ليس مفهوماً لماذا يعجز كثير منا في العالم العربي عن مراجعة طرائق تفكير ثبت خطؤها، والتحرر من مواقف تعودنا عليها حين يتأكد في الواقع، وليس فقط بالبرهان، عدم صحتها. وينطبق ذلك على نظرتنا الى الانتخابات الإسرائيلية الجارية الآن، إذ لم يستطع بعض المسؤولين العرب مواصلة إخفاء جزعهم من فوز ارييل شارون. بما يعنيه ذلك من تفضيل ايهود باراك الملطخة يداه بدماء أكثر من ثلاثمئة شهيد وآلاف الجرحى والمعاقين. فالسؤال الذي ينبغي أن يجيب عليه الأمين العام للجامعة العربية عصمت عبد المجيد، بعد أن وصف شارون بأنه مجرم حرب، هو كيف يصف باراك إذن، وهل يقل إجراماً؟. وإذا كان أمين الجامعة العربية عبّر عن موقفه علناً، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، فقد نُقل عن الرئيس عرفات موقف مماثل مفاده أن فوز شارون سيكون كارثة حقيقية. ويثير هذا سؤالاً عما فعله باراك على مدى أربعة شهور كاملة. فهل يرى عرفات ما حدث لشعبه بل سلطته الوطنية وأجهزتها كارثة وهمية سيجعلها شارون حقيقية!. أما إذا صّح ما نقل عن مسؤولين فلسطينيين كبار عن أنهم قبلوا استئناف المفاوضات في منتجع طابا قبل أيام سعياً إلى إنقاذ باراك، فربما جاز أن نعتبر هذه هي الكارثة فعلاً. فقد كان ممكناً الجدل حول الفرق بين حزبي العمل وليكود، أو بين باراك وشارون، قبل أن تروي دماء الشهداء أرض فلسطين على مدى أكثر من أربعة شهور. ولكن لم يعد متصوراً ألاّ يكتفي بعضنا بمثل هذا الجدل "البيزنطي" وإنما يسعون أيضاً إلى إنقاذ قاتل لم تبرد بعد دماء قتلاه خوفاً من مجرم حرّض على القتل في "صابرا وشاتيلا" قبل ما يقرب من عشرين عاماً. غير أن المقارنة اليوم ليست بين ما فعله قاتلان، ولكن بين ما يترتب على القتل حين يقترفه كل منهما، وبين أثر فوز هذا أو ذاك على مستقبل الصراع ومحاولات تسويته خلال السنوات القيلة المقبلة. فقد خبرنا، عبر التجارب، أن العالم كشّر في وجه شارون حين قتل، فيما ظل مبتسماً لباراك عندما ارتكب الجريمة نفسها وأفظع منها. ولا ترجع هذه المفارقة إلى أن باراك يخدع العالم بقفازه الحريري، ولكن لأننا نحن الذين نساعد على تثبيت هذه الخدعة. فماذا ننتظر بعد أن نعلن، صراحة أو ضمناً، أننا نفضل صاحب القفاز الحرير حتى إذا لم يقل قسوة عن القبضة الحديد؟!. وليتنا ندرك، هذه المرة، أن فوز شارون قد يكون أقل سوءاً بالنسبة إلى الفلسطينيين، وخصوصاً إذا استثار انتصاره نخوة عربية رأينا قبساً منها على الأصعدة الرسمية والشعبية في بداية انتفاضة القدس في آخر أيلول سبتمبر الماضي، وليست القيادة الفلسطينية تدرس الخطط وسيناريوهات الحركة في عهد شارون بدلاً من تبديد الوقت والجهد في مسعى لإنقاذ باراك. فإذا فاز شارون ستكون هذه هي المرة الأولى، منذ العام 1977 حين صعد مناحم بيغين الى السلطة، التي يستقبل فيها العالم رئيس وزراء إسرائيلياً بمزيج من القلق والخوف والتشاؤم. فقبل ما يقترب من 24 عاماً، استيقظ العالم ليجد زعيم اليمين الإسرائيلي - المتهم بممارسة الإرهاب حتى ضد الانكليز - في قمة السلطة. وظلت هذه نقطة ضعف حاول بيغين أن يداريها ساعياً إلى إثبات أنه رجل دولة لا زعيم عصابة. وكانت صورته هذه أحد أسباب نجاح الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر عليه في كامب ديفيد 1978 ويُعيدها وصولاً إلى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية. ولا تختلف حال شارون كثيراً، وهو يعرف جيداً صورته القبيحة لدى الرأي العام والنخب السياسية في العالم، بما في ذلك الولاياتالمتحدة وأوروبا. وها هي حملة باراك الانتخابية تنعش الذاكرة وتعيد نشر تفاصيل جريمة صابرا وشاتيلاً التي اهتز لها الضمير العالمي في العام 1982. الأمر الذي فرض على الحكومة الإسرائيلية تشكيل لجنة تحقيق فيها. وربما يكون هذا هو الخير الوحيد الذي فعله باراك قبل أن يمضي إلى حال سبيله. وعلينا أن نخطط لاستثمار صورة شارون القبيحة هذه فورياً قبل أن يباشر حملة العلاقات العامة الهادفة إلى تحسينها. فالمتوقع أن يشرع منذ اليوم التالي لفوزه في إرسال مبعوثين الى