لم يكن عبد الرحمن الأبنودي «شاعرا» في عيون المصريين فحسب، بل كان واحداً منهم. آثر الحياة معهم والتحدث بلغتهم فخرجت قصائده ساخنة بحرارة الأرض والشعب. «الخال»، كما أحب الناس أن ينادوه، كان وسيظل صوت مصر وأهلها. وهنا كلمات وداع من أصدقائه ومجايليه. يوسف القعيد:بين الأبنودي ونجيب محفوظ عرفت الأبنودي وعشقت أغنياته عن ثورة تموز (يوليو) ولا أنسى أبداً أغنية مثل «أحلف بسماها وبترابها» أو «عدّى النهار». كلماته كانت تحكي كلّ شيء عن الوطن آنذاك. أولى زياراتي بيته كانت بصحبة عبدالله إمام، حين ذهبنا إليه معاً في بيته القديم في عمارة صغيرة مكونة من أربع طبقات بجانب قصر «عائشة فهمي»، الموجود في شارع المعهد السويسري في حي الزمالك. بعد ذلك تعددت اللقاءات التي جمعتني به إلى أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988، وكنّا حينذاك نلتقي كل ثلثاء في مقهى عائم على النيل اسمه «فرح بوت». كانت البداية عندما جاء الأبنودي إلينا يوماً ليزورنا، فطلبنا منه أن يداوم على المجيء. كان الأبنودي يجتاز المسافة من بيته في المهندسين إلى المقهى في الجيزة سيراً على قدميه، رغبة في الاقتراب من الناس والارتباط بهم، محاولاً الإنصات إلى أنينهم وفرحهم أيضاً. الناس للأبنودي همّ الربان والإشارة... هم كل شيء. في رحاب نجيب محفوظ وعبر جلسات يوم الثلثاء تعارفنا وتبادلنا القصص والكتب والحكايات الجميلة والمدهشة. وعلى رغم أنه شاعر العامية إلا أنه كان يستخدم العربية الفصيحة في حديثه معنا، وكان حريصاً على العربية الفصيحة حرصه على العامية التي يكتب بها أشعاره. الأبنودي هو شاعر العامية الأبرز، غنى له كبار المطربين فترة الستينات والسبعينات وفي مقدمهم عبدالحليم حافظ، وظلّ قارئاً جيداً للأدب. وفي سنوات التلاقي هذه أخبرنا الأبنودي يوماً أنه يكتب رواية لكنّ أحداً لم يعرف مصير هذا النص الروائي. قبل عامين أو ثلاثة ذهبت لزيارة الأبنودي في الإسماعيلية ومعي أسامة شلش، مدير تحرير الأخبار، والروائي الكبير جمال الغيطاني، وعبدالمجيد محمود، ومحمود طاهر رئيس النادي الأهلي. يومذاك حدثنا عن المقبرة التي بناها كي يدفن فيها، والتي تطل على قناة السويس مباشرة. وصف لنا الطريق والشارع المؤدي إليها، وشعرت بدهشة شديدة أمام هذا الرجل الطافح بالحياة الممتلئ بالأمل، والذي لا يهاب الموت ولا يهرب منه ولا يعتبره هزيمة للحياة إنما استمراراً لها. تعلق الأبنودي بمدنية الإسماعيلية وأحبها إلى حدّ أنه أوصى قبل وفاته بأن يُحمل إليها للصلاة عليه هناك. وأتصور أن ارتباط الأبنودي بالإسماعيلية كان شديداً وأن هذه المدينة ساعدته صحياً بما تتمتع من مناخٍ جميل ساعده على التنفس بلا مشاكل، لا سيما أنه كان يعاني مشاكل في الرئة. رحم الله الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي الذي أسعد قلوب المصريين والعرب على مدى أربعة عقود بكلماته وأشعاره الوطنية القومية. محمد كشيك: «مسير الشمس» لا أعرف سبب بكائي كلما استمعت إلى واحدة من أغنيات الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، «مسير الشمس». لقد مرت صداقتنا بالكثير من مواقف البهجة والألم، ولكن تظل هذه الأغنية ذات سحر خاص، كأنها ملهمتي. وأنا كلما استمعت إلى كلماتها، دمعت عيناي، وهو كان يعرف ذلك ويقدره. بل إنّ جميع أصدقائي يعلمون قصتي مع هذه الأغنية. وفي رحيله أدعو الله أن يغفر له ما تقدم من سيئاته التي لا أظنّها كثيرة. فالأبنودي هو شاعر وإنسان. صلاح فضل:وجدان الشعب يمثل عبدالرحمن الأبنودي حلقة مهمة في السلسلة الذهبية لشعراء العامية المصرية الذين بدأوا ببيرم التونسي وصلاح جاهين وفؤد حداد قبل أن يأتي الأبنودي ليلتقط خيطاً آخر انحدر إليه من أحمد رامي الذي توافق مع أم كلثوم على ترك اللغة الفصيحة الكلاسيكية جانباً وصناعة فصحى جديدة تعتمد على لغة الصحف اليومية، وتقترب من روح العامية لتشكيل الأغنية المعاصرة الراقية. التقط الأبنودي هذا الخيط مع كوكبة من «شعراء الأغاني» في الستينات ليضخ في دم الأغنية المصرية والعربية طاقة تخييلية وتصويرية لم يكن لها عهد بها. فاستخدم المجاز الذي أصبح شعبياً بعد ذلك، وحوّل الصورة الفنية من متعة الخاصة المتذوقين اللغة إلى زاد يومي من الشعر لعامة الناس. أسعفت الأبنودي في هذه العملية رهافة حسه اللغوي وعمق وجدانه الشعبي وقدراته على تجسيد الكوامن الخفية للفرد والمجتمع، ليس في الصعيد وحده حيث ولد وتربّى، إنما أيضاً في القاهرة التي هاجر إليها صبياً وأبدع في شوارعها وأزقتها. كان طموح عبدالرحمن الأبنودي أن يصنع العامية قصيدة وليست زجلاً كما حدث في مرحلة بيرم التونسي. كان يرى إلى قصيدة عامية تتميز بإطارها الموسيقي الدقيق وبنيتها التخيلية لتحفر عميقاً في وجدان قارئها مهما كانت ثقافته محدودة وأحاسيسه ضعيفة. اهتم عبدالرحمن الأبنودي منذ صباه بالملاحم الشعبية المكتنزة بتراث الأجيال السابقة واستثمر مخزونها في كتاباته الشخصية، فاشتغل مع رواة الملاحم لكي يعمق جذوره في الشعر الشعبي ويرتفع بمستواه ليضاهي شعراء الفصحى وينافسهم. بطبيعة الحال ثمة شعور زائف لدى حرّاس العربية الفصحى من الأكاديميين والمحافظين بأن أي انتعاشٍ أو رواجٍ أو حضور لفنون العامية يعود بالسلب على اللغة الفصيحة ويكسر أرضها، وهذا ما أجده خطأ فادحاً، لأن الشعريات التي تعمل في منطقة لغوية واحدة تخضع لنظرية الأنابيب المستطرقة. برهن شعر الأبنودي كثيراً حركة الشعر الفصيح عند صلاح عبدالصبور حجازي، ورفيق دربه أمل دنقل، بقدر ما يمد هذا الشعر الفصيح أيضاً بنسقٍ جديد من الحيوية التي تتمخض عنها سخونة الحياة في الشارع والمنزل في الوقت الراهن. وهذا يعني أنه كلما تفوق شعر العامية، صبّ ذلك في مصلحة شعر الفصحى، وكلما ارتفع منسوب ثقافة شعر الفصحى أفاد ذلك شعراء العامية. فالعلاقة بينهما على عكس الشائع هي علاقة تكامل