إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الشباب يتعرض للخسارة أمام ضمك    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    تعليم مكة : 1485 مدرسة تحتفي بأكثر من 30 ألف معلم ومعلمة في يوم المعلم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته البرية في جنوب لبنان    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    «زلزال الضاحية».. ومصير حزب الله    غريبٌ.. كأنّي أنا..!    ذكورية النقد وأنثوية الحكاية.. جدل قديم يتجدّد    إنجاز في ملف «البطالة»    الشاهي للنساء!    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    درجات أم دركات معرفية؟    معالي وزير العدل    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    مملكة العز والإباء في عامها الرابع والتسعين    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفكك أوصال الدولة في لبنان . الوجود الفلسطيني المسلح يعسكر المجتمع اللبناني ويستدرج توسع النفوذ السوري 4 من 4
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2002

تناولت الحلقة الثالثة حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 وما أنتجته من متغيرات استراتيجية في المنطقة ارتدّت سلباً على التوازنات الاقليمية ودور لبنان وموقع المقاومة الفلسطينية في دائرة الصراع العربي - الاسرائيلي. وهنا الحلقة الأخيرة للأكاديمي اللبناني فريد الخازن.
حتى الآن بحثنا تأثير الدور الفلسطيني في العملية السياسية وفي سياسة الطوائف. الآن نأتي إلى تأثير الوجود الفلسطيني المسلّح في المجتمع اللبناني.
أولاً، منذ العام 1968 حوّل الفدائيون الفلسطينيون جنوب لبنان إلى ساحة حرب مفتوحة، وقبل ذلك لم تكن ثمة مواجهات عسكرية منتظمة بين لبنان وإسرائيل وذلك منذ توقيع اتفاق الهدنة في العام 1949. ولولا العمليات الحربية الفلسطينية لما وقع مثل تلك المواجهات في أواخر الستينات، فالدولة اللبنانية لم تكن أراضيها محتلة حتى تدخل في حرب ضد إسرائيل لتحريرها. كذلك لم تكن إسرائيل تسعى لاحتلال أراض لبنانية وهي التي احتلت بعد حرب العام 1967 من الأرض العربية أكثر مما كان يحلم به أكثر الصهاينة تطرفاً.
ثانياً، ما إن تحوّلت المنطقة الحدودية إلى خط مواجهات عسكرية بين إسرائيل والفلسطينيين حتى راحت الأعمال الحربية تمتد إلى مناطق أخرى بما فيها بيروت والمدن الكبرى الأخرى. ولولا العمليات العسكرية الفلسطينية التي تطورت إلى ما يشبه كرة الثلج لما وجدت إسرائيل سبباً ولا مبّرراً للقيام بعمليات عسكرية انتقامية في المدن والقرى اللبنانية، ذلك أن القوات المسلّحة اللبنانية بعددها الذي لم يتجاوز التسعة عشر ألفاً وترسانتها المتواضعة لم تشكل أيّ تهديد يذكر للجيش الإسرائيلي.
ثالثاً، إن عسكرة المجتمع اللبناني التي بدأت في نهاية الستينات وتسارعت بعد العام 1973 لم تكن إلا نتيجة مباشرة للوجود الفلسطيني، فالجماعات اللبنانية التي حملت السلاح فعلت ذلك لسببين متعاكسين: إما دفاعاً عن النفس ضدّ ما اعتبرته تهديداً فلسطينياً لوجودها أو دعماً للفلسطينيين ولكفاحهم المسلّح. ما من جماعة لبنانية -أكانت حزباً ذا قاعدة مسيحية أو حزباً يسارياً أو حزباً ذا قاعدة إسلامية - كانت في وضع يؤهلها لخوض حرب نظامية متواصلة لولا وجود المنظّمات الفلسطينية. وكانت خطوط التماس الفاصلة بين تلك الجماعات تعكس مواقفها حيال الفلسطينيين.
