ليس الشعب الأميركي كله من يقترع لمنح جوائز الأوسكار لأفضل الأفلام وأصحابها مرة في العام، طبعاً. ولا حتى قطاعات عريضة من هذا الشعب. كل ما في الأمر ان هناك نحو ألفين من أهل المهن السينمائية، ومن قطاعاتها كافة، يدلون بأصواتهم عاماً بعد عام، للاختيار بين ما يعرض عليهم من أفلام وترشيحات. صحيح ان هذا العدد اضأل من أن يعني ان الاختيارات النهائية قادرة على ان تمثل الذهنيات الأميركية خير تمثيل، ومع هذا هناك، عادة، ميل الى اعتبار هذه الاختيارات مرآة ما، تعكس - ولو جزئياً - الأحوال الذهنية والتوجهات المزاجية العامة للشعب الاميركي. وذلك، ببساطة، لأن مئات العاملين في القطاعات السينمائية ينتمون الى شرائح اجتماعية عريضة، والى شتى الأقليات التي يتألف منها الشعب الأميركي، وهم قادرون - وهذا جزء من سر نجاح السينما الأميركية الدائم - على معرفة ما الذي يريده الجمهور وعلى الكثير من اختياراته وحالاته. ومن هنا يمكن القول دائماً ان ما من سينما في العالم تمثل جمهورها القومي خير تمثيل بقدر ما تفعل السينما الاميركية. كيف لا والقول الأخير يذكرنا بأنها هي أصلاً، من صنع جزءاً من ذهنية هذا الجمهور طوال القرن العشرين؟ ومن هنا، وحتى لو كنا نعرف ان الفيلم يستغرق زمناً ليس بالقصير، بين بداية اعداده وبداية عرضه، ندرك ان العلاقة متبادلة، علاقة تفاعل حقيقي بين هوليوود وجمهورها. ويمكننا في هذا الصدد ان نفتح هلالين لنشير الى ان معظم الافلام الجادة التي تنظر اليها هوليوود على أنها "أوروبية النزعة" وتنتمي غالباً الى "سينما المؤلف" ليس لها أي مكانة لدى الجمهور الأميركي. وذلك على عكس أفلام مميزة جيدة الصنع واضحة الافكار، بدأت هوليوود تنتجها منذ ثلاث عقود، أفلام تستفيد من بعض سمات السينما التجارية المعهودة نظام النجوم بين أمور أخرى لتقدّم جديداً باعتدال ادى تراكمه مع الوقت الى إحداث "ثورة هوليوودية حقيقية" منذ بداية السبعينات. مزاج الجمهور المهم هنا هو ان ذلك التفاعل بين السينما والجمهور الأميركي كان ولا يزال حقيقة قائمة، اذ أنه من الممكن لعالم الاجتماع ان يقرأ بعض أفضل انتاجات هذه السينما، ليفهم مزاج الجمهور في حقبة معينة. وانطلاقاً من هنا يمكن، لمن يرسم صورة كرونولوجية متزامنة، ان يكتشف كيف ان السينما الاميركية - اجمالاً - تميل الى تقديم موضوعات منغلقة على الذات. حيث تكون الامة في أزمة، وتميل الى الانفتاح على العالم، ايجاباً، حين تكون في وضعية مريحة. وحسبنا ان نورد نموذجين اجماليين دليلاً على ما نقول: أمركة السينما كلياً يعيد الانهيار الاقتصادي الكبير في الثلاثينات وما تلاه من سيادة الموضوع المحلي الواثق بالذات في افلام كابرا خلال المرحلة الروزفلتية، وبعد ذلك الانفتاح على مواضيع كونية خلال الفترة التي فصلت بين الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية، وهي مرحلة تضمنت احساس الاميركي المتوسط بموقعه في العالم، سلبياً من خلال حرب فيتنام، وايجابياً من خلال مرحلة الانفراج الدولي. ولا يتسع المجال هنا لرسم خارطة مسهبة وحقيقية للنزوات بين ميول الذهنية الاميركية، ومواضيع السينما الاميركية، ولا حتى لانفتاح السينمائيين الاميركيين على العالم، لكن ما يستوقفنا هنا، هو الدرس - المبدئي - الذي يمكن استخلاصه من التوجّه العام الذي "فاجأ" الكثير من المراقبين، ازاء نتائج اختيارات أهل المهنة السينمائية الاميركية للأفلام والاشخاص الذين منحوا "الأوسكارات" الرئيسية لهذا العام. ولعل الملاحظة الأولى التي وردت في الخاطر أول ما أعلنت النتائج، هي ان أهل المهنة، في اختيارهم منح الأوسكارات الرئيسية لافلام وأشخاص اميركيين خلص، انما استجابوا الى الذهنية الأميركية العامة التي سادت إثر احداث 11 ايلول سبتمبر من العام الفائت... وهي ذهنية تميل الى الانعزال والتساؤل المنهك عن جدوى "التورّط" في العالم، وعن جدوى الانفتاح في شكل عام. والحقيقة أن نتائج الأوسكار، إنما جاءت تتويجاً، لما كانت تعيشه هوليوود خلال الشهور التي تفصلنا عن أحداث ايلول. والحقيقة هذه تقول ان هوليوود وسينماها، كانتا - من بين القطاعات كافة - الأكثر تأثراً وفي شكل مباشر بتلك الاحداث. ونتذكر طبعاً اليوم، كيف أن أفلاماً عديدة أجّل عرضها ما ان وقعت الاحداث بسبب ما فيها من عنف، أو بسبب دوران أحداثها في نيويورك نفسها. وثمة شركات إنتاج بدّلت من مشاهد بعض الأفلام، وألغت مشاهد أخرى مشهد تسلّق الرجل العنكبوت واحدة من بنايتي مركز التجارة العالمية في فيلم "سبايدر مان" الذي أجّل عرضه. وكذلك ألغي العديد من المشاريع، بل ان مارتن سكورسيسي اضطر الى ارجاء عرض فيلمه الجديد "عصابات نيويورك"، مع ان الفيلم صور في روما، ويتحدث عن معارك شوارع بين العصابات الايطالية والارلندية، خلال القرن التاسع عشر. وفي هذا السياق نفسه قد يفيد ان نتذكر كيف ان أهل السينما كانوا من أوائل الذين بادروا الى إعلان وطنيتهم الاميركية ودعمهم للأمة في "حربها ضد الارهاب" ضاربين الصفح عن تناحرهم التاريخي مع الحزب الجمهوري الحاكم. الترشيح شيء والفوز شيء آخر نعرف طبعاً ان هذا كله عاد وهدأ مع نهاية العام الماضي، واستعادت هوليوود مسارها وحياتها، حتى وإن كنا نعرف ايضاً ان ما حدث في ايلول ظل محفوراً في الذاكرة، وبدأت تشق طريقها في خجل أفكار تتحدث عن مشاريع سينمائية ممكنة تتعلّق بالحدث الذي وصف بأنه "أكبر كارثة تعرّضت اليها الأمة الأميركية منذ بيرل هاربور". ولاحقاً إذ أعلنت الترشيحات الهوليوودية للفوز بجوائز الأوسكار، بدا للمراقبين ان أهل المهنة استعادوا كوزموبوليتهم المعهودة التي بدت وكأنها صارت علامة راسخة خلال العقدين الأخيرين، ولا سيما في مجال العلاقة مع ناطقين آخرين بالانكليزية - من انكليز ونيوزيلنديين وكنديين واستراليين و... حتى جنوب أفريقيين - اعتادت هوليوود ان تتعامل معهم، عروضاً وجوائز أوسكارية، وكأنهم ينتمون مع الاميركيين الى عالم واحد. والذي لفت حقاً هذا العام، في مجال الترشيحات وقبل اعلان النتائج - وهو ما كنا أشرنا اليه في الملحق السابق حول الموضوع نفسه - هو ان الانغلوفونيين - من غير الأميركيين - كانت لهم حصّة الأسد، بدءاً من الافلام المرشحة لجوائز أفضل فيلم، وصولاً الى جوائز أفضل الممثلين والفنيين وما شابه. ولنتفرس، للتأكد على هذا، في اللائحة التالية: فيلمان أميركيان: مقابل فيلم صوّر في استراليا وآخر في نيوزيلندا، لمخرجين استراليين، وفيلم ثالث انكليزي خالص حققه مخرج أميركي منشق ولا يكف عن اعلان حربه على هوليوود روبرت آلتمان في مسابقة أفضل فيلم. في مسابقة أفضل مخرج: ثلاثة أميركيين منهم واحد منشق وآخر هامشي - دافيد لينش - لا يجد من ينتج له إلا في فرنسا بعيداً من هوليوود وفيلمه الأخير "مالهولاند درايف" فضح عميق لعاصمة السينما الأميركية. والى جانب هؤلاء: استرالي بيتر جاكسون وانكليزي رولي سكوت سبق لجوائز الاوسكار ان توجت عمله بشكل لافت. في