استيقظت أم أحمد من نومها قلقة، لا تعرف ما تفعل. قضت ليلة طويلة تحسب كيف لها ان تحافظ على حياة ابنها أيهم. معاناتها كبيرة، ولا تريد مصائب اخرى. فقدت اثنين من ابنائها احدهما قتل امام عينيها، والثاني اثناء المواجهات: "لن أتركه يموت" قالت في نفسها. وكعادته استيقظ ايهم، تناول الفطور ودع امه وانطلق. طلبت منه ان يبقى في البيت "جنود الاحتلال يطوقون البلدة" قالت مرتعبة. فأجابها بابتسامة خفيفة وقبلة على الخد. لكن ام احمد لم تطمئن، لحقت به: "قلبي قال لي ان ايهم ينوي ان يتحدى الجنود. انه ابني واعرفه". قالت لنا دامعة "في الطريق شاهدني فغضب بشدة وطلب مني العودة الى البيت، "اطمئني هل نسيتي اننا كلنا فداء للوطن". وعادت ام احمد، وحصل ما توقعته. تلك اخر جملة تسمعها من فلذة كبدها. ام احمد ليست الوحيدة. صحيح ان ليس كل ام فلسطينية تودع ثلاثة شهداء، لكن كل فلسطينية مشروع ثكلى... هذه هي حال المرأة الفلسطينية. هي لم تعد كبقية النساء. فحتى المتطلبات الاساسية تفتقد اليها. في ظل الاحتلال لا يشغل بالها البحث عن محلات الملابس او الاكسسوارات، ولا اختيار صالون التزيين لتصفيف شعرها. ما يشغل بالها اليوم كيف يمكن لها ان تحمي اولادها اولاً، ثم تضمن لقمة الخبز لهم ثانياً: "أربعة ايام لم يدخل بيتنا اي نوع من انواع الطعام... طفلي ابن الاشهر الاربعة لم يعد قادراً حتى على البكاء. لقد منعونا من الخروج لشراء الطعام. رجوتهم وقلت لهم ان ابني يكاد يموت. لكن شيئاً لم يهز هؤلاء الجنود المجرمين. وعندما سمحوا لنا كان ابني نام وجسمه هزل"، قالت الأم الشابة شيرين التي قضت اربعة ايام مع المئات محاصرة في مخيم جنين. ولم تكن الام الفلسطينية الوحيدة التي شغلت بالها أربعة ايام في كيفية توفير الطعام لابنها فعشرات مثلها احتجزن داخل بيت بل سجن، لا يتوافر فيه اي من المتطلبات الاساسية. ام هيثم تجاوزت الستين من عمرها وهي وحيدة في بيتها الواقع على طرف مدينة جنين قرب الحواجز الاسرائيلية: "رفضت مغادرة البيت والسكن عند ابني فأنا لا ارتاح الا في بيتي، وقلت لهم اذا كانت كل واحدة منا ستخاف من الجنود فلن تبقى امرأة في بيتها". هناك الكثير من النساء فقدن أزواجهن ويعشن مع اطفالهن وحيدات، و"لا يوجد امامهن اي حل الا بالعيش في هذه الظروف وتحملها والصمود. ولكن أقول لك بصراحة، عندما اصابت رصاصات الجنود زجاج البيت، لا اعرف اذا كانت من صاروخ او سلاح آخر، ادت الى انهيار حائط في البيت، خفت من انهيار بقية البيت الأمر الذي بات محتماً، او ان ضربة اخرى ان لم تصب البيت فستصيبني. عندها قررت التوجه الى بيت ابني". ام هيثم تشعر انها محرومة من كل شيء اسمه حياة: "نحن نعيش هنا فقط مجرد جسد. لا توجد اية حياة انسانية نشعر بها. لا نخرج من البيت ولا نزور الاقارب. حتى ابنتي التي تسكن في حي آخر غير قادرة على زيارتها. اللي ما عاش معنى الحصار لا يمكن له ان يعرف المعنى الحقيقي لهذه الكلمة. انها بصراحة موتنا ونحن احياء". قبل فرض الحصار على جنين لم تكن الحياة أفضل بكثير لأم هيثم كامراة فلسطينية: "اسمعي ما اقوله لك وبصراحة، الأم الفلسطينية هي الأكثر تحملاً للمعاناة. هي التي تفقد زوجها وتتحمل مسؤولية أطفالها وأنت تعرفين جيداً ان عدد افراد العائلة الفلسطينية لا يقل عن خمسة اولاد والاوضاع الاقتصادية صعبة جداً وقليلات من النساء يعملن ولا توجد هناك ضمانات أو مخصصات تضمن توفير الحياة للأبناء اذا ما توفي والدهم. وهنا تكون المعاناة قاسية. فهي في شكل عام لا تكون معتادة على العمل وان اعتادت صدمها شح فرص العمل". شابات مقهورات ومشكلات المرأة الفلسطينية لا تنحصر في جيل ام هيثم، فالفتيات والشابات يعانين في شكل يكون احياناً اقسى. فهذه هي السنوات التي يمكن لهن ان يعملن ويتعلمن ويشققن الطريق لتحقيق طموحاتهن. هالة سمودة شابة في السابعة والعشرين من عمرها، وهي ام لطفلتين، عاشت معظم سني حياتها خارج البلاد وقررت قبل خمس سنوات ان تعود الى ارض الوطن مع والدها: "شعرت ان هناك حاجة لأن أعود، رغبت في الوصول الى فلسطين. الى بيت والدي، الى اقاربي ووطني ولم اتوقع ولا في اسوأ احلامي ان يكون