تجاوزت الآلة العسكرية الإسرائيلية نقطة اللاعودة بسلوكها طريق الحرب ضد الفلسطينيين الى النهاية، وذلك كردّ مباشر على مبادرة سلمية اتخذتها القمة العربية بالإجماع في بيروت. وبتوغل القوات الإسرائيلية الممكننة في شرايين مدن الضفة تعيث فيها موتاً ودماراً، أصبحت المجابهة العربية من موقع الضعف مصيراً حتمياً بعد ما يزيد على نصف قرن من خداع النفس والتهرب من تحمل هذه المسؤولية التاريخية والإعداد لها بكل ما تتطلّبه من جهد في مختلف الحقول. فهم الشعب العربي، ولم يفهم الحكام العرب، أنها مجابهة لا بدّ منها فنشأت بين العرب وحكامهم فجوةٌ عميقة. الدولة التي كان من المفترض أن يخلقها الشعب في خدمة قضاياه منذ نال العرب الاستقلال تحوّلتْ إلى آلة قمعية ضده، يخدمها ولا تخدمه. والحكام الذين كان يفترض أن يمثّلوا الناس ويعملوا على تحقيق غاياتهم وتطلعاتهم تحوّلوا إلى قوة تسلطية تمنع عنهم الحياة، فأصبح العرب منذ منتصف القرن العشرين معرضين للذل المزدوج خارجياً وداخلياً، وكان أن لجأ الكثيرون منا للإحتماء بالصمت والهرب والخضوع وتجنّب المواجهة وطلب السلامة والإنشغال بالشؤون الخاصة. غير أن ما شاهدناه لدى إقتحام الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية أثبت لنا بكل وضوح أن مارد الشعب بدأ يستيقظ من نومه ويستعيد وعيه وإحساسه بكرامته بعد ما شاهد من فواجع لا يتصوّر العقل إمكان حدوثها بكل هذه الوحشية. وقد تفاجأتُ، كما تفاجأ الكثيرون، حين سمعتُ فتاة في تظاهرة في مخيم اليرموك قرب دمشق تقول: "إما أن نعيش بكرامة أو نموت بكرامة". لم أسمع من قبل مثقفاً عربياً يعبّر عن المشكلة بكل هذه البلاغة. ولو قالها حاكم أو قائد أو كاتب معروف لتردّدتْ إلى نهاية النهاية في وسائل الإعلام في مختلف المناسبات. أن أجمل ما سمعتُ من لغة معبِّرة كانت لغة المرأة الفلسطينية. قالت إحداهن بألم مكبوت: "راح مني إبني". كيف يمكن أن يحصل مثل هذه الفواجع بكل بشاعتها وأن نشاهدها وجهاً لوجه على شاشات التلفزيون حتى نكاد أن نلمس الجرح، وليس مَنْ يستطيع وضع حدّ لها مهما بلغت قسوتها وشراستها؟ شعب بمجمله معرَّض لإبادة. بشر يموتون تحت الأنقاض، ويقتلهم الجوع والعطش. مصابون في الشوارع ينزفون حتى النهاية من دون إسعاف. عائلات تسكن في بيوتها مع موتاها لا تستطيع دفنهم. ويتخذ الجيش الإسرائيلي الناس دروعاً بشرية. وتهدم بيوت العبادة. كيف يمكن أن يحدث كل ذلك في عصر ما بعد الحداثة اذ يُقال لنا أن التكنولوجيا إختصرت المسافات والأزمنة ووفّرت للانسان وسائل تمكّنه من التغلب على مشكلاته المستعصية. إن بين أهم ما نستنتجه من عبَر في هذا الزمن التعس ومن خلال التجربة الفلسطينية أن الشعوب الأكثر تقدماً في مجال التكنولوجيا هي الأقل أخلاقية والأكثر توحشاً. لقد تجرّدتْ من إنسانيتها وتحوّلت إلى آلة. بهذا أرى إن هناك علاقة عكسية بين التقدم التكنولوجي والتمدن. أمام مشاهدة الفواجع الفلسطينية بكل أبعادها، إنتفض مارد الشعب في شوارع القاهرة وعمان وبيروتودمشق وبغداد وصنعاء والمنامة والرباط وغيرها، وفي انتفاضته بريق أمل مشِّع. نسأل هل إستعاد الشعب وعيه وإحساسه بكرامته؟ هل بدأ يستيقظ ويؤكد دوره، أم يعود إلى النوم بعد حصول هدنة من نوع ما؟ في دار الأوبرا المصرية جرى غناء جميل من أجل فلسطين، غير أن برنامجاً خليعاً في قناة تلفزيونية لا يزال خلال الدمار الإنساني يرقص ويغني يا ليل يا عين في محاولة لإلهاء الشباب عن قضاياه العامة وعن هويته مأخوذاً بالأزياء وصبغ الفتيات لشَعرهن بلون أشقر كي تبدو غير نفسها. هل أصبح طموحها أن تكون غير نفسها ومن أجل ماذا؟ أهم من كل ذلك أن نطرح سؤالين: أحدهما يتعلّق بكيفية تحوّل الدولة في المجتمع العربي إلى قوة ضد الشعب بدلاً من أن تعمل في خدمته وتوفّر له الكرامة والحماية والمناخ الضروري للابداع والمشاركة في صنع مصيره والفعل في التاريخ؟ أما السؤال الثاني الذي نطرحه هنا ونتوقف عنده فهو: كيف سمحت اليهودية واليهود والقوى العالمية بأسرها أن تتحوّل الصهيونية إلى وحش مدّمر يستطيع أن يرتكب كل هذه الفظائع ويظل مقتنعاً بينه وبين نفسه بأنه يمارس حق الدفاع عن ذاته محوِّلاً الصياد إلى ضحية والطريدة إلى كائن إرهابي؟ في مقالة أخرى، سأتعرض للسؤال الأول عن تحوّل الدولة في المجتمع العربي الى قوة ضد الشعب. في الواقع أنني حاولتُ الإجابة على هذا السؤال تفصيلاً في كتابي المجتمع العربي في القرن العشرين مركز دراسات الوحدة العربية. في هذه المقالة أريد أن أركّز على السؤال الثاني المتعلق بتحوّل الصهيونية إلى وحش مفترس مستعيناً بنقاشات بين قلة من اليهود أنفسهم علناً وليس سراً في ما بينهم. يقوم فريق منهم بالإعداد لمسرحية مستمدة من أسطورة انتشرت باسم "غولم" بين يهود أوروبا منذ قرون. تقول الأسطورة هذه أن بين أهم إنشغالات اليهود كجماعة دينية وقلقهم اللجوء للعنف التدميريّ في الدفاع عن أنفسهم، الأمر الذي كثيراً ما ينتج عنه دمارٌ ذاتي. ويحاول هذا الفريق المسرحي في نيويورك، في الوقت الذي تحاول إسرائيل تدمير الانتفاضة الفلسطينية، أن يستمدّ من هذه الأسطورة نصاً يعبّر عن القلق من الدمار الذاتي في محاولة تدمير الآخر، إذ يرى البعض بين اليهود إلى ان المأساة الجديدة هي تحد مُرْسَل إليهم من الله، فالدبابات لن تنفع وليس من خلاص سوى بالدعوة إلى الله أن يرسل المسيح المنقذ الذي طال غيابه. ولكن أي مسيح يريدون؟ تقول أسطور "غولم" التي تعود للقرن السادس عشر في مدينة براغ إن حاخاماً نفخ نَفَسَ الحياة في تمثال من الطين في محاولة لخلق منقذ لليهود من الحصار المضروب على الجالية اليهودية كي ينتقم لهم من أعدائهم. وكان أن تحوّل التمثال، حسب هذه الإسطورة، إلى كائن جبار هو "غولم" الذي تمكّن من ان ينتقم من الأعداء فأعلنه اليهود بطلاً منقذاً. ولكنه بالفظائع التي إرتكبها أُصيب بالغطرسة وتمادى في إنتقامه مما تسبّب بإهدار دم من جاء في الأصل لحمايتهم. منذ ذلك الوقت تحوّلت الأسطورة إلى نصّ يصوّر إغتراب الانسان عن نفسه وعن مخلوقاته. ما يصنعه الانسان يتحوّل من دون إرادته وبلا وعي منه إلى قوة ضده. يُنشىء دولة تسيطر عليه بدلاً من أن يسيطر عليها. وهذا ما يحدث عندما يُنشيء حزباً أو نقابة أو حركة أو تنظيماً أو مؤسسة يكون الغرض منها في الأساس خدمة الانسان، ومع الوقت تتكوّن لهذه المنشآت حاجاتها الخاصة المتناقضة مع حاجات المجتمع والانسان ومنشئيها بالذات. نشأت الصهيونية نتيجة لإضطهاد اليهود في أوروبا، ولكنها ما لبثت أن تحوّلت وسيلة في خدمة قياداتها الذين عملوا بمساعدة المستعمرين البريطانيين ثم الأميركيين على إقامة دولة خاصة بهم على أنقاض المجتمع الفلسطيني وإقتلاع شعبه وتشتيته. نفخ حاخامات اليهودية نَفَسَ الحياة في تمثال من الطين فكان أن نشأت الصهيونية قوة