حدث مرة ان شاركنا، الزميل جهاد الخازن، وكاتب هذه السطور، في برنامج حوار متلفز في احدى الفضائيات العربية في لندن. كان الموضوع شائكاً الى حد ما. وقال لنا اصحاب البرنامج ان علينا توخي الحذر بعض الشيء لأن الجمهور حاد وموزع سياسياً، فيه اليميني واليساري، فيه الأصولي والقومي والليبرالي. اتكلنا على الله يومها وبدأنا. وبالفعل تبدى جزء كبير من السجال مع الجمهور عدائياً ينذر بالويلات. وفي لحظات كاد يحدث ما لا يسر، لولا تدخل مقدمة البرنامج اللطيفة والذكية - نشوى الرويني كما أذكر - ثم انتهى كل شيء، وخرجنا من الاستوديو محاذرين، مثلاً، ان تقع علينا عيون بعض غلاة المتطرفين من الذين لم يعجبهم كلامنا الليبرالي. وإذ وقفنا في الخارج ننتظر ان يقلنا المنتجون الى بيوتنا، اكتشفنا ان افراد الجمهور "العنيف" و"العدواني" كانوا لاهين عنا ب... قبض اجورهم في مقابل الحضور والمشاركة. وضحكنا مرتاحين: لم يكونوا اكثر من كومبارس، جيء بهم ووزعت عليهم الأدوار وربما المواقف ايضاً، فأدوا دورهم بنجاح جعلهم يستحقون الأجور. وإذ "اكتشفنا" هذا تذكرنا كيف اننا لاحظنا خلال التصوير واحداً من مساعدي الإنتاج واقفاً وراء الكاميرا يقوم بحركات خلناها أولاً جنوناً أو للترفيه، فإذا بنا نكتشف الآن انه كان يعطي تعليماته: صفقوا الآن! اضحكوا الآن! اغضبوا الآن! اهجموا الآن! تراجعوا الآن!... الخ. يذكرنا بهذه الحكاية، طبعاً، ما نشرته صحيفتنا "الحياة" قبل ايام من ان "الجمهور التلفزيوني" صار مهنة في عالم هذه الأيام. للواحد منه اجره ومواعيده وشروط حضوره، وما الى ذلك. فإذا افترضنا انطلاقاً من هنا ان هذا يكاد يكون واقع الحال في البرامج كافة، سيصبح التساؤل عن "حيادية" هذا "الجمهور" و"موضوعيته"، حين يدعى الى المشاركة، في بعض البرامج، كأن يختار للمتسابق جواباً يرجحه على آخر، ضمن نسبة عددية معينة، أو يصوت في برنامج ما، للمتسابق الذي يفضله. في مثل هذا التدخل هل يمكن لأحد - والجمهور "كومبارس" مأجور على هذا النحو - ان يضمن النزاهة؟ سؤال لا ريب ان المتفرجين باتوا يطرحونه على انفسهم في الآونة الأخيرة. غير ان الأدهى من هذا، وفي هذا النوع نفسه من البرامج، بات يكمن في مكان آخر، يحتمل الكثير من "البلف" هو الآخر. ولنلخص الحكاية هذه كما يأتي: في واحد من برامج المسابقات، اياها، وبعدما تطرق واحد من المشاركين العرب الآتين من بلد مغربي الى صعوبة وصