العالم الثالث تخطى جغرافيته في السنوات الاخيرة ولم تعد تسميته تقتصر على الدول الفقيرة في الجنوب. منذ فترة ونحن نتكلم عن حالات عالم ثالثية في المدن الغربية الكبرى وضواحيها الشاسعة، غير اننا قلما واجهنا في هذه المدن والضواحي، حالات "صحافية" تُذكر في اجماعها بالمعنى الذي نقرأه احياناً في اعلام دول العالم الثالث. "المخطط" ضد شركة "مصر للطيران" بعد سقوط الطائرة على الشواطئ الاميركية، او "صهيونية" الفنان الفرنسي جان ميشال جار بعد تلزيمه احتفالات الالفية الثالثة في منطقة الاهرامات، وجدت رديفاً لها في الصحافة البريطانية في الاسابيع الاخيرة. بالطبع ظاهرة صحف التابلويد لم تولد البارحة، بل كانت طوال هذا القرن عنصراً بارزاً من عناصر الاعلام البريطاني. وبالطبع ايضاً هناك عدد لا يستهان به من الصحف الاوروبية والاميركية يشبه، في خياراته التحريرية وطريقة معالجته للاحداث، اعلام التابلويد البريطاني. بيد ان ازمة "البقر المجنون" التي نشبت بين بريطانياوفرنسا تخطت في تغطيتها الصحافية البذيئة والشعبوية وسائل اعلام التابلويد، التي اعتدنا على قراءة عناوينها في الاكشاك دونما حاجة الى مدّ اليد الى الجيب لشرائها اذ "المكتوب يُقرأ من عنوانه...". "المخطط الفرنسي، لوبي المزارعين الفرنسيين، الانتقام الفرنسي لجان دارك ولمعركة واترلو...": عناوين لم تتأخر جرائد بريطانية في استخدامها. وهي قد تثير ابتسامة سخرية لدى القارئ العادي، لكنها في بريطانيا تزيد حالياً من حجم المبيعات. فالمعركة ابتدأت في صحافة لندن ضد باريس، حول قضية منع ادخال لحم البقر البريطاني الى فرنسا، منذ مطلع الخريف الحالي. وبالطبع عندما اكتشف، في نهاية تشرين الاول اكتوبر، ان العَلَف الفرنسي يحتوي على مواد مضرّة لا احد يدري ما ستكون عواقبها في السنوات القادمة، زادت حدة عداء الحملة الصحافية البريطانية على باريس. "منافقون" عنونت صحيفة "ذي اكسبريس" وهي تتكلم عن الفرنسيين... "قاطعوا السلع الفرنسية" طالبت الدايلي مايل... "العار لفرنسا" كتبت على طول صفحتها الاولى "الصن"... وحتى "التايمز"، التي لا تعتبر من اعلام التابلويد، تكلمت عن "المزيج الفرنسي من نفاق وخداع...". غير ان الازمة التي نشبت في الاسبوع الماضي، لا مثيل لها في تاريخ الصراع البريطاني - الفرنسي المعاصر. فبعد ان كان من المؤكد ان فرنسا سترفع حظرها عن البقر البريطاني، وبعد الموقف الحازم للاتحاد الاوروبي في دعمه لندن، والزيارات المتعددة بين المسؤولين في كلتي الدولتين، جاء خبر ابقاء الحظر كصاعقة على رأس حكومة توني بلير المدافعة عن خط اوروبي في السياسة البريطانية وعن علاقات ودية مع الجارة الفرنسية. وفهم القرار الذي اتخذته حكومة ليونيل جوسبان لا يتوقف على حسابات فرنسية داخلية، ولو ان جوسبان وجد في القرار الفرصة الذهبية لاجبار الطاقم السياسي الفرنسي على الوقوف الى جانبه. وهناك، بالمناسبة، صدمة فرنسية نابعة من قضية "صحة عامة": قضية الدم الملوث التي جرّت رئيس الحكومة السابق لوران فابيوس وعددا