كانت النقطة المفصلية لعسكرة المجتمع هي المواجهة بين الفلسطينيين والجيش اللبناني في العام 1973، فمنذئذ أخذت الجماعات اللبنانية تقتني السلاح وتنخرط في التدريب العسكري. بالنسبة إلى المسيحيين اعتبر الاستعداد العسكريّ ضرورياً لمواجهة المنظّمات الفلسطينية المتزايدة القوة، خصوصاً بعد أن فشلت السلطة في فرض تنفيذ الاتفاقات المعقودة مع الفلسطينيين، ولم يكن لدى الجيش غطاء سياسيّ للتدخل كما حدث في العامين 1969 و1973. أما الجماعات الإسلامية والأحزاب اليسارية فقد درّبتها المنظمات الفلسطينية، وخصوصاً منها حركة فتح، وزوّدتها الأسلحة. بالنسبة إلى بعض هذه الجماعات كان العمل مع الفلسطينيين جزءاً لا يتجزأ من الكفاح المسلّح ضد إسرائيل، أما البعض الآخر فالكفاح المسلّح بالنسبة إليه كان أيضاً موجّهاً ضد نظام لبنان "الرجعي" المتهم بضلوعه في "مخططات أميركية" ضدّ المقاومة الفلسطينية.
رابعاً، كان الشيعة أكثر اللبنانيين تأثراً بوطأة الأعمال العسكرية الفلسطينية، أكان كمجموعة أو كأفراد يسكنون جنوب لبنان. ولو أن تعبئة الشيعة السياسية بقيادة الإمام موسى الصدر منذ أواخر الستينات قد جرت في غياب العامل الفلسطيني في السياسة اللبنانية لجاءت أقلّ زعزعة للاستقرار. إن التهجير القسريّ للمدنيين الشيعة من الجنوب إلى ضواحي بيروت، والمشكلات الاجتماعية - الاقتصادية التي ولّدها هذا التهجير كانت نتيجة الأعمال الحربية بين الفلسطينيين وإسرائيل، فلولاها كانت الهجرة من الجنوب أو من مناطق ريفية أخرى إلى بيروت حصلت على مدى زمني أطول وبصورة أبطأ، ولما جرى تسييسها إلى هذا الحد وتسببت بهذا القدر من الانقسام. أن تلام السلطة الحكومية على عدم إنماء المناطق الجنوبية وتحسين أوضاع سكانها الشيعة، كما كان دأب الإمام الصدر، شيء، وأن يصار إلى الربط بين حرمان الشيعة في الجنوب وحرمان الفلسطينيين حقوقهم الوطنية شيء آخر.
خامساً، دفع الوجود الفلسطيني المسلّح المجتمع اللبناني نحو الراديكالية على كل الصعد السياسية والإيديولوجية والاجتماعية، وخلق نمطاً تصاعدياً في توقع التغيير وحال ثوريّة جعلت بعض اللبنانيين، خصوصاً في الأوساط اليسارية، يحسبون أنّ الحرب ستؤدي إلى تغيير كبير وجذريّ. وعليه فإن "تثوير" المجتمع سينتهي بالنظام الطائفيّ إلى التهاوي بسبب التناقضات القائمة في صميم هذا النظام.
تأثير المنظّمات الفلسطينية في سياسة لبنان الخارجية
في لبنان، كما في بلدان عربية أخرى، كان المنحى القومي العربي للقضية الفلسطينية يعني حتمية التدخل من ستة أنظمة عربية على الأقل: سورية والعراق والأردن وليبيا ومصر والسعودية. من بينها جميعاً كانت سورية صاحبة النفوذ الأكبر في لبنان وكانت الأكثر تأثيراً في شكل مباشر. فبحدودها المشتركة مع لبنان وبامتلاكها معبره البريّ الوحيد إلى الداخل العربيّ، كان لدى سورية في مرحلة ما بعد 1967 ثلاثة أسباب على الأقل لتوسيع تدخلها السياسيّ والعسكريّ في لبنان: أن تضمن قدرتها على السيطرة على المنظّمات الفلسطينية، أن تتمكن من الحد من تدخّل الأنظمة العربية في السياستين اللبنانية والفلسطينية لا سيما المعادية منها للنظام السوري، وأن تكون لها كلمتها في البعد الفلسطيني - الإسرائيلي من النزاع.
