّل الى هاجس أصاب صاحبه بالهوس، فهو تارة يحمل سيفاً من خشب أمام وزرائه وهو يصرخ: بهذا السيف ذبح أبي العرب... وبه سأذبح عرفاتوالفلسطينيين! وتارة يصحو من النوم وهو يردد سأقتله... سأقضي عليه ولو بقي من عمري لحظة! ولم ننس أن أول عبارة نطق بها يوم تسلّم الحكم كانت: لن أصافح عرفات ما حييت! أما عرفات الذي نجا من محاولات قتل واغتيال وتحطّم طائرة ونسف وحصار فقد حاول طي صفحة الماضي، على رغم ما في قلبه من جروح. ولكنه لم ينجح في عقلنة شارون ف "القلوب مليانة" كما يقال. لكنه أدمن ركوب أمواج المغامرة والمقامرة بالصمود حتى آخر رمق وفق لعبة شدّ الحبل، أو عضّ الأصابع التي برع بها، ومعها المراهنة على الموقف الدولي والدعم العربي، لكن الخطر كان داهماً فاضطر لأن يردد: شهيداً شهيداً شهيداً! ولا أكشف سراً إذا تحدثت عن أزمة فعلية كانت تمرّ بها السلطة الوطنية الفلسطينية قبل العدوان الغاشم... وعن معضلات خطيرة يواجهها رئيسها... وعن إنقسامات حادة داخل المجتمع الفلسطيني حول أسلوب المواجهة... وعن إنخفاض كبير في شعبية عرفات لا سيما بعد اضطراره لاعتقال العديد من القيادات الفلسطينية وغيرهم من المناضلين المطلوبين من قبل اسرائيل... وكان عرفات يقف بين نيران كل الأطراف، هناك من ينتقده لأنه تساهل ومن ينتقده لأنه لم يتساهل... ولأنه قبل هذا الشرط أو لأنه لم يقبل شرطاً آخر... ولأنه اتخذ هذا الموقف أو لأنه لم يتخذ مثل هذا الموقف. وهكذا كان يجد نفسه في دوامة طرفها في اسرائيل وأميركا... وطرفها الآخر في داخل سلطته ومجتمعه ومنظماته وفصائله على إختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها بدءاً من حماس ووصولاً الى "بيته" في "فتح"!! وهكذا حقق شارون لعرفات ما يحلم به كل إنسان ومناضل يود أن ينهي حياته مجاهداً وصامداً أو شهيداً شرط ان لا ينفق من هذا الرصيد في ما تبقى من عمره. أما بالنسبة للعرب فرسائل الشكر لشارون كثيرة ومتعددة لأنه كان من حيث لا يريد أفضل حليف للعرب وأكبر عدو لاسرائيل في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد فهو ويمينه المتطرّف وكل الاسرائىليين سيستفيقون قريباً من سكرة النصر الزائف ليكتشفوا الحقيقة وليواجهوا بمقاومة من شعب لا يستسلم. رسالة الشكر الأولى، لأنه هزّ ضمائرنا فاستيقظت من طول سبات بعدما ظننا أنها ماتت... والثانية، لأن استيقاظ ضمائرنا العربية فتح أعيننا على إنسانيتنا ومسؤولياتنا تجاه أشقاء لنا مضى على اضطهادهم وظلمهم أكثر من 54 سنة وكدنا ننساهم ونتخلّى عنهم في خضم لهاثنا وراء سراب زائف. والثالثة، لأنه أعاد النبض الى الشارع العربي فتحرّك على نسق واحد من المحيط الى الخليج يرفع شعارات واحدة ويطالب بمواقف مشتركة. والرابعة، لأنه أثبت لنا ان الوحدة بين العرب ليست شعاراً ولا نظاماً ولا إتّفاقاً أو قراراً أو مؤتمر قمة بل هي حقيقة واقعة كامنة في صدورنا وستظل كذلك حتى ولو كره الحاقدون. والخامسة، لأنه مسح الصدأ عن عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وذكّرنا بأن اسرائيل دولة غاصبة محتلة طامعة وحاقدة ولن تتغيّر مهما قدّمنا لها من تنازلات، فكلما قدّمنا لها تنازلاً طالبت بالمزيد. والسادسة، لأن شارون وعصابته ذكّرونا بأن السلام لا يؤخذ الا بالقوة، وان أي سلام غير عادل وكامل وشامل يعيد كل الحقوق والأراضي لا يمكن ان يفرض ولا ان يستمر، وما اقتراح المؤتمر الدولي على المقاس الشاروني سوى محاولة رخيصة لذر الرماد في العيون وصرف الأنظار عن المذابح. والسابعة، لأن شارون وأركان إجرامه في الحكومة والجيش استطاعوا ان يشحنوا نفوس العرب على اختلاف أجيالهم وأعمارهم وأجناسهم، ويملأوا قلوب الأجيال الصاعدة وحتى الأطفال بالروح الوطنية ومتطلبات النضال وروح الجهاد والتضحية