لا تنافس ولا تنافر. استمر عبدالرحمن الأبنودي في تنمية ذائقته بعد أن انتشرت كلماته على لسان كبار المغنين في العصر الذهبي للأغنية المصرية في الستينات والسبعينات، ولكن فاته حلقة مهمة تتمثل بالتعاون مع نجمة ذاك العصر، أم كلثوم. ولا أعرف على وجه التحديد ما إذا كان الأبنودي سعى إلى التعامل معها أم لا، لأنّ من الجدير كان أن تغني له أم كلثوم، هي الباحثة الدائمة عن الشعرية الجديدة، بخاصة مع لمعانه في تلك الفترة عبر صوت عبدالحايم حافظ وغيره من المطربين. أو قد تكون صداقة عبدالحليم هي التي منعته من ذلك للحساسية الشديدة التي كانت قائمة بينه وبين أم كلثوم. ولكن على أية حال، لم يفقد الأبنودي كثيراً بتجاهل كوكب الشرق إياه لأن أصواتاً أخرى شجية وحميمة مثل شادية ونجاة وصباح وأخريات وآخرين أوصلت كلماته الجميلة وشدت بها المفاصل الوطنية واللحظات الشجية التي كان يحتاج فيها الوجدان المصري إلى تغذية فكرية وتخيلية بمستوى إبداع عبدالرحمن الأبنودي. ثمة فصل دقيق وحساس من فصول التحام حياة الأبنودي بمسار الشعر والثقافة في العقود الأخيرة وهو طبيعة علاقته بالسلطة، فقد بدأ يسارياً ملتزماً ولم ينجرف وراء أمل دنقل، صديقه الحميم في عداء السلطة فترة حكم السادات، وآثر المهادنة طويلاً في عهد مبارك حتى حاول جمال مبارك أن يورطه باعتباره مشجعاً للتوريث فصاحبه إعلامياً أمام المصورين لكي يبدو الأبنودي داعماً هذا التيار. وكانت صداقته بوزير ثقافة مبارك الأطول عمراً - فاروق حسني - على درجة كبيرة من الحميمية والالتصاق، من هنا كان من العسير على الأبنودي عند قيام ثورة 25 كانون الثاني (يناير) أن يقدم ذاته باعتباره أحد مثيريها ومشعلي حرائقها كما فعل أحمد فؤاد نجم الذي كان يتقدم بذاته وأشعاره صفوف الثوار. لكنّ الأبنودي وفي مناورة بالغة المهارة ونتيجة لخبرته الإعلامية الفائقة وبمساعدة زوجته الثانية استطاع أن يقفز على هذه الفجوة، وأن ينضم بسرعة إلى موكب الثوار، وأن يتكئ على بعض قصائده القديمة التي كانت في المرحلة اليسارية الثورية الأولى، ويبرهن أنه ليس بعيداً من الثورة، وأنه لم يفقد علاقته بالشارع المصري من ناحية، وبالإعلام من ناحية ثانية. فاستطاع أن يكتب في هذه المرحلة أيضاً قصائد مطولة تضعه مرة أخرى في مقدم صفوف شعراء ما بعد ثورة 25 يناير. كل هذا يحتاج إلى مسحٍ تاريخي وتحليل شعري دقيق، لكنّ المحصلة التي انتهى إليها عبدالرحمن الأبنودي أنه خلال العقود الأخيرة تربع على عرش شعر العامية، ليس في مصر وحدها، إنما في أقطار العالم العربي التي تعتبر العامية المصرية أيضاً تعبيراً حميمياً عنها. أحمد عبدالمعطي حجازي:شاعر مصر والصعيد عبدالرحمن الأبنودي شاعر حقيقي، وصوت متميز في الشعر المصري، وله إضافاته التي تتمثل قبل كل شيء في اللهجة الصعيدية التي أصبحت في شعره لغة شعرية يمكن أن تترجم إلى أي لغة أجنبية ويجدها أبناء هذه اللغة شعراً حقيقياً.