مع أنّ دمشق لم تكفّ يوماً عن محاولة التأثير في السياسة اللبنانية فإن نفوذها في هذا المجال كان محدوداً قبل أواسط السبعينات إذ إنه كان بلغ ذروته في أواخر الخمسينات ثم عاد إلى التراجع في الستينات، حتى جاءت المنظّمات الفلسطينية بعد العام 1967 تشكل النقطة المفصلية للتدخل السوري في لبنان. منذ أواخر الستينات دخلت الأكثرية العظمى من الفدائيين الفلسطينيين لبنان من الأراضي السورية بصورة غير شرعية، ومنذ العامين 1968-1969 نشطت منظمة الصاعقة في منطقة الجنوب اللبناني بدعم من السلطات السورية.
أما النقلة النوعية في سياسة التدخل السورية في لبنان فجاءت بعد المواجهة العسكرية بين الفلسطينيين والجيش اللبناني في العام 1973. ردّ الفعل السوري على تلك الأحداث كان إغلاق الحدود مع لبنان على مدى شهرين للضغط على الحكم اللبناني والحيلولة دون قيامه بعمل عسكري ضد الفلسطينيين. ومع أن سورية كانت تضمر مطالب مفصلة حيال علاقاتها مع لبنان، فإن سياسة التدخل في العام 1973 كانت مرتبطة بالفلسطينيين وليس بالسياسة الداخلية اللبنانية. في تلك الفترة لم يكن المسعى السوري يرمي إلى إنهاء أزمة داخلية في لبنان ولا إلى إصلاح نظامه السياسيّ، كما لم تكن سورية تسعى لتعريب لبنان والحدّ من النفوذ الإسرائيلي. في فترة ما قبل الحرب شكّلت المنظّمات الفلسطينية بطاقة الدخول بالنسبة إلى التدخل السوري التدريجي في لبنان.
عندما اندلعت الحرب بلغ التدخل العسكري السوري ما لم يبلغه من قبل، وكان لا بد من حرب شاملة حتى تتمكن دمشق من إرسال جيشها إلى لبنان وخوض حرب ضد القوات الفلسطينية. وفي حين تدخلت سورية سياسياً في العام 1973 دفاعاً عن الفلسطينيين، فقد تدخلت عسكرياً في العام 1976 دفاعاً عن المصالح السورية ضد الفلسطينيين. وبعد سقوط "الوثيقة الدستورية"، التي رعتها سورية في أوائل العام 1976، والتصعيد العسكري من القوات الفلسطينية واليسارية، أرادت سورية أن تمنع حصول انتصار عسكري فلسطيني في لبنان من شأنه الإضرار بالنظام السوري. وضع كهذا كانت ستترتب عليه نتائج عدة: أولاً، سيكون بمثابة دعوة للتدخل العسكري الإسرائيلي الذي سيجرّ بدوره سورية إلى حرب مع إسرائيل لا خيار لها فيها. ثانياً، سيشكل تهديداً أمنياً لنظام الحكم في سورية الذي لا ينقصه الأعداء في الداخل والخارج. ثالثاً، الحسم العسكري الفلسطيني في لبنان لم يكن ممكناً دون مساعدة عربية، والنظامان العربيان الأكثر استعداداً للعمل على هزم سورية في لبنان هما مصر والنظام البعثي العراقي. من هنا كان لبنان، الواقع في قبضة السيطرة الفلسطينية المدعومة من مصر والعراق ومن أنظمة عربية أخرى، الصيغة الفضلى لزعزعة استقرار النظام السوري.
