يُتهم العرب على الدوام بأنهم فنانون في اضاعة الفرص بالنسبة الى احلال السلام في الشرق الأوسط، ويصل الأمر في بعض الأحيان الى وصف هذه الفرص بالتاريخية أو الفضية والذهبية بزعم ان اسرائيل كانت جادة ومخلصة في عروضها التي تعبر عن "الكرم" الزائد وتقدم "تنازلات" كبرى لا تعوض وان العرب "ضيعوا" الفرص برفضهم أو "بشروطهم". وبكل أسف دخلت مصطلحات كثيرة قاموس قضية الشرق الأوسط، منذ نكبة فلسطين عام 1948 حتى يومنا هذا، تشبه الكذبة الكبرى التي يطلقها المرء وما ان يصدقها الآخرون حتى يصدقها هو ويرددها كأنها مسلمة من مسلمات التاريخ والجغرافيا. فالنضال الفلسطيني أصبح "إرهاباً" في المصطلحات الصهيونية التي يرددها الاعلام الاجنبي، وبكل أسف بعض الإعلام العربي، والانتفاضة أصبحت تكنى بالعنف. ووقف اطلاق النار الذي تطالب السلطة الوطنية بالالتزام به ما هو الا وقف "اطلاق الحجارة"، والحجارة نفسها صارت سلاحاً محرماً من أسلحة الدمار الشامل تهدد أمن اسرائيل، أما اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية واستخدام الطائرات والمدفعية والدبابات والقذائف المحرمة المعبأة بالمسامير ورصاص الدمدم المحرم دولياً فهذا عمل مشروع للدفاع عن النفس أو لضرب الارهابيين، وياسر عرفات المناضل والمجاهد في وجه الاحتلال الاسرائيلي الذي حمل غصن الزيتون ومضى في عملية السلام على رغم المعارضة ورفض التعامل مع محتل لأرضه ووطنه والمعتدي على أهله وشعبه مجرم وقاتل وارهابي في قاموس شارون، أما شارون السفاح الذي ذبح الاطفال والنساء بيديه وأدين في اسرائيل قبل ان يدان من العرب والعالم فهو "حمامة سلام" وزعيم ورئيس حكومة يحصل على أكثرية الاصوات ويفوز بثقة الكنيست، ويطالب العالم العربي بالتعامل معه وتحمل غطرسته والموافقة على شروطه والإقرار بخططه التوسعية الاستيطانية الاستعمارية. اما الحديث عن الفرص المضاعة من تاريخية وذهبية وفضية فهو مجرد دعابة صهيونية لأن جميع المقترحات والمشاريع الاجنبية من اميركية وأوروبية ودولية لا تعطي العرب سوى الفتات ولا تعيد للفلسطينيين سوى "الأعشار" من النسب المئوية التي تؤمن لهم حقوقهم المشروعة وبينها حقهم في استعادة أرضهم المحتلة كاملة غير منقوصة واقامة دولتهم المستقلة بسيادة كاملة غير منقوصة ايضاً وتحرير القدس الشريف كاملة غير منقوصة. أما الاتفاقات التي توصف بالتاريخية فهي، بفضل المؤامرات والمناورات الصهيونية، لم تعد تساوي الحبر المراق على ورقها بعد ان فرغتها اسرائيل من معناها ومبناها وجردتها من كل الايجابيات، وهي قليلة ان لم تكن نادرة. ولا حاجة هنا لتكرار مصير اتفاقات اوسلو وما تبعها من اتفاقات وبروتوكولات من وايت ريفر الى كامب ديفيد الى شرم الشيخ والقاهرة والاسكندرية وواشنطن وغزة ومعبر اريتز والقدس وكل العواصم التي تنقلت فيها المفاوضات وشهدت احتفالات ومهرجانات فولكلورية لذر الرماد في العيون ثم يذهب كل شيء هباء منثوراً بعد التقاط الصور كأن شيئاً لم