أربعة عقود - تقريباً - مضت منذ تعرفت للمرة الأولى الى أشعار عبدالرحمن الأبنودي، فحملتني الى اجواء وعوالم شديدة الرهافة، إذ امتزجت فيها ملامح العاديين والبسطاء، بالقضايا الكبرى والغايات العامة، بطلاقة جعلت الأبنودي الى جانب فؤاد حداد وصلاح جاهين صوتاً صادقاً، لا تشغله الهموم عن الالتفات الدائم نحو المستقبل بروح فيها الكثير من التفاؤل، والثقة، سواء من خلال قصائده الكثيرة التي غنى خلالها بصوت المعذبين او حتى من خلال قصائده الغنائية، التي اطلقتها حناجر مطربين كثر، وشكلت - في العموم - نقلة نوعية في الأغنية المصرية والعربية، حين اعادت للحب وهجه الحقيقي، المرتبط بالناس والمعتمل في صدورهم وأحاسيسهم، وهم يخوضون غمار الحياة اليومية وتشغلهم متاعبهم الصغيرة واحتياجاتهم الخاصة. عبدالرحمن الأبنودي في رحلته الشعرية الطويلة، مارس التجريب بحرية كبيرة، تمكن خلالها من جعل قصيدة العامية المصرية تتفاعل اكثر مع واقعها، بكل ما فيه من محطات كبرى وهموم عامة. وربما لا ينسى المستمع العربي حتى اليوم، قصيدته الشهيرة "موال النهار" التي كتبها إثر نكسة العرب في حزيران يونيو 1967، وأنشدتها حنجرة المطرب الراحل عبدالحليم حافظ فهزت وجدان الناس. أبرز ما ميّز اشعار عبدالرحمن الأبنودي، كان انحيازه الى فكرة التشخيص، أو بدقة اكبر، ان تتحدث القصيدة عن شخص بالذات، اسمه، مهنته، هموم يومه، وبالتأكيد احلامه البسيطة، وهو تشخيص جعل لقصائد الأبنودي "ابطالها" المعروفين، الذين نلاحق اخبارهم، ونلاحق من خلال اخبارهم "الشخصية" اخبار المجتمع ككل، نرصد حركته، ونلاحظ صعوده وهبوطه، وفي الحالين نقف على قدرة الشعر على محاكاة الحياة الحقيقية بكل ما يجعلها اجمل وأكثر قابلية للعيش. عبدالرحمن الأبنودي، كان خلال سهرة تلفزيونية في احدى الفضائيات العربية عرضة لموجة من الشتائم والاتهامات التي أطلقها بحقه شاعر آخر، وقد أعجبتني رباطة جأش الأبنودي وموضوعيته، حين ردّ على ذلك كله بالقول: لن أواجه احداً إلا بالقصيدة، ومن اراد ان يهزمني عليه ان يفعل ذلك بالقصيدة، وبالقصيدة فحسب. هذه الروح المتواضعة والكبيرة في الوقت ذاته، هي التي جعلت عبدالرحمن الأبنودي في كتابته عن الانتفاضة الفلسطينية، يتفرد عن غيره من الشعراء العرب. ففي حين راح بعضهم يزايد على الانتفاضة ويفصل لها البرامج السياسية كما شاء له الهوى، كان الأبنودي بحسّه الوطني والقومي العميق يقول لأهل فلسطين "الحل من جوّه"، مؤكداً عروبته الحقيقية وانتماءه الصحيح الى أهله ومجتمعه.