من نتائج الوجود الفلسطيني في لبنان أيضاً تأثيره السلبي في موقع لبنان من السياسة الإقليمية، فقبل أواخر الستينات لم تكن السياسة الداخلية اللبنانية تحظى باهتمام سياسيّ ذي شأن لدى الدول الكبرى، لكن اهتمام هذه القوى بلبنان بات أكبر بكثير عندما أصبح البلد القاعدة الرئيسة للمنظّمات الفلسطينية خصوصا بعد الحرب الفلسطينية - الأردنية. ولولا تحول لبنان إلى قاعدة رئيسة للمنظّمات الفلسطينية لما وجدت القوتان العظميان سببا لاستخدام لبنان أرضاً بديلة للنزاع العربي - الإسرائيلي بعد حرب العام 1973. لقد أعطى العامل الفلسطيني سياسة لبنان الداخلية أهمية إقليمية، لكنه في الوقت نفسه أدّى إلى تهميش موقع الدولة اللبنانية ودورها.
في لبنان خالٍ من المنظّمات الفلسطينية لم يكن بعض هذه التطورات ليحصل، فيما بعضها الآخر ما كان ليؤول إلى ما آل إليه. لقد نسف الوجود الفلسطيني سياسة التوافق وشلّ العملية السياسية الطائفية وتسبب بتراجع دور التوازن الماروني - السنّي كدور محوريّ، كل هذا من دون أن يقدّم بديلاً سياسياً قابلاً للحياة. كذلك فإن الوجود الفلسطيني حوّل جنوب لبنان إلى ساحة حرب مفتوحة، وعسكر المجتمع اللبناني، وخلق استقطاباً طائفياً حاداً، وزرع التطرف والانقسام الحاد في الرأي العام وإن لأسباب مختلفة، وفتح لبنان أمام تدخلات سياسية وعسكرية لم يسبق أن تعرّض لها من إسرائيل وسورية وبلدان عربية أخرى.
من التوريط إلى السيطرة
أمام هذا الوضع يتساءل المرء أيّ الأعمال الفلسطينية في لبنان كان جزءاً من سياسة مخطط لها، وأيّ منها جاء في سياق النزاع المسلّح بعد العام 1967؟ فلو شئنا الانطلاق من أنّ القادة الفلسطينيين تصرّفوا بمنتهى حسن النية والحرص على سيادة لبنان ومصالحه لوجدنا أن مجرد وجود حركة ثورية تستمد الدعم من قاعدة شعبية تضم آلاف اللاجئين المسلّحين يشكل بحدّ ذاته مصدراً لزعزعة الاستقرار. هوذا واقع الحال، خصوصاً في بلد ذي عملية سياسية تنافسية تدور فيه الانتخابات بصورة منتظمة وتحمل صفحات الصحف الحرة فيه مختلف الآراء والخلافات السياسية. لكن المنظّمات الفلسطينية لم تكن طبعاً عاملاً حيادياً.
في أواخر الستينات كان الإنجاز الفلسطيني الأكبر هو تحقيق "تقرير المصير" في المخيّمات، علماً أن "تقرير المصير" هذا تمّ توسيعه في السنوات اللاحقة إلى أبعد من المخيّمات وجوارها بكثير. لقد رمت الاستراتيجية الفلسطينية بعد الأردن إلى تعميق وجودها السياسيّ والعسكري في لبنان، وفي الوقت نفسه إلى توسيع قاعدة الدعم الشعبي لها. كان القادة الفلسطينيون يعتقدون أنهم ما كانوا ليخسروا حرب الأردن لو أن الشعب في الأردن كان إلى جانبهم.