يكن، فتعود اسرائيل الى عادتها القديمة وهي القضم والهضم واقامة المستوطنات ومحاصرة الشعب الفلسطيني واضطهاده وقصفه وانكار وجود أي اتفاق. والأنكى من كل هذا ان "الراعي الاميركي" تحول الى شاهد زور على رغم انه كان يمثل دور "أم العروسة" ويشرف على المفاوضات والترتيبات والاعداد للحفل وتوجيه الدعوات وتدبيج الخطابات والتعهد بالمتابعة. وبين كل مفاوضات ومفاوضات، وكل اتفاق واتفاق تشتد الضغوط على الفلسطينيين لتقديم المزيد من التنازلات و"ضبط النفس" ومراعاة المحتل وإلا فإن الوحش قادم ليقتل ويدمر ويعيد احتلال الأراضي المحتلة ويقيم الدنيا ولا يقعدها! وهكذا بعد ان كان الهدف المقدس يشدد على تحرير فلسطين من النهر حتى البحر عاد ليتقزم ويحصر مطالبه بالأراضي المحتلة عام 1967 ثم بعد اوسلو بدأت مسيرة التنازلات والمساومات التي يقودها شايلوك تاجر البندقية المعاصر الذي طور تجارته من المتاجرة بالافراد الى المتاجرة بالأوطان والشعوب، وحسن أدواته من السكين التي كان يقتطع بها لحوم ضحاياه الى دبابة وطائرة ومدفع وقنبلة نووية. وأخشى ما نخشاه اليوم ان تصبح أوسلو حلماً من أحلام الماضي بعدما كان يعتبرها كثيرون كابوساً للقضية الفلسطينية وحقوق اللاجئين بالعودة والكرامة والاستقلال وتحرير الأرض والقدس ووقف زحف السرطان الاستيطاني الاستعماري. وهذا ما يدفعنا الى اعادة طرح سؤال يعبر عن المخاوف: ماذا بعد تقرير ميتشل؟ هل أصبح القبول به والعمل ببنوده غاية الغاية ومنتهى الأمل والسعادة والحل؟ وهل يتنبه العرب الى ان اسرائيل سعت من وراء الإدعاء بالقبول بالتقرير، على رغم تحفظاتها الاستعمارية، من أجل اجهاض الانتفاضة وشق الصف الفلسطيني وضرب الوحدة الوطنية خصوصاً بعد الإصرار الغريب على وجوب اعتقال قادة الحركات الوطنية مثل "حماس" و"الجهاد" وغيرهما. وبعد هذا يتحدث المتشدقون عن حقوق الانسان وهم يطالبون باعتقال المئات وفق قوائم نازية اعدتها الاستخبارات الاسرائيلية، من دون أي ذنب ومن دون ان توجه اليهم تهمة تتطلب محاكمتهم وفق الأصول القانونية المتبعة في الدول التي تدعي انها "حرة وديموقراطية وتقدمية". فنحن نفهم ان يطالب الراعي الاميركي باعتقال متهم ارتكب جريمة ما أو ثبت عليه ذلك أو يشتبه بضلوعه فيها أو اعتقل بالجرم المشهود، ولكن ان تعد قوائم تضم اسماء مناضلين ووطنيين لا ذنب لهم سوى انهم اختاروا طريق الجهاد في سبيل تحرير وطنهم وأرضهم وانقاذ شعبهم من احتلال غاشم، ولا جريمة ارتكبوها سوى المجاهرة برفض الاحتلال والرغبة بالاستشهاد في سبيل هذا الهدف المقدس. وكم كنا نتمنى لو ان السلطة الوطنية الفلسطينية سلمت رئيس الاستخبارات الاميركية قائمة بأسماء قادة عسكريين ومدنيين اسرائيليين ارتكبوا مذابح ضد العرب أو حرضوا على العنف والارهاب أو شاركوا في قصف الشعب الفلسطيني وقتلوا النساء والأطفال، وآخر جرائهم قتل النساء الفلسطينيات وهن نائمات مسالمات في خيمة البؤس والعذاب والآلام. ومن حق السلطة ان تقدم مثل