الوضع سيئاً لهذه الدرجة. نلت شهادة في الاعلام، ولم أجد مكان عمل في اختصاصي فاضطررت للعمل في مجال اخر، وحتى هذا لم اوفق به. فالاحتلال والحصار يقضيان على كل فرصة للحياة الطبيعية". تقول هالة التي تقضي طوال يومها في البيت وفي رعاية ابنتيها: "الحياة مملة مزعجة تجعل الواحدة منا تدخل الى حال من اليأس والاحباط، تصوري ان تقضي الفتاة سنوات عمرها في التعليم، وتختار موضوعاً ترغبه وتحبه وتحلم ان تتقدم به وفجأة كل شيء غير موجود. كل الفرص في تحقيق الامل انعدمت. ماذا يعني ان اجلس في البيت لتنظيفه. وعندما تعود ابنتي من الروضة اهتم بهما. وبعدها ماذا يمكنني ان افعل". واستطردت بنبرة جدية: "هذا الوضع طبعاً هو وضع مثالي، كل ما قلته كان عن حالنا قبل حصار جنين اما اليوم فلا أملك ما أقوله". والوضع المثالي التي حدثتنا عنه هالة قد لا نجده بتاتاً لدى معظم النساء الفلسطينيات. فهناك من يعشن في مناطق لا تزال تحت الاحتلال الذي لا يوفر أي فرصة انسانية. والأم في معظم الحالات تعاني أضعاف ما يعاني الرجل. فبالاضافة الى مشكلات البيت والاولاد والعائلة الكبيرة، هناك هاجس الاخ والاب وابن العم، المطاردين دائماً وحياتهم مهددة يومياً. هم لا ينامون في منازلهم وأمهاتهن وشقيقاتهن لا ينمن ايضاً: "طوال الوقت نفكر في حالهم وفي ما يفعلونه: هل هم في مكان بارد؟ هل هم جائعون؟ عطشى؟ هل قتلهم جنود الاحتلال؟... افكار سوداوية تسيطر علينا طوال ساعات النهار والليل". تحدثنا نصرة زبيدة والدة الشهيد نضال الذي نفذ عملية فدائية في بنيامينا. ونصرة، تدفن شهيداً من العائلة ثم تودع آخر: "استشهاد ابني نضال كان بداية. سمعت عن استشهاده بواسطة الاعلام. كانت مصيبة لي. ثم في يوم اجتياح جنين الأول جرت مواجهة شارك فيها ابن عمي زياد وقتل جندياً وعندما اقترب لينزع سلاحه قتلته رصاصة قناص. شهداؤنا في وقت الحصار لم نودعهم تركنا مخيم جنين ووصلنا هنا الى برقين. نعيش حال قلق دائمة. طوال اليوم لا اقدر على فعل اي شيء. اجلس الى جانب الهاتف وأتلقى خبراً بعد خبر. شقيقي طه قتل بعدما تركنا المخيم جراء قذيفة اصابت شظاياها صدره. اثنان من اخوتي لا نعرف عنهما شيئاً. علمنا لاحقاً انهما تحت انقاض بيت كانا فيه، والامر نفسه بالنسبة الى ابني عمي زكريا وجبريل، الاثنان مختفيان، أهما جريحان ام شهيدان او فقط مفقودان. لا احد يعرف مصيرهما. لي اربعة اشقاء وثلاث شقيقات لا اعرف عن مصيرهم اي شيء لا هم ولا أولادهم. تصوري اي صبر ممكن ان يكون للمراة الفلسطينية حتى تتحمل كل هذه المعاناة. لا ادري الى اي مدى سنقدر على الصمود. لا يخلو بيت فلسطيني من مآساة سقوط شهيد. وان خلا من شهيد فان فيه جريحاً مستديماً بالتأكيد. وان لم يكن فيه جريح، فلحق به تدمير، حتى البيارات جرفت. ومعظم سكان مناطق السلطة الفلسطينية يعيشون حال فقر دائم اصلاً، ومثلما يقال: "كفاف يومهم". وهناك عائلات لا يعمل فيها الزوج ولا الزوجة. ولو رفع الاحتلال حظر التجول لبضع ساعات من اجل التزود بالحاجات الأساسية، فانهم لا يملكون المال لشرائها. وأصحاب الحوانيت لم يعودوا قادرين فعلاً على البيع بالدين. ولهذا، فان ساعات الاستراحة النادرة تتحول ساعات تسول من البيوت. ومن يتسول؟ المرأة بالطبع. في كل هذا المرأة ضحية. الرجل غائب عن البيت في معظم الحالات. جوابه على طلبات الاولاد "روح لأمك.. أنا معيش". وعلى الأم ان تلبي الطلبات وتتحمل توتر الجميع. هي المسؤولة عن الطعام. وهي المسؤولة عن المرضى. وهي المسؤولة عن احتياجات البيت. وربما تكون مريضة وربما حاملاً، لكنها ليست معفية من مسؤولياتها بالطبع. واضافة الى ما سبق عليها ان تكون اخصائية نفسية. فالحرب الاسرائيلية طيلة فترة الانتفاضة احدثت آثار نفسية - اجتماعية لا يتصور أحد أخطارها. والفلسطينيون، سلطة وشعباً، غير منتبهين لها، لأن أولوياتهم مختلفة. باختصار، اذا كانت حياة الشعب الفلسطيني تشوهت مرة، فان حياة المرأة الفلسطينية تشوهت مرتين. ومعاناتها ضعفان. وعلى رغم الصمود الاسطوري في وجه الاحتلال، والاستمرار في المقاومة، فان هناك اضراراً تلحق بالمجتمع، تتحمل أعباءها، المرأة وحيدة.