من باب الاعتماد على خزين كبير من الدعم اللبناني للقضية الفلسطينية، ومن باب الافادة الكاملة من نظام لبنان المفتوح واللعب على وتر انقساماته الطائفية، تمكّنت المنظّمات الفلسطينية من اختراق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. لقد استهدفت المنظّمات الفلسطينية مؤسسات المجتمع المدني بكاملها، من الأحزاب السياسية واتحادات العمال والصحافة ومنظّمات الطلاب إلى كل المنظّمات المحلية في مختلف المناطق. حاول الفلسطينيون ممارسة نفوذهم في هذه المؤسسات، وحيثما سنحت الفرصة أحكموا سيطرتهم عليها. أما وسيلة حشد المساندة وتحييد مصادر النقد فكانت تقديم مبالغ كبيرة من المال إضافة إلى السلاح والتدريب ووسائل الترغيب الأخرى. فورة النفط بعد حرب العام 1973 جاءت في وقتها لترفع منسوب الموارد المالية للمنظّمات الفلسطينية وكذلك للأنظمة العربية، خصوصاً ليبيا والعراق، التي كانت منخرطة في نشاط مشابه للنشاط الفلسطيني وإن على نطاق محدود نسبياً.
عندما اندلعت الحرب كان الفلسطينيون يمتلكون بنى تحتية سياسية وعسكرية في طول البلاد وعرضها. وبما أننا بحثنا دور المنظّمات الفلسطينية في الحرب في فصول سابقة، يكفي هنا القول إن المنظّمات الفلسطينية كانت في فترة 1975-1976 قد تجاوزت كلياً آثار حرب الأردن إلى درجة أنها كانت تكرر في لبنان ما فعلته في الأردن. ومع أنّ الكلام كان مجرد شعار فإن كلمة أبو إياد الشهيرة التي أكد فيها أن الطريق إلى فلسطين يمرّ في لبنان كانت تشير بوضوح إلى ما كان يدور في رأس القيادة الفلسطينية حول حرب لبنان. كانت السياسة التي اتبعتها المنظّمات الفلسطينية والأعمال التي قامت بها في لبنان موضع موافقة وتأييد من الفلسطينيين، قيادات ومنظمات. أكان قبل الحرب أو خلالها، لم يتخذ أي مسؤول فلسطيني إجراء معارضاً للسياسة الفلسطينية السائدة، ولم يرتفع صوت معارض في وجه تلك السياسة في لبنان، على الأقل علناً. الخلاف الوحيد المعلن، خصوصاً داخل قيادة حركة فتح، كان يتعلق بطريقة التعامل مع سورية لكن فقط بعد اصطدامها العسكري بفتح في العام 1976. في ما عدا ذلك كانت القيادة الفلسطينية تعتبر العمل السياسيّ والعسكري في لبنان من الأمور العادية المشروعة وإن اختلفت الأسباب والدوافع بين منظمة وأخرى.
كانت المرحلة الممتدة من العام 1977 حتى 1982-1983 من الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان لا تغطيها هذه الدراسة هي الفترة الذهبية بالنسبة إلى المنظّمات الفلسطينية منذ ما بعد حرب 1976، ففي تلك المرحلة حقق الفلسطينيون إنجازات سياسية وديبلوماسية أساسية. مرحلة لبنان بالنسبة إلى الفلسطينيين لم تنته إلا عندما فقدوا درع الحماية التي أوجدتها ظروف الحرب والانقسام الداخلي بعد حرب السنتين، ووجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
عندما أدرك الفلسطينيون أنهم بلغوا نهاية الخط مع إسرائيل وخشيت منظّماتهم خسارة كل ما حققته في لبنان، تحوّلت فجأة تلك المنظّمات إلى مؤسسات تتصرف بموجب القانون. فللمرة الأولى أبدت المنظّمات الفلسطينية، أياً كانت اتجاهاتها، استعداداً للالتزام بوقف لإطلاق النار فاوضت عليه الولايات المتحدة إسرائيل في العام 1981. يومئذ تصرفت منظمة التحرير الفلسطينية تصرّف الدولة الضعيفة في مواجهة دولة قوية. معنى ذلك عملياً عدم إعطاء إسرائيل ذريعة للاجتياح، وهو بالضبط ما حاولت الدولة اللبنانية تحقيقه ولم تستطع منذ أواخر الستينات لأنها عجزت عن منع المنظّمات الفلسطينية من إعطاء إسرائيل تلك الذرائع. الدولة اللبنانية فشلت في العام 1969 ومنظمة التحرير الفلسطينية فشلت في العام 1982، ولكل فشل أسبابه. الوجود الفلسطيني المسلّح لم ينته في لبنان عندما أجبرت إسرائيل القادة الفلسطينيين على مغادرة بيروت في شهر أيلول سبتمبر من العام 1982، ولكن عندما أجبرت سورية ياسر عرفات على الخروج من مدينة طرابلس في العام 1983 إثر معارك عنيفة بين الطرفين.