واشنطن وموسكو والعواصم الأوروبية لهذا الغرض. وهناك ثلاث مهمات عاجلة ينبغي الشروع في بعضها والإعداد لبعضها الآخر من الآن وفوراً: المهمة الأولى، هي فتح ملف مذبحة "صابرا وشاتيلا" ودور شارون فيها على أوسع نطاق. ومن الطبيعي أن تضطلع بها وسائل الإعلام في جانب والمنظمات غير الحكومية وخصوصاً النقابية والحقوقية من جانب آخر، على أن توفر لها السلطات العربية الأجواء اللازمة. ولا تقتصر هذه المهمة على التذكير بوقائع المذبحة وتقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية كهان الذي أقر بمسؤولية شارون غير المباشرة عنها وأوصى بإقالته من منصب وزير الدفاع في ذلك الوقت. فربما يكون ضرورياً كذلك تأييد ما يطالب به شارون في حملته الانتخابية، وهو نشر الملحق السري للجنة كهان. فأياً يكن هدفه من وراء هذا المطلب الانتخابي، فمن شأن تعزيزه ادخال متغير جديد أو عنصر إثارة يضفي مزيداً من التشويق الذي نحتاجه لضمان اهتمام الرأي العام الغربي بها. ومن الطبيعي أن نربط، في أدائنا لهذه المهمة، ماضي شارون التعس بالمستقبل البائس الذي ينتظر المنطقة على يديه، واستقباله بهجوم مركز على برنامجه الانتخابي وخطته التفاوضية التي تخفض ما طرحه باراك على الفلسطينيين إلى النصف تقريباً. ولا يؤتي هذا الهجوم ثماره إلا بأداء المهمة الثانية الملقاة على عاتق حكومتي مصر والأردن، وهي إرجاء عقد أي لقاءات مع شارون الى أبعد وقت ممكن. فالمتوقع أن يبادر بطلب زيارة القاهرة وعمّان وربما عواصم عربية أخرى. وإذا حدث ذلك، سيؤثر سلباً على أداء المهمة الأولى. كما سيعوق المهمة الثالثة الأكثر أهمية على الاطلاق، وهي اتخاذ موقف عربي قوي واضح لا لبس فيه ضد برنامج شارون وسياسته باعتبارها ردة الى الوراء، فإذا لم نستطع دفع عملية السلام الى الأمام في الفترة الماضية، فلنركز على استثمار سعي شارون إلى إعادتها إلى الوراء لتحقيق ثلاثة أهداف يمكن أن تساعد على تعديل ميزان القوى في المنطقة مستقبلاً: أولها هو بذر بذور خلاف بين الإدارتين الجديدتين في اسرائيل والولاياتالمتحدة. وثانيها تنشيط الانتفاضة الى المدى الذي يدفع شارون إلى إخراج كل ما في جعبته من كراهية تجاه الشعب الفلسطيني. ويمكن أن يساهم تصعيد القمع على هذا النحو في تبلور الخلاف المنشود بين إسرائيل والولاياتالمتحدة. وثالثها استعادة أجواء التضامن العربي مع الانتفاضة والتي أخذت في التراجع منذ تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وهذا إذا أمكن تبكير موعد القمة العربية الدورية في عمان من آخر آذار مارس 27 و28 إلى بدايته أو حتى إلى منتصف شباط فبراير إذا أمكن. لقد رد العرب على انتخاب نتانياهو في آخر آيار مايو 1996 بعقد قمة القاهرة الطارئة في منتصف الشهر التالي مباشرة، فلماذا ننتظر ما يقرب من شهرين إذا فاز شارون. وليت الملك عبد الله الثاني يبادر بالدعوة إلى تبكير موعد القمة. والأهم من ذلك هو أن تكون على مستوى المواجهة التي سيتعين علينا خوضها بما فيها من منافع يمكن أن نربحها. وأن يسبقها تنفيذ كامل لما قررته قمة تشرين الأول اكتوبر الماضي في القاهرة من دعم مالي للانتفاضة والقدس. فقد حدث تباطؤ مؤسف في جمع مبلغ البليون دولار إلى حد أنه لم يتوفر حتى منتصف كانون الثاني يناير 2001 سوى 337 مليون دولار لم يتم تحويلها إلى مستحقيها حتى ذلك الوقت. فهل يعقل هذا؟. ولا يقل أهمية عن ذلك تفعيل المقاطعة العربية لإسرائيل بعد أن أُلغي اجتماع مكتبها الذي كان مقرراً عقده في دمشق يوم 10 كانون الثاني يناير بسبب عدم توفر النصاب اللازم. وإذا كان هناك خلاف بين بعض الدول العربية على نطاق ومدى المقاطعة، فلتتم مناقشته بجدية سعياً إلى حل وسط بدلاً من تجاهله إلى أن يموت مكتب المقاطعة. والحق أن أمتنا تدخل منعطفاً حاسماً جديداً إذا فاز شارون لأن انتصاره يوفر لنا فرصاً سانحة نستطيع استثمارها إذا أدينا المهمات الثلاث التي تحدثنا عنها بجدية وإخلاص، مثلما يواجهنا بتهديدات سيزداد خطرها إلى نكصنا عن تلك المهمات. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".