هذه القائمة وتضع على رأسها اسم شارون وكل المسؤولين عن "جرائم الحرب" خصوصاً وانها حرب معلنة من طرف واحد. اما الفرص التي يتحدثون عنها فقد أضاعها الاسرائيليون لا العرب على رغم الاعتراف بأن العرب أخطأوا في بعض المحطات والمراحل التاريخية ليس برفض الافخاخ المتمثلة بمشاريع سلام أو مقترحات مبطنة ظاهرها السلام وباطنها العذاب وضياع الحقوق، بل بعدم اللجوء لسياسة المناورة والمراوغة كما تفعل اسرائيل عندما تقول نعم، وتعني لا، بعدما تلغمها بالشروط والقنابل الموقوتة كما فعلت أخيراً في ادعاء قبولها بتقرير ميتشل بعد تلغيمه برفض تجميد بناء المستوطنات وهو شرط أساسي لأي اتفاق أو سلام. نعم، العرب أضاعوا الكثير من الفرص بتشرذمهم وضعفهم وخلافاتهم وعدم قدرتهم على الرد على التحدي الصهيوني بشكل حاسم حازم وموحد لأكثر من نصف قرن من الزمن، وعدم نجاحهم في الضغط على الدول الكبرى والولايات المتحدة بالذات وتهديدها بموقف جدي حازم ضدها اذا واصلت انحيازها لاسرائيل واتباع سياسة ازدواجية المعايير. لكن العرب لم يضيعوا فرص السلام كما يزعم الصهاينة والاعلام الاجنبي، وبعض الاعلام العربي، والذي ضيع الفرص الذهبية والحقيقية والتاريخية هي اسرائيل التي ما كانت تحلم يوماً بأن يمد لها عربي يده أو يقبل عقد اتفاقية سلام معها أو الاعتراف بوجودها واقرار جريمتها في احتلال الأرض الفلسطينية الطاهرة. فماذا قدم العرب لاستغلال أية فرصة متاحة لإقامة السلام... وماذا قدمت اسرائيل؟ انه سؤال يحتاج لبحث جدي وموضوعي لفضح المزاعم الاسرائيلية وتنوير الرأي العام العالمي وشرح الحقائق للجميع وبينهم الكثير من العرب الذين يعتقدون ان فرصاً كثيرة ضاعت علينا، وكان آخرها ما يزعم بأن ايهود باراك رئيس وزراء اسرائيل السابق قدمه في مفاوضات كامب ديفيد الفاشلة، مع اننا نعرف جيداً انه لم يقدم شيئاً يستحق البحث أو يصل حتى الى الحد الأدنى مما ورد في اتفاقات اوسلو المنقوصة والمرفوضة من كل من اطلع على نصوصها المجحفة بحق العرب أو المتجاهلة لقضاياهم الرئيسية، مثل عودة اللاجئين وتحرير القدس ووقف الاستيطان والانسحاب من كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وليس من أجزاء منهما فقط. لقد قدم العرب الكثير من أجل السلام عبر التاريخ... الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر قبل مبادرة روجرز الشهيرة فأجهضتها اسرائيل، والرئيس المصري الراحل أنور السادات ذهب بعيداً في عقد اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة سلام اعترف بموجبها بوجود اسرائيل فضمنت هذه السلام مع أكبر دولة عربية واكثرها قوة وتعداداً وأهمية... والقمم العربية أقرت مشروع السلام العربي الموحد الذي يعرف باسم مشروع فهد نسبة لخادم الحرمين الشريفين الذي صاغ أول مشروع عربي متكامل للسلام... ولكن اسرائيل رفضته، والعرب اعترفوا بالقرار 242 الذي يعني الاعتراف بوجود اسرائيل فقابلتهم باستخفاف ورفض وتعنت، ثم قبل العرب