سنة 2001 اعتبرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية سنة تاريخية. السبب لا يعود الى 11 أيلول سبتمبر بل الى نتائجه، الإعلامية خاصة. الصحافة الغربية زادت مبيعاتها بشكل واضح، و"لوموند" على وجه الأخص تخطت رقم أربعمئة ألف عدد يومياً، وهو رقم قياسي لفرنسا وللصحيفة التي لم تكن يوماً الأولى في المبيعات، ولو أنها شكّلت دوماً صورة مثالية عن بلدها: معتدلة، منفتحة على العالم والعالم الثالث، مشرعة أبوابها للمثقفين وللنقاش حول المسائل الملحة. و"لوموند" التي ظهرت في نهاية الحرب العالمية الثانية 1944، حملت بمشروعها فكرة فرنسا جديدة تولد من ركام الاحتلال النازي وتكون رداً على صحافة فرنسية لم تتأخر في التعامل مع المحتل، وفي اشاعة الأفكار اليمينية المحافظة التي مهدت لنظام فيشي ودعمته طوال سيطرته على البلد. إذاً، سنة 2001 شكلت زخماً جديداً لصحيفة لم تكن شهدت نجاحاً ضخماً في العشرين سنة الأخيرة. وهذا النجاح الجديد ثبّت شرعية مسؤولي الصحيفة: الليبرالي جان ماري كولومباني والتروتسكي السابق ادوي بلاينل، وسمح لهما بخوض تجربة جديدة لم تألفها الصحافة الفرنسية، بل حتى لم تجرؤ على التفكير بها: فتح أبواب المجلة لملحق اسبوعي من اثني عشر صفحة من مقالات غير مترجمة الى الفرنسية نشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية. أحداث 11 ايلول كانت قد فتحت المجال، ولكن بشكل رمزي لعلاقة من هذا النوع، اذ ان "لوموند"، غداة تفجيرات نيويورك وواشنطن، لجأت الى زميلتها الأميركية وأصدرت في عدد 13 ايلول صفحة كاملة بالانكليزية مستقاة من صحيفة نيويورك الأولى. كما ظلت خلال أشهر عدة تالية على 11 أيلول تصدر مقالات مترجمة الى الفرنسية سبق ان صدرت في الصحف العالمية، خصوصاً الانكلوساكسونية. الجديد انه منذ اسبوعين ابتدأت "لوموند" اصدار ملحقها الأميركي من دون زيادة سعر الصحيفة، وبخلفية تقديم "الرؤية الأميركية للأحداث العالمية، للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية". في البيان الذي اصدرته الصحيفة الفرنسية، يظهر ان هذا الملحق جاء استجابة ل"تمنيات القراء الفرنسيين" الذين يريدون معرفة ما يجري في القارة الاميركية. كذلك قيل في البيان الصحافي الذي أصدرته الصحيفتان الفرنسية والاميركية، ان التجربة ستدوم على الاقل حتى منتصف شهر تموز يوليو، وان هذا الملحق سيقوم في تحضيره فريق من "نيويورك تايمز"، اي من دون الاستعانة بأي صحافي من "لوموند" في اختيار المواضيع أو حتى في توجيه النصائح حول ما يهمّ أو لا يهمّ القارئ الفرنسي! وبالطبع لم تتأخر "لوموند" في البحث عن مؤيدين لهذا المشروع، أكان على الساحة الفرنسية أو في العالم. ففي عددها الصادر في 10 نيسان ابريل أي بعد أربعة أيام على ظهور الملحق الأميركي في صفحاتها، عثرت "لوموند" على مقالة مديح واطراء لعملها كانت قد ظهرت في صحيفة "ذي دايلي تلغراف" البريطانية المعروفة بمواقفها الأطلسية. وقد اعتبرت الصحيفة البريطانية انجاز "لوموند" ثورة فرنسية جديدة، اذ لم يعد الفرنسيون، حسب "دايلي تلغراف"، هؤلاء الضفادع المتغطرسين: فاعترافات كولومباني بأن اللغة الفرنسية خسرت المعركة وان على فرنسا أن تقرّ بهزيمتها، ومن ثم اصدار هذا الملحق، كل ذلك هزة أرضية تفوق فتح مطعم ماكدونالد على جادة الشانزيليزيه! غير أن الصحيفة البريطانية نشرت العمل الذي كان على "نيويورك تايمز" ان تنشره: مقالة بالفرنسية تحية "للشجاعة" الفرنسية. بيد أن النقابات الفرنسية والعاملين في "لوموند" وصولاً الى قرائها، وعلى عكس ما كتبه مدير الصحيفة، يبدون استياءهم من هذا الملحق الذي، حسب النقابات، لم يناقَش خلال جلسة مفتوحة. فلقد علم معظم العاملين في الصحيفة بالمشروع قبل اسبوعين على ظهور الملحق، أي في نهاية شهر آذار مارس. ويبدو أن كولومباني فضل إبقاء الأمر محصوراً بالمقربين منه، خشية ان يواجه معارضة جامحة. وبدورهم ذهب عدد من الصحافيين الذين شاهدوا "نيويورك تايمز" تتسلل الى صفحاتهم، الى التساؤل: هل هذا اعتراف من "لوموند" بعدم قدراتهم الصحافية على تغطية الأحداث العالمية أو الظواهر الثقافية الاجتماعية والاقتصادية؟ هل ان هذه النشرة ستكون بمثابة إقرار بتفوق الأفكار الأميركية على الساحة العالمية؟ هل هذا الخيار سينفي استقلالية "لوموند" المشهود لها عالمياً؟ ما هي بنود الاتفاق بين الصحيفتين؟ لماذا "لوموند" ستدفع ثمن المقالات ل"نيويورك تايمز"، فيما "العقلانية" تقتضي العكس اذ ان "لوموند" ستقوم بترويج الصحيفة الأميركية؟!. ردة فعل القراء، من ناحيتها، مزجت بين التهكم إرسال رسائل بالبريد الالكتروني باللغة الانكليزية، والتساؤل عما اذا كانت "نيويورك تايمز" ستصدر طبعة بالفرنسية من "لوموند" والرفض القاطع للهيمنة الأميركية الجديدة على أحد رموز فرنسا الثقافية: "سيشعر القارئ لصحيفتكم الذي لا يجيد الانكليزية بأن لا مكانة له ولا قيمة لثقافته"، كما كتب احدهم. نجاح "لوموند" سنة 2001 هل سيكرس نجاحاً جديداً للثقافة الأميركية في فرنسا؟ الاجابة في الأشهر المقبلة. مارك صايغ