يكشف بعض التطورات الاخيرة في الكيان الصهيوني عن بعض الفروق الاساسية بين المذاهب المختلفة للديانة اليهودية. وهذه المذاهب هي الاصلاحية والمحافظة والارثوذكسية. وكلمة مذاهب حينما تطبق على اليهودية واتجاهاتها المختلفة لا تؤدي الى توصيف الوضع الحقيقي للانقسامات الحالية في المجتمع الاسرائيلي، فعلى سبيل المثال وصف الحاخام الارثوذكسي الاسرائيلي تسفي هلبرشتاين اليهود "الاصلاحيين بأنهم كفرة لم يستخدم الحاخام نفسه كلمة "يهود" اصلاً أخرجوا انفسهم عن الدين اليهودي، واصبحوا خارج السياج المحيط بشعب اسرائيل، وليست لهم اية حصة في ارض اسرائيل". ثم اضاف قائلاً: "انهم طابور خامس، خطره علينا اكبر من خطر التنازل عن ارض اسرائيل للعرب". أي ان هذا الحاخام الارثوذكسي يرى ان اليهود الاصلاحيين والمحافظين بطبيعة الحال اكثر خطراً عليه من العرب أعدى اعداء اليهود، والجوييم بامتياز، حسب الرؤية الصهيونية. وكما يقول الحاخام انه يفضل ان يعطي الارض للعرب على ان يساوم عليها في علاقته باليهودي الاصلاحي والمحافظ. وقد صرح حاخام آخر ارثوذكسي- اميركي بأن اليهودية، في واقع الامر، انقسمت الى يهوديتين: اليهودية الاصلاحية والمحافظة من جهة، واليهودية الارثوذكسية من جهة اخرى. فنحن هنا لا نتحدث عن "مذاهب" بالمعنى الشائع للكلمة، وانما عن انقسامات عميقة، اكثر عمقاً مما هو معهود في أصحاب الدين الواحد. وتشترك كل من الحركة اليهودية الاصلاحية واليهودية المحافظة في انهما تحاولان حل اشكالية "الحلول الالهي" في الشعب اليهودي وفي مؤسساته القومية. فمثل هذه الحلول يجعل منهم شعباً مقدساً ملتفاً حول نفسه، يشير الى ذاته من دون الإشارة الى شيء خارجه، وهذا أمر مقبول داخل إطار المجتمع التقليدي المبني على الإدارة الذاتية للأقليات. وهو أمر مفهوم حينما كان اليهود يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية التي تعزل نفسها عن المجتمع لتلعب دورها المحايد، ولكن مع ظهور الدولة القومية التي ترى نفسها مطلقاً، فهي مرجعية ذاتها لا تقبل مرجعية متجاوزة لها، أصبح من الصعب أن تتعايش نقطتان مطلقتان داخل المجتمع الواحد. ولذا كان على أعضاء الجماعات اليهودية ان يتعاملوا بشكل او بآخر مع الحلولية اليهودية التقليدية. وحاولت اليهودية الاصلاحية واليهودية المحافظة حل اشكالية الشعب المقدس عن طريق تبني الحل الغربي للمشكلة وهو أن يكون الحلول الإلهي في نقطة ما في الطبيعة او في الانسان او في التاريخ، بحيث يشكل المطلق ركيزة نهائية كامنة في هذه النقطة وغير متجاوزة لها. وظهر العديد من هذه المطلقات الدنيوية او الغيبيات العلمانية. ولكن الذي يهمنا هو المطلق الدنيوي الذي يُسمي "الروح" جايست في ادبيات القرن التاسع عشر في اوروبا "روح المكان" او "روح العصر" او "روح الشعب" او "روح الامة" الذي حل محل الإله. وبينما آمن الاصلاحيون بروح العصر بالالمانية: تسايت جايست ZEITGEIST، آمن المحافظون بروح الشعب العضوي فولك. وهذه الصياغة من الحلولية تلغي الإله كنقطة متجاوزة، فمصدر القداسة كامن في المادة. وبالنسبة الى اليهودية الإصلاحية، فهي توسع نطاق نقطة الحلول بحيث يصبح المطلق روح العصر إطاراً يضم كلاً من اليهود والأغيار. وبذلك تكون اليهودية الإصلاحية وصلت الى صيغة معاصرة لليهودية تلائم العصر، وتتخلص من آثار الحلولية الحادة والجامدة التي كانت تدور في فلكها اليهودية الحاخامية والتي عزلت اليهود عن مجتمعاتهم وجعلت معتقداتهم الدينية عبئا ينوءون بحمله، وجعلت تعايشهم مع المطلق الجديد الدولة العلمانية الحديثة مستحيلاً. ويمكن القول أن جوهر مشروع اليهودية الإصلاحية هو محاولة نزع القداسة عن كثير من المعتقدات الدينية اليهودية ووضعها في اطار تاريخي، وذلك حتى يتسنى التمييز بين ما هو مطلق ومتحرر من الزمان والمكان وبين ما هو نسبي ومرتبط بهما. وهي عملية نجم عنها تضييق نطاق المطلق والمقدس وتوسيع نطاق النسبي حتى يتمكن أعضاء الجماعات اليهودية المشاركة في الإيمان بالمطلقات القومية والصناعية والمادية في مجتمعاتهم الحديثة. ولذا، عدل الاصلاحيون فكرة التوراة، فهي- بالنسبة اليهم - مجرد نصوص اوحى الإله بها للعبرانيين الأولين، ولذا يجب احترامها كرؤى عميقة، ولكنها يجب ان تتكيف مع العصور المختلفة. ومع هذا فإن اليهودية الاصلاحية في محاولتها تطوير اليهودية، انتهى بها الأمر الى ان خلعت النسبية على كل العقائد ونزعت القداسة عن كل شيء، أي انها في محاولتها ادخال عنصر النسبية الانسانية والتهرب من الحلولية، سقطت في نسبية تاريخية كاملة بحيث اسقطت كل الشعائر وكل العقائد تقريباً، أي انها هربت من وحدة الوجود الروحية الى وحدة الوجود المادية. وفي ضوء منطلقات الفكر اليهودي الإصلاحي، يمكننا أن ننظر الى التعديلات التي ادخلها زعماء الحركة الإصلاحية على العبادة اليهودية وبعض المفاهيم الدينية، ومن أهمهم أبراهام جايجر زعيم الجناح المعتدل الذي يشار اليه عادة بلفظة "التقدمي" وديفيد فرايد لندر زعيم الجناح الثوري الذي يشار اليه احيانا بصفة "الليبرالي". وقام الإصلاحيون بإلغاء الصلوات ذات الطابع القومي اليهودي، وجعلوا لغة الصلاة الالمانية لا العبرية ليتماشوا مع روح العصر والمكان ثم الانكليزية في الولاياتالمتحدة، وابطلوا كل الفوارق بين الكهنة واللاويين وبقية اليهود، وادخلوا الموسيقى والأناشيد الجماعية، كما سمحوا باختلاط الجنسين في الصلوات، ومنعوا تغطية الرأس أثناء الصلاة أو استخدام تمائم الصلاة تفيلين، ولقد تأثروا في ذلك بالصلوات البروتستانتية. وقام بعض الإصلاحيين ببناء بيت للعبادة أطلقوا عليه اسم "الهيكل"، وكانت تلك أول مرة يستخدم فيها هذا المصطلح لأنه لم يكن يطلق الا على الهيكل الموجود في القدس. ومعنى ذلك أن الإصلاحيين بتسميتهم معبدهم هذه التسمية الجديدة، كانوا يحاولون تعميق ولاء اليهودي الى الوطن الذي يعيش فيه ويحاولون نقل الحلول الإلهي من مكان سيعودون اليه في آخر الايام الى مكان يرتادونه هذه الايام. وعلى المستوى الفكري، اعاد الاصلاحيون تفسير اليهودية على اساس عقلي، واعادوا دراسة العهد القديم على اسس عملية فالعقل او العلم هو موضع الحلول الإلهي او المطلق في المنظومات الربوبية، ونادوا بأن الدين اليهودي او العقيدة الموسوية وهي التسمية الاثيرة لديهم تستند الى قيم اخلاقية تشبه قيم الاديان الاخرى. كما ركز الاصلاحيون على الجوهر الاخلاقي للتوراة، وكذلك الجوهر الاخلاقي لبعض جوانب التلمود، مهملين التحريمات المختلفة التي ينص عليها القانون اليهودي، خصوصاً القوانين المتعلقة بالطعام والكهنة والختان، وقد سمحوا أخيراً بترسيم حاخامات إناث. وأنكروا فكرة البعث والجنة والنار، وأحلوا محلها فكرة خلود الروح. وأسقطوا معظم شعائر السبت ومن بينها تحريم استخدام السيارة بما في ذلك الوصول الى المعبد وعدم استعمال أية آلة كهربائية وغير كهربائية بما في ذلك مكبرات الصوت. وعدّل الاصلاحيون بعض الافكار الاساسية في الديانة اليهودية، فمثلاً نادى جايجر بحذف جميع الاشارات الى خصوصية الشعب اليهودي من كل طقوس الدين وعقيدته واخلاقه وأدبه، مطالباً بالتخلي عن الفكرة الحلولية الخاصة بالشعب المختار كلية. وحاولوا الإبقاء على هذه الفكرة، مع اعطائها دلالة اخلاقية عالمية جديدة، فجعلوا الشعب اليهودي شعباً يحمل رسالته الاخلاقية لينشرها في العالم حتى يستطيع من يشاء ان يؤمن بها. كما يؤكد الاصلاحيون ايضاً ان اليهود شتتوا في اطراف الارض ليحققوا رسالتهم بين البشر، وان النفي وسيلة لتقريبهم من الآخرين وليس لعزلهم عنهم. وأضفى الاصلاحيون على فكرة العودة والماشيّح طابعاً انسانياً اذ رفض ممثلوهم، في مؤتمر بتسبرغ، فكرة العودة الشخصية للماشيح المخلص، واحلوا محلها فكرة العصر المشيحاني، وهي فكرة تربط بين العقيدة المشيحانية وروح العصر. فالعصر المشيحاني هو العصر الذي سيحل فيه السلام والكمال ويأتي الخلاص الى كل الجنس البشري وينتشر العمران والإصلاح ويتم كل هذا من خلال التقدم العلمي والحضاري، فالفكرة المشيحانية هنا فُصلت تماماً عن الشعب اليهودي وعن شخص الماشيح وارتبطت بكل البشر وبالعلم الحديث. وكان من المنطقي ان تعادي اليهودية الاصلاحية بنزعتها الاندماجية الحركة الصهيونية بنزعتها القومية المشيحانية، وفي تمجيدها للغيتو والتلمود، وفي حفاظها على النطاق الضيق للحلولية اليهودية التقليدية. وعقد الاصلاحيون عدداً من المؤتمرات للتعبير عن رفضهم للصهيونية. كما انهم رفضوا وعد بلفور وكل المحاولات السياسية التي تنطلق من فكرة الشعب اليهودي او التي كانت تخاطب اليهود كما لو كانوا كتلة بشرية متجانسة لها مصالح مستقلة عن مصلحة الوطن الذي ينتمون اليه. وظلت هذه العداوة قائمة زمناً طويلاً في الولاياتالمتحدة. ولكن اليهود في الغرب جزء لا يتجزأ من المصالح الاقتصادية والسياسية والحضارية لبلادهم، ومن محيطها التاريخي والحضاري. وهذه البلاد في مجموعها تشجع المشروع الصهيوني. ولذا، لم يكن من الممكن ان تستمر الفكرة او العقيدة الإصلاحية في مقاومة الواقع الإمبريالي الغربي الممالئ للصهيونية. وعلى كل، فإن اليهودية الإصلاحية جعلت روح العصر النقطة المرجعية والركيزة النهائية، والإمبريالية جزءاً اساسياً من روح العصر في الغرب. ولكل هذا، نجد أن اليهودية الاصلاحية تخلت بالتدريج عن رؤيتها الليبرالية، وأخذت في تعديل رؤيتها بشكل يتواءم مع الرؤية الصهيونية. وبالفعل، بدأ الإصلاحيون في العودة الى فكرة القومية اليهودية الصهيونية، والى فكرة الأرض المقدسة، فجاء في قرار مؤتمر كولومبوس العام 1937 ان فلسطين ارض مقدسة بذكرياتنا وآمالنا الا ان مصدر قداستها ليس العهد بين الشعب والإله، وإنما الشعب اليهودي نفسه وفي هذا اقتراب كبير من اليهودية المحافظة. وحاول الإصلاحيون تبرير هذا التحول بالعودة الى التراث اليهودي فبينوا ان الانبياء كانوا يؤيدون الاتجاه القومي الديني من دون ان يتخلوا عن الدفاع عن الاخلاقيات الإنسانية العالمية، ومن دون أن يجدوا أي تناقض بين الموقفين. أي أن الإصلاحيين تقبلوا الموقفين الانعزالي والعالمي من دون تساؤل، وهم في هذا يقتربون من الصهيونية الثقافية، ومن صهيونية الجماعات اليهودية أي الصهيونية التوطينية في استخدامها مقياسين مختلفين: أحدهما يجعل اليهودية قومية بالنسبة الى المستوطنين الصهاينة والاسرائيليين، والآخر يجعلها ديناً وتراثاً روحياً بالنسبة الى المنفيين الذين لا يريدون مغادرة المنفى بسبب سعادتهم البالغة به! وتزايد النفوذ الصهيوني داخل معسكر اليهودية الإصلاحية إلى درجة أن الاتحاد العالمي لليهودية التقدمية أي الإصلاحية عقد مؤتمره السنوي الخامس عشر في مدينة القدس للمرة الأولى العام 1968، وذلك عقب عدوان 1967 وفي غمرة الحماس القومي الذي اكتسح يهود العالم نتيجة للانتصار الإسرائيلي. وتزايدت أيضاً العناصر القومية في الشعائر الإصلاحية حيث تُتلى الآن بعض الصلوات بالعبرية، كما أن الإصلاحيين ينفخون في البوق شوفار في المعبد في عيد رأس السنة، وأدخلوا بعض العناصر التراثية على الصلوات الأخرى. وبدأت اليهودية الإصلاحية، ابتداء من منتصف السبعينات، تساهم بشكل واضح في الحركة الصهيونية، وأصبحت ممثلة فيها من خلال جمعية اراز جمعية الصهاينة الإصلاحيين في اميركا. وانضم الاتحاد العالمي لليهودية التقدمية الى المنظمة الصهيونية العالمية العام 1976. وانضمت ارتسينو الرابطة الدولية للصهاينة الإصلاحيين باعتبارها حزباً الى المنظمة فأصبح لليهودية الإصلاحية كيبوتسات ومؤسسات تربوية في اسرائيل وتنظيمات لجمع الأموال لها. وفي العام 1976 عُقد آخر المؤتمرات الاصلاحية فأعاد صياغة العقيدة اليهودية في سان فرانسيسكو، ويُلاحظ في قراراته انها تحث على استمرار الاتجاه نحو تعميق البعد القومي. فالحقيقة الاساسية في حياة اليهود، حسب قرارات المؤتمر، هي الابادة النازية، الامر الذي يدل على الاتجاه نحو تقبُّل لاهوت موت الإله ولاهوت ما بعد اوشفيتش. وقد بدأت اليهودية الاصلاحية تتجه نحو محاولة الالتزام ببعض الشعائر اليهودية بقدر الامكان. ومع هذا اعيد تعريف اليهودي بحيث يصبح "من وُلد لأب يهودي او ام يهودية"، وأبيح الزواج المختلط شرط ان يكون الأبناء يهوداً. وفي العام 1988 أصدرت أرتسينو بياناً يحدد موقفها من الصهيونية، فأكدت أهمية اسرائيل بالنسبة الى يهود العالم ولكنها أكدت أيضاً التعددية في حياة اليهود، وهي تعددية لا تستبعد العلمانية الشاملة، ولذا تؤيد كلاً من الدياسبورا والهجرة الاستيطانية. وطالب البيان حكومة اسرائيل بأن تبتعد عن القمع الديني والعنف السياسي، ودافع عن حقوق العرب ودعا الى حل سلمي للصراع العربي - الإسرائيلي، مبني على الضمانات والتنازلات المتبادلة. ولا تعترف المؤسسة الدينية الارثوذكسية في اسرائيل باليهودية الإصلاحية او المحافظة، ولا بحاخاماتها، ولا بالزيجات التي يعقدونها، ولا بمراسم التهود التي يقومون بها، فهم يجعلونها سهلة يسيرة على عكس طقوس التهود الارثوذكسية. وتثار هذه القضية من آونة الى اخرى، حينما يطرح قانون العودة للنقاش، فهو القانون الذي يتضمن محاولة تعريف الهوية اليهودية، اذ تحاول المؤسسة الارثوذكسية ان تضيف تعديلاً عبارة "من تهود حسب الشريعة"، اي على يد حاخام ارثوذكسي وهو ما يعني استبعاد الحاخامات الاصلاحيين والمحافظين وكل اليهود الذين تهودوا على ايديهم. ويدعو زعماء اليهودية الاصلاحية الى ان تكون المساعدات التي تخصص للمؤسسات الإصلاحية في اسرائيل متناسبة مع حجم تبرعات اليهود الإصلاحيين، اذ ان معظم التبرعات يدفعها يهود غير ارثوذكس، ومع هذا يصب معظمها في المؤسسات الارثوذكسية. وقد بدأ بعض زعماء اليهودية الاصلاحية، مثل الكسندر شندلر، في محاولة الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الدولة الصهيونية، خصوصاً بعد حادثة بولارد وقمع الانتفاضة، وهم يؤكدون مركزية الدياسبورا الجماعات اليهودية خارج فلسطين مقابل مركزية اسرائيل، كما يحاولون تغليب الجانب الديني على الجانب القومي. وتوزع دار الحاخامية منشورات تحذر الناس من اداء الصلوات في المعابد التابعة لحركة ماسورتي وتخبرهم أن مثل هذا الأمر يعد محرماً. * كاتب مصري