في وقت ما في الماضي غير البعيد كانت هناك مقاييس قليلة للفنون عموماً ولفن الأغنية خصوصاً تتمثل في الصوت واللحن والكلمة. وهناك مقياس آخر مهمل في العادة هو الأداء، وخرّجت مدارس الغناء العربي عمالقة كباراً في هذا الفن جميعهم ساروا تحت راية هذه المقاييس، فترى الناس حينذاك يتجمعون عند المذياع يستمعون وكأنهم ينتظرون خبراً من غائب أو خطبة لزعيم عظيم. يمتلك المثقف مكانة تؤثر تأثيراً نوعياً في الوعي العام بينما المغني في نظر الكثيرين هو مجرد صوت يطير في الهواء ويذهب تأثيره بانتهاء زمن الأغنية. فهل المغني حالة متقزمة وغير مسؤولة لا تستحق الربط بينها وبين المثقف الذي يقوم بالدور التعبوي للطاقات الإبداعية والشريك المسؤول في مواجهة الأزمات؟ ومن هو الحامل الثقافي الأخطر: المغني أم المثقف؟ وما هي العوامل التي تساهم في تكوين العلاقة الحية والمتفاعلة بين المبدع والمتلقي؟ يرى الفنان اللبناني مارسيل خليفة في سياق الغناء أن المضمون لا ينفصل عن الشكل من حيث التأثير، فالجمهور يعيش في وضع يشعر إزاءه بأن وضعه القومي يهتز، فهو في منطقة ساخنة: احتلال... تحرير... اسرائيل... أميركا... صراع... فعندما يحفظ شخص أغنية ما يشعر أنها في وجوده الروحي والنفسي، فالموسيقى يألفها والكلمات تعبر عن مرارته والبساطة في الأداء تجعله قادراً على التجاوب ولهذا تراه يغني. ويتساءل أحدهم هل راغب علامة ومصطفى قمر وغيرهما من المطربين هم المعبرون الحقيقيون عن فكر أو ذوق هذه المرحلة؟ وهل يقودون مرحلة التثقيف لجيل الشباب كما قادها أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ومارسيل خليفة وفيروز؟ وهل هناك طبقة مختلفة الذوق تمارس طغيانها وديكتاتوريتها على الطبقات الأخرى؟ يقول أحد النقاد واصفاً مطربة عادية: "عندما تغني لا يعود بإمكانك أبداً أن تلتقط أشياءك التي تبعثرت... تجعلك هكذا تعبر وتذهب مع الكلمات في كل اتجاه". لا شك في أن النتاج الثقافي الإعلامي والفني يجب أن يكون شديد الالتصاق بالجماهير ليلخص بدقة وأمانة الجوانب المهمة من حياة الناس العادية. ولعل هذه الجوانب هي التي تلامس وعي الجماهير الأولي. والوعي الأولي هو الوعي المباشر الذي ينظر الناس من خلاله إلى التجربة الاجتماعية التي يعيشونها في فترة من فترات التاريخ. فالفن يمثل بنتاجه المختلف صورة ملتصقة في معظم الأحيان باللغة اليومية التي يتناول الجمهور من خلالها مشكلاته وعلاقاته بالعالم الذي يحيط به، وعلى الفنانين أن يعرفوا دورهم بشكل صحيح وسليم لا أن يكونوا موظفين مفروضين على الناس يقدمون واجبهم الوظيفي ثم يتقاضون أجرهم معتقدين أنهم أدّوا أدوارهم. فهل الثقافة العربية ثقافة غافية أمام استيقاظ الأغنية؟ تتوافد على الساحة الفنية يومياً أعداد ضخمة من أولئك المطربين الرياضيين جداً والذين يقفزون كالمهرجين ولاعبي السيرك ويغيرون أشكالهم ويحلقون رؤوسهم بموديلات يقف لها الشعر. والمصيبة فوق كل ذلك يقدمون أنفسهم على أساس أنهم يحملون راية الأغنية الشبابية ويمثلون جيل الشباب بأكمله وتساندهم في ذلك بعض المحطات الإعلامية التي لا تقل هشاشة عنهم، بينما يقبع بعض المثقفين في قواقعهم خائفين من عملية الاقتلاع الثقافي. إن الأغنية "الهزازة" المقدمة بطريقة الفيديو كليب في معظم الأحيان تميل إلى طرح نفسها بزي جديد وشكل بصري خادع وجذاب إضافة إلى الإثارة الجنسية التي تعتمدها معظم الأغاني الشبابية كأن يوجد في الأغنية الواحدة - سواء كان المطرب رجلاً أو إمرأة - نساء جميلات شبه عاريات ليصلن بذلك إلى أكبر شريحة من الشبان الذين يلتقطونها ويحفظونها ويحفظون حركات الراقصات ويعملون على تقليدهن ومؤازرتهن. هل فقدنا الإحساس بجمال أو أهمية الكلمة وهل نحن معدومون إلى هذا الحد لننسى الأغاني الخالدة لعمالقة الفن العربي من مطربين كبار وموسيقيين؟ وهل ستشعر الثقافة باليأس؟ وهل ستحل محلها ثقافة الفيديو كليب؟ هذا ونحن في بداية عصر الفضائيات والانترنت والعولمة فكيف ستؤول حالنا بعد قليل حين نمتلك وسائل التكنولوجيا العالية؟ وهل سنجد بعد فترة قصيرة أرقاماً جميلة للإتصال في أسفل الشاشة... كفانا الله شر الحسد.