والاستشهاد. والثامنة، لأنهم فضحوا لنا مزاعم الشرعية الدولية ومواقف الراعي غير الأمين والخائن لمبادئها ولكل القيم والمبادئ والأخلاقيات والإنسانية وعرى النظام الأميركي بكامله ليثبت للجميع ان الولاياتالمتحدة، التي يزعم أنها القوة الوحيدة المهيمنة على النظام العالمي الجديد، تحوّلت الى رهينة وأداة وخادمة للصهيونية، وأن ديموقراطيتها بمجلسي كونغرسها وحزبيها ما هي إلا كذبة كبرى لا يصدقها إلا المغفلون. والتاسعة، لأن شارون وأركان إجرامه تمكنوا باجرامهم من تفنيد مزاعم "الديموقراطية الوحيدة" في المنطقة، فاذا هي ديموقراطية شريعة الغاب والوجه القبيح والإجرام النازي والتمييز العنصري الذي لا يضاهي ما سبقه من نازية وفاشية وديكتاتورية وعنصرية جنوب أفريقيا قبل تحررها. هذه العينات من رسائل الشكر التي يتوجب علينا إرسالها الى شارون وأركان إجرامه، تدفعنا في المقابل الى طرح سؤال مؤجل لا بد ان نطرحه على أنفسنا بعد كل ما جرى: من المسؤول عن الحال التي وصلنا اليها؟ إنه سؤال كبير قد يقول قائل ان طرحه الآن غير مناسب في ظل المحنة الأليمة التي ألمّت بأهلنا. وهو سؤال مؤجّل والرد الأولي عليه أن أي حدث في العالم لا بد ان يكون له خلفية وسبب وردّ فعل ومتسبب ومسؤول في اطار سياسة "المحاسبة" التي لا غنى لها بأي حال من الأحوال... ومن هذا السؤال المؤجل الكبير تتشعب أسئلة عدة أطرحها بإيجاز على ان أعود اليها بالتفصيل حين تدق ساعة المحاسبة والمكاشفة! ومن هذه الاسئلة أختار: من المسؤول عن توريط الشعب الفلسطيني بهذه الحرب من دون استعداد ولا إعداد ولا تسليح ولا قدرة على مجابهة آلة الحرب الاسرائىلية الغاشمة؟ ومن المسؤول عن تعدد المواقف وتضاربها داخل السلطة الوطنية الفلسطينية وخارجها؟ ومن يحدد صوابية هذا العمل أو تلك العملية وتوقيتها والمصلحة منها! ومن المسؤول عن توقيت عملية نتانيا بعد إقرار مؤتمر القمة العربية لمبادرة السلام السعودية التي كان يتوقع ان يكون لها أصداء مدوية في العالم وتحرج اسرائيل وترمي بالكرة في الملعب الاميركي وترفع يد السفاح شارون عن الشعب الفلسطيني ولو لفترة من الزمن قد تكون كافية لمتغيرات كبرى؟ ومن المسؤول عن توقيت عملية القدس الأخيرة عشية لقاء وزير الخارجية الاميركي بالرئيس ياسر عرفات في مقره المحاصر وسط إجماع عالمي على مطالبة اسرائيل بالانسحاب فوراً وبشكل كامل وتوقع أزمة بين واشنطن وتل أبيب لو رفض شارون دعوة بوش العلنية له بالانسحاب؟ والأخطر من كل ذلك من المسؤول عن صرف الأنظار عن مذابح جنين ونابلس التي كانت ستحدث هزّة مدوّية في العالم وفي وسائل الاعلام فإذا بالادانة تتوجه بسهامها الى الفلسطينيين ويتجه "العطف على المدنيين الاسرائىليين في القدس؟ صحيح ان اسرائيل لا تحتاج لذرائع وان شارون جاء لينفذ مخطط الاجتياح جهنم... ولكن السؤال مطروح؟ ومن المسؤول عن هذا التشرذم العربي والضعف والتخاذل وعدم القدرة على اتخاذ مواقف حازمة حاسمة لانقاذ الشعب الفلسطيني وبالتالي إنقاذ أنفسنا من خطر مؤكد لأن اسرائيل لو نجحت في حملتها هذه فانها ستهدد في المستقبل أية دولة عربية وتسقط أي نظام على طريقة "أكلوك يوم أكلوا الثور الأبيض". إنها اسئلة مؤجلة للتذكير والعرض في هذه المرحلة. ولا بد أن يأتي يوم المحاسبة، ولكن التركيز الآن يجب ان ينصب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترميم الموقف العربي والبناء على المواقف الدولية ولا سيما الأوروبية المتميزة، ومواصلة الضغط على الولاياتالمتحدة... والأهم من كل ذلك التركيز على مسؤولية السفاح شارون وكل من شارك معه في المذابح الرهيبة والضغط على المراجع الدولية لتقديمهم للمحاكمة كمجرمي حرب خصوصاً ان المحكمة الجنائية الدولية أبصرت النور قبل أيام قليلة. * كاتب وصحافي عربي.