مجال أفضل ممثل كان المرجح راسل كراو الاسترالي، وفي مواجهة الهامشي المتمرد سين بن، والزنجيان ويل سميث ودنزل واشنطن، وكل منهما متمرد على طريقته. وزنوجة هذين كانت امراً جديداً على الأوسكارات، وكذلك كانت حال زنوجة هالي بيري، التي شكل ترشيحها مفاجأة، ليشكل فوزها عاصفة. وهالي كانت تواجه استرالية هي نيكول كيدمان وانكليزية هي جودي دنش بين أخريات. والنسب نفسها تنطبق على بقية الجوائز، إذ سمي "سيد الخواتم" ل13 جائزة، و"الطاحونة الحمراء" ل8 جوائز و"بارك غوسفورد" لسبع جوائز والفرنسي "قدر اميلي الخرافي" ل4 جوائز... وكلها أفلام غير أميركية. وكانت النتيجة، كما نعرف الآن، ان الاختيارات تبدلت تماماً، ولم تأخذ في حسبانها نسب الترشيحات. ففي وقت تبدت فيه هذه الأخيرة كوزموبوليتية تنم عن انفتاح وكرم، جاءت الجوائز نفسها منغلقة على الذات الاميركية بشكل لم يسبق له مثيل. ولعل الهوّة تبدو أكثر اتساعاً ودلالة إن نحن تذكرنا انه خلال الأعوام الأخيرة، لم تكف جوائز الأوسكار الرئيسية، بما فيها جوائز أفضل فيلم وأفضل مخرج وجوائز الممثلين، عن الذهاب الى الانكليز والاستراليين وغيرهم. ايلول مرّ من هنا طبعاً من يشاهد الفيلم الفائز "عقل رائع" أو "عقل جميل" في ترجمة حرفية، لن يفوته ان يشير الى جودته والى أنه موضوعاً واداء، يستحق الفوز، ولكن هؤلاء قالوا أنه، أصلاً، كان يستحق جائزة التمثيل لبطله راسل كراو. و هنا نعود الى لبّ الموضوع الذي بدأنا به: راسل كراو استرالي. وفي السياق نفسه من المؤكد ان أي مقارنة - في مجال الأداء الاخراجي - بين رون هوارد مخرج "عقل رائع" من ناحية وبيتر جاكسون مخرج "سيد الخواتم" وباز ليرمان مخرج "الطاحونة الحمراء" وحتى ردلي سكوت مخرج "سقوط الصقر الأسود" من ناحية ثانية، لن تكون في مصلحة هوارد ف "عقل رائع" ليس فيلم اخراج، بل هو فيلم سيناريو وتمثيل وموضوع أولاً وأخيراً. ولكن هنا ايضاً تعود الدائرة لتضيق على نفسها: هوارد أميركي خالص، بل أنه من خلال دوره وهو مراهق في مسلسل "الايام السعيدة" كان يعتبر رمزاً للفتوة الاميركية. اما جاكسون وليرمان فاستراليان، وسكوت انكليزي. أفلا يمكننا ان نقول مرة أخرى ان أحداث ايلول مرت من هنا؟ بالتأكيد... وهذا ينقلنا مباشرة الى الشق الثاني من الموضوع. لأن المسألة ليست مسألة اسماء وبطاقات هوية وحسب، بل مسألة موضوع وجوهر ايضاً. فنحن اذا أردنا اختصار الأفلام الفائزة بالجوائز الرئيسية: "عقل رائع" و"يوم التدريب" جائزة أفضل ممثل لدنزل واشنطن، و"كرة الوحش" أفضل ممثلة لهالي بيري و"شريك" جائزة أفضل فيلم تحريك، سنجد أنفسنا أمام أفلام أميركية خالصة، تنتمي، حتى ولو كان بعضها جيداً حقاً - الى خير ما قدمته السينما الشعبية الاميركية في تاريخها. صحيح ان "عقل رائع" يقدم حكاية قد تبدو كونية: حكاية انفصام العالم جون ناش، الذي عرف - بقوة ارادته وكما هي حال أي بطل هوليوودي جيد - كيف يتغلب على انفصامه الجنوني عائداً الى عقله وعلمه حتى فاز بجائزة نوبل في العام 1974، لكن الفيلم يحاول بعد كل شيء ان يبتدع اسطورة أميركية جميلة تتضاف الى الاساطير المعهودة التي لا يفوتنا ان نجد تعابيرها في كتب ديل كارنجي وشعارات "أبعد القلق وابدأ الحياة" وحكايات الرجل الذي يصنع نفسه... الخ. و"يوم التدريب" بدوره فيلم أميركي خالص، في موضوعه وجوهره، ويحاول ان يتصدى لواحدة من المعضلات الاميركية الكبرى: التمييز العنصري. و كذلك يفعل "كرة