مبادرة الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش على رغم ما فيها من نواقص وحضروا مؤتمر مدريد واقروا بمرجعيته واكدوا من يومها ان السلام هو خيارهم الاستراتيجي الدائم، فكانت النتيجة مناورات ومماطلة لكسب الوقت واعتداءات مستمرة... بل ان العرب وافقوا، أو لم يعارضوا، ما توصل اليه الفلسطينيون في أوسلو مع الاسرائيليين رغم التحفظات الكثيرة عليها من حيث ما تضمنته من بنود وما لم تتطرق اليه أو تجاهلته بزعم انه سيبحث في المراحل النهائية لمفاوضات السلام. فمن الذي أضاع الفرص... العرب أم اسرائيل؟ ومن الذي قدم التنازلات تلو التنازلات؟ ومن الذي عرقل مسيرة السلام ووضع "العصي أمام دواليبها"؟ ومن الذي يرتكب المذابح ويعربد ويهدد ويتوعد ويدمر ويهدم ويقتل ويشرد على رغم الزعم بأن مسيرة السلام مستمرة؟ انها اسئلة تحتاج الى صحوة ضمير عالمية للإجابة عليها ومعرفة الساعي الى السلام"، من ناسف السلام ومضيع فرصه وتوجيه أصابع الاتهام للجاني بدلاً من المساواة بين الجلاد والضحية أو الانحياز الى جانب هذا الجلاد في وجه الضحية. كل هذه الدلائل والوقائع والمستمسكات تثبت ان اسرائيل هي التي أضاعت كل الفرص المتاحة لتحقيق السلام وتجنيب المنطقة ويلات الحروب والاضطرابات والعنف والدم والارهاب، وكل الدلائل تدين اسرائيل، عبر حكوماتها المتعاقبة، لا سيما خلال العقد الماضي، أي بعد مؤتمر مدريد، لأنها اضاعت فرصة ذهبية تاريخية قد لا تتكرر كان يمكن ان تحقق السلام والأمن للاسرائيليين والعرب لولا تعنتها ونواياها الخبيثة... للمرة الأولى منذ بداية قضية فلسطين يقتنع العرب بالسلام ويجمعون على السير في طريقه حتى آخر المشوار، وكان يمكن، لولا ممارسات اسرائيل ان تتطور هذه القناعة لتتحول الى قبول بالآخر وبالتعامل معه بشكل طبيعي ليس بالتطبيع القيري كما جرى من قبل، بل بالرغبة في طي صفحة الماضي ونسيان جراحه وآلامه وظلمه. ولكن اسرائيل أضاعت هذه الفرصة وأعادت الصراع الى نقطة البداية، ويخشى ان يكون قد فات الأوان لاستعادة الاجواء الايجابية التي رافقت انعقاد مؤتمر مدريد للسلام. واليوم، على رغم الاجواء الملبدة بالغيوم التي تسيطر على سماء المنطقة، وعلى رغم حال التشاؤم التي تسود ارجاؤها، ورغم العرفة المسبقة بنوايا شارون وزمرته الليكودية المتطرفة هناك بصيص أمل ضئىل بأن تنجح المساعي الحالية لوقف الارهاب الصهيوني واستئناف مفاوضات السلام، وقد تكون الفرصة الأخيرة لاسرائيل وللسلام والاستقرار فإذا اضاعتها فإنها ستفتح على نفسها أبواب جهنم وتدفن عملية السلام الى الأبد. صحيح انها تعرض عضلاتها وتتباهى بقوتها، لكن صبر العرب له حدود وستأتي الأيام المقبلة لاسرائيل بما لم تكن تتوقعه يوم يعود الى الواجهة مبدأ "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، والقوة لها عدة وجوه وأشكال ويكفي ان اسرائيل خسرت وستخسر الكثير بإضاعتها كل الفرص الذهبية... والتاريخية... التي لن تتكرر. * كاتب وصحافي عربي.