متغطرسة ودمّرت، باسم إنقاذ اليهود، المجتمع الفلسطيني والشعب الفلسطيني اللذين لا علاقة لهما بمأساتهم في الأصل. ثم نفخ الصهاينة في تمثال الطين نَفَسَ حياتهم فتحوّل الى دولة عسكرية مدججة بسلاح الدمار الشامل، وأصبحت بمرور الوقت آلة تدمير تتصرّف خارج إرادة الانسان الذي لم يعد يتحكّم بها. ولم يعد اليهود الإسرائيليون أقوياء بأنفسهم بل بطائراتهم وصواريخهم ودباباتهم وناقلاتهم المجنزرة ومروحياتهم وجرّافات تقتلع الأشجار وتهدم المنازل. أصبحوا آلة وكان أن تقلّصت إنسانيتهم كلياً. وما يواجه الفلسطينيون في معاركهم ليس محاربين أشداء، بل آلات تسحق كل ما في طريقها. وبمقدار ما تزداد القدرات الإسرائيلية تقنياً، بمقدار ما يقلّ تمدن اسرائيل بفعل التوحش الذي يرتكبه جيشها الذي تحوّل إلى آلة. وأخيراً نفخ الحاخامات نَفَسَ الحياة في تمثال من الطين وأكثروا من النفخ لينشأ لديهم رجل ضخم مستدير أسموه آرييل شارون. هو أيضاً آلة تابعة لبقية آلات التسلح وجزء لا يتجزأ منها. وممن تحوّلوا إلى آلات ايضاً وزير خارجيته بيريز الذي منح جائزة نوبل للسلام. فهو أيضاً تحوّل من داعية سلام إلى مجرم مذبحة قانا، ثم إلى شريك لشارون في جرائمه الحالية. وربما لم تعد إسرائيل نتيجة لكل هذه التحولات قادرة على انتخاب رجل معتدل عقلاني قائداً لها. وليس من الغريب أن يخلف شارون مَنْ هو أكثر إجراماً منه. كما "غولم"، كذلك قادة الصهيونية في الزمن الحاضر. أصبحت غاياتهم تبرّر وسائلهم، وما يعبدونه ليس "الله" بل إله الإنتقام. وما يربّون أجيالهم عليه ليس اليهودي الإنساني الضعيف الذي يحترم حقوق غيره ويبدع كشريك في الحضارة الإنسانية، بل اليهودي القوي الذي ينتقم بتدمير نفسه فيما يدّمر غيره. وكثيراً ما ينتهي من دون أن يدرك أنه في الواقع يمارس دماره الذاتي قبل دمار غيره. هكذا تحوّلت الصهيونية الى "غولم""وآلة دمار ذاتي حين دمّرت المجتمع الفلسطيني، وشرّدت شعبه، وأخضعته للإحتلال عقوداً من الزمن المرير. وليس غائباً عن أذهان بعض قادة إسرائيل انهم تحوّلوا إلى آلة دمار عليّ وعلى أعدائي يا رب. عندما يسمّي الإسرائيليون الفلسطيني المقاوم إرهابياً، ينسون ما فعل شمشون، وينسى الأميركيون في الحالة ذاتها ما قاله باتريك هنري: "أعطني الحرية أو أعطني الموت". وقد لفت أميركي نظري إلى أن صفائح إجازة السيارات في ولاية نيوهامشير حالياً تحمل العبارة التالية: "عِشّْ حراً أو مُتّْ" Live free or die. إنهم يسمحون لأنفسهم بما لا يسمحون به للآخر. ولكن الشعب الفلسطيني يعرف ما يريد لنفسه ولن يتخلّى عن حقوقه الطبيعية. إنه يدفع الثمن مندفعاً بقوة إيمانه وثقته بنفسه وأمته وقدراته على صنع مصيره مهما طالت الأزمات. ينتفض من داخله ويصنع أسطورته التي ستتحوّل إلى نبع للملاحم والإبداع لزمن طويل. أثبتت نابلس بجروحها وأشلائها وما أصابها من دمار أنها حقاً "جبل النار". وأثبتتْ بيت لحم وحدتها الروحية. وبإجلال نقول أن مدينة جنين هي جنين المستقبل العربي. من ناحية أخرى، ما أن يبدأ "غولم" بتدمير ذاته فيما يدّمر الآخر، حتى يدرك الصهاينة داخل إسرائيل وخارجها أن ما حقّقوه ليس حلماً، بل آلة للدمار، ووحشاً مفترساً يتمثّل بمجتمع عنصري عسكري، وجيش آلة، وقيادة شرسة متغطرسة تقودهم إلى هلاكهم بعد أن فقدوا إنسانيتهم. * كاتب عربي وإستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.