الوحش" الذي يقدّم حكاية الحقوقي الذي يقع في غرام الأرملة السوداء للزنجي الذي يتسبب في إعدامه. ان النقد لم يعتبر هذين الفيلمين مميزين وهما أصلاً لم يرشحا لجائزة أفضل فيلم أو جائزة أفضل مخرج. رشحا لجائزتي التمثيل. وجعلتهما "المصادفة" يفوزان بهما، ما وضع للمرة الأولى على هذا الشكل الاستعراضي، زنجيين رجل وامرأة على عرش التمثيل الهوليوودي لهذا العام، وهو ما لم يحدث على هذه الشاكلة من قبل، حتى وإن كان سيدني بواتييه قد فاز بالأوسكار قبل عقود. وهو نفسه الذي اعطي هذا العام اوسكارا تكريمياً خاصاً، ما رفع عدد السود المتوجين الى ثلاثة. فهل علينا ان نتذكر هنا ان سيدني بواتييه حين أعطي الأوسكار، هوجم من ابناء جلدته السود الذين اعتبروا فوزه يومها، مكافأة له على "مواقفه الممالئة للبيض" وعلى "قبوله تمثيل الاسود الخانع الذي لا همّ له الا الاقتراب من البيض ومنافقتهم" ولنتذكر "خمنوا من سيأتي الى العشاء"؟ سن الرشد اخيراً فهل يمكننا انطلاقا من هنا ان نجد ان هذا الفوز الاسود الثلاثي يجب ان يدخل في نطاق ما نقوله عن الرغبة الاميركية - بعد احداث ايلول - في الانغلاق على الذات؟ ان انغلاق أمة على ذاتها يشمل، في تعريف رائج، تشديد اللحمة بين ابنائها لكي تتمكن بشكل أفضل من التماسك في ما بينها لمجابهة الخارج الذي يجب ان تعطى له صورة الجانب الذي لا يأتي منه الا الشر. والمزاج الاميركي في هذا الاطار يبدو واضحاً. لنتذكر كيف ان الادارة الاميركية وصانعي الرأي العام، ما ان أفاقت اميركا من ذهولها أمام ما حدث يوم 11 ايلول، حتى نهضوا يستنفرون، ليس فقط أكثرية الشعب البيضاء، بل كذلك وبخاصة الأقليات الفاعلة، ومنها "الاقلية" السوداء، التي لم يفتها ان تعلن ولاءها للأمة ومواقفها ضد الارهاب على لسان أكثر أطرافها بعداً عن الايديولوجية الاميركية السائدة حتى محمد علي كلاي وقف يندد بالارهاب، وكذلك لم يفت الادارة - في شخص جورج دبليو بوش نفسه - ان تلتفت ناحية المسلمين الاميركيين ذوي الاصول العربية تطمئنهم وتنفتح عليهم، مميزة بينهم وبين الارهابيين، أمام رأي عام أبيض بدا حائراً وغاضباً لوهلة. ومن يراقب الامور عن كثب، يلاحظ طبعاً ان المهمة المتشعبة تلك نجحت. تمكنت أميركا من ان تلتف على نفسها. وحتى خوضها الحرب ضد الارهاب، ممثلاً ب"طالبان" و"القاعدة" في أفغانستان، لم يلق معارضة اميركية جدية. بل أنه كلما ارتفعت أصوات معارضة خارجية، كان الداخل، بشتى طوائفه وألوانه يتماسك أكثر. وراحت تطوف في ذهن الأميركي أسئلة أساسية، لطالما أجّل طرحها، "لماذا يكرهنا العالم؟" و"ألم يحن الوقت، بعد، لكي نعامل هذا العالم كما يعاملنا؟"، و"ألم يحن الوقت لوقف هذا الكرم الذي يخيل الينا، منذ هزيمتنا في فيتنام ومركب النقص الذي شكلته فضيحة ووترغيت، ان نفيق وان ندرك قوتنا. فاذا أعطينا الآخرين لا نعطيهم، الا الفتات، الذي يستحقونه؟". وفي اعتقادنا هنا - ومن دون ان نحاول تحميل الامور أكثر مما تحتمل - ان اختيارات أهل المهن السينمائية للأفلام والأشخاص الفائزين بجوائز الأوسكار إشارة الى أن الأجوبة عن هذه الاسئلة بدأت تبرز. وان السينمائيين أتوا، بعد الادارة وبعد السياسيين، ليقولوا للآخرين: عليكم أن تفهموا أنكم لم تعودوا كل شيء في حياتنا. افهموا ان اميركا، بلغت، اخيراً، سن الرشد. وأنها وجدت - في احداث 11 ايلول تحديداً - ترياقاً للداء الذي ابتلي به منذ الستينات. وان "فييتنام" و"ووترغيت" صارتا وراءنا.