ثمة مقولة طالما ترددت في أدب المنظّمات الفلسطينية حول عدم تدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية. ومع أن حركة فتح كانت تدّعي التزامها هذه السياسة فإن الفرق بين موقف فتح في "عدم التدخل" ومواقف المنظّمات الأخرى كان عائداً إلى اختلاف مقارباتها السياسية والإيديولوجية لأهدافها الآنية والطويلة المدى. الذي جعل فتح تبدو أكثر التزاماً بسياسة "عدم التدخل" هو تصرّف المنظّمات الأخرى، فكلما ارتفعت نسبة العسكرة والتطرف عند المنظّمات الأخرى ظهرت فتح بالمقارنة حركة تلتزم القوانين والأنظمة.
مسألة عدم التدخل في شؤون البلدان العربية هي من أكثر النواحي التي أغفل النظر إليها في استراتيجية حركة فتح في لبنان. في شرح لافت ومعبّر لاستراتيجية فتح في السياسة العربية وفي العلاقات العربية - الفلسطينية كتبه بعد حرب الأردن هاني الحسن، أحد كبار مستشاري ياسر عرفات، ميّز الكاتب بين عدم التدخل في الشؤون المحلية لبلد عربيّ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد. وفي حين شدّد على أن حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية لأيّ بلد عربيّ، أي انها لا تسعى لإسقاط نظام عربيّ معين، فهو لم ينف إمكان التدخل في الشؤون الداخلية للبلد المضيف، فهذا النوع من التدخل يبّرره هاني الحسن بأن الشؤون "المحلية"، تعريفاً، تنطبق على نظام الحكم فقط وليس على الشعب. وعليه فبدلاً من أن تسعى فتح لإسقاط نظام عربيّ معيّن عبر نشاط مباشر، تلجأ إلى ممارسة نفوذها وتأثيرها لدى الناس الذين يتحركون بدورهم ضد النظام السياسيّ القائم. على الصعيد العمليّ، كانت هذه صيغة منقّحة من سياسة التوريط لكن من القاعدة هذه المرة، أي أنها تستهدف الجماهير بدل استهداف النظام مباشرة. لا حاجة إلى القول طبعاً إن المكان الأمثل لهذا السيناريو هو حيث الشعب يتمتع بحرية التنظيم السياسيّ واتخاذ المواقف المعلنة حيال القضايا القومية العربية، وتحديداً قضية فلسطين.