من الوزراء الى المحاكم بتهمة قتل غير متعمد. وهكذا لم يعد اليوم سياسي فرنسي يجرؤ على اتخاذ اي قرار قد يؤدي الى مشاكل صحية ولو طفيفة. على اية حال فخلال ثلاثة ايام شنّت صحف بريطانيا حملة شعواء على فرنسا: "هناك ثابت في تاريخ الفرنسيين: لا يمكن الثقة بهم" الصن، "فرنسا خدعتنا" الغارديان، "انفتاح بلير على الثقافة الفرنسية قاده الى هذا الفخ" التايمز، "الموقف الفرنسي لا يمكن الدفاع عنه" الانديبندنت، كما طالبت كل من "الميرور" و"دايلي مايل" فبمقاطعة السلع الفرنسية، ونشرت الاولى لائحة السلع الفرنسية التي تباع في بريطانيا. كذلك فقط طالبت "الميرور بمقاطعة التفاح الفرنسي خاصة! وابرزت لائحة بأسماء شخصيات بريطانية في عالمي الرياضة والشاشة الصغيرة ممن شرعوا يقاطعون سلع "الضفادع الفرنسية". حتى اللغة غدت عاملاً فعّالاً في الحملة البريطانية. صحيفة"الانديبندنت" اشارت الى ان التنازل الوحيد الذي قام به جوسبان، هو التكلم باللغة الانكليزية مع بلير، و"وهذا التنازل ليس بالقليل عندما يأتينا من فرنسا...". اما بلير الذي يحب التكلّم باللغة الفرنسية، فآثر الرد بالانكليزية لإفهام زميله الفرنسي كم انه غاضب وكم ان الموقف الفرنسي خاطئ. الغريب في هذا الخلاف التجاري في دولة 17 في المئة من سكانها لا يأكلون لحوماً، والذي لا يختلف عن خلافات تجارية اخرى، ان افضل ما كُتب حوله صدر عن بعض السياسيين، بل عن رسائل القرّاء. فالصحافة البريطانية قلما ذكرت، على سبيل المثال، ان هناك خمسا واربعين دولة في العالم تقاطع اليوم لحم البقر البريطاني، وليست فرنسا وحدها هي التي تعلن العداء له. وفي المقابل فالسياسي المحافظ مايكل هازلتاين كان الوحيد الذي تجرأ على التساؤل: "لماذا لا احد ينتقد الولاياتالمتحدة التي تحظر دخول لحم البقر البريطاني والكل يتهجمون على فرنسا؟ ألأن صحف بريطانيا غدت ملكاً لرجال اعمال اميركيين مصلحتهم دفع بريطانيا الى المزيد من العداء لأوروبا؟". كذلك وردت الى صفحة القراء في "الغارديان" رسائل تتحدث عن مسؤولية حكومة مارغريت ثاتشر في قضية البقر المجنون، او عن الصراع الذي كان يجب ان ينشب بين المنتجين والمستهلكين عوضاً عن الحرب البريطانية - الفرنسية. التساؤلات هذه لم تتطرق اليها وسائل اعلام بريطانيا. وحتى قضية مقاطعة السلع الفرنسية، فان الجواب عنها اتى من جريدة "لوموند" الفرنسية التي ذكرت ان "دايلي مايل" حاملة لواء المقاطعة تُطبع في... فرنسا، وان قطارات كونكس التي يستخدمها سكان ضواحي لندن تديرها شركة فرنسية، وان "كهرباء لندن" غدت ملكية شركة الكهرباء الفرنسية، وان بنك الاعمال "همبروس" اشتراها المصرف الفرنسي الشهير "سوسيتيه جنرال"، وان صالة "كريستيز" ملكية مجموعة فرنسية، وشركة شانيل الفرنسية هي التي تصنع اليوم بنادق "هولاند إند هولاند"، بينما معظم الشركات التي تحمل اسماء فرنسية ك"ديليفرانس" او "بريت آ مونجيه" هي بريطانية مئة في المئة. ... من حسنات العولمة "المستهجنة" انها تجعل الخطاب القومي المتشنج حماقة بدائية.