الأمر الأكيد أن منظمة التحرير الفلسطينية، منذ تأسيسها، لم يكن لديها أرض تحكمها ذاتياً وتتحرك منها، ولا كان لديها استقلال ذاتي سياسياً. هكذا كان وضعها في الضفة الغربية التي كانت تحت الحكم الأردني قبل حرب العام 1967، وفي الأردن بعد العام 1967. إنها المعضلة الوجودية الصعبة لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل مرحلتها اللبنانية. فهي عندما حلّت في لبنان لم تكن رهينة سياسة الحكومة اللبنانية وأعمالها، ولا استطاع لبنان ان يُجبر المنظمات الفلسطينية على تعديل نهجها في الكفاح المسلّح بغية الحفاظ على بقائها سياسياً وعسكرياً. ومع أنها حاولت من وقت إلى آخر التواصل مع الحكومة اللبنانية من منطلق تكتيكيّ، فإن ضبطها كان مستحيلاً، خصوصاً في الجنوب، المقر العسكريّ لقيادتها.
وعليه، فإن المسؤولية العربية الجماعيّة والسياسية عن المأساة الفلسطينية تبرر الغاية والوسيلة الفلسطينيتين. من هنا يمكن أن نرى شيئاً من الحقيقة في وصف شفيق الحوت لبنان بحديقة بلا سياج 46. لكن ما لا يقل صحة عن هذا القول هو أنّ الحدائق ليست كلّها بحاجة إلى سياج، خصوصاً حين تكون الحدائق المجاورة من دون سياج أيضاً. أما معضلة لبنان، في حقيقة الأمر، فهي أن فيه "الحديقة" الوحيدة المفتوحة وسط مجوعة من "الحدائق" العربية المحكمة الإغلاق بجدران من الإسمنت.
لبنان كان أيضاً مكاناً مثالياً لحركة ذات فئات متعددة كمنظمة التحرير الفلسطينية، فبمعنى من المعاني كانت المنظّمات الفلسطينية ترى نفسها في مرآة المجتمع اللبناني. لا المنظمة الكبرى، حركة فتح، ولا المنظّمات الأخرى الراديكالية، كانت تشعر بالغربة في لبنان. حركة فتح، الثورية والقومية العربية من حيث الحاجة والضرورة، والوطنية الفلسطينية المحافظة من حيث القناعة 48، كانت تشارك التيارات السنّية اللبنانية الكثير من القناعات السياسية والثقافية. كذلك المنظّمات الراديكالية كان لها شركاء إيديولوجيون و"منظّمات شقيقة" بين الأحزاب اليسارية اللبنانية. أما الفصائل الفلسطينية الموالية لأحد نظامي البعث السوري والعراقي الصاعقة وجيش التحرير العربي فقد انضمت إلى فرعي حزب البعث اللبنانيين. إن ما وفّره لبنان للمنظّمات الفلسطينية، خصوصاً من حيث التنوّع السياسي والإيديولوجي، ما كانت هذه المنظّمات لتجده في أيّ بلد عربيّ آخر.
وبقدر ما كانت حركة فتح تمثل الكثير من المصالح الفلسطينية والعربية، كانت ضعيفة أمام النفوذ الخارجي. فكما كانت حال لبنان في إطار النظام الاقليمي العربي، كان على حركة فتح ضمن منظمة التحرير الفلسطينية أن توفّق بين المصالح المتناقضة، وأن تحتوي النفوذ الخارجي الذي يزعزع استقرارها، وأن تحافظ على الحدّ الأدنى من التماسك الداخليّ لتستطيع السير على حبال السياسة العربية الصعبة. حركة فتح كانت أكثر المنظّمات الفلسطينية "لبننة" في السياسة العربية. لكن في السياسة القومية العربية كانت منظمة التحرير الفلسطينية، على رغم انقساماتها ونواحي ضعفها صاحبة اليد العليا في لبنان، ومن سخريات القدر أن يكون السبب في ذلك هو لبنان نفسه. ما إن أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بالقوة حتى فقدت الكثير من سلطتها، وأصبحت لا تقلّ عن لبنان تعرّضا لعدم الاستقرار وللاستغلال عبر تدخلات الخارج وخصوصاً الأنظمة العربية.
* أكاديمي لبناني. والمقال مقاطع من الفصل الثامن من كتاب "تفكيك أوصال الدولة في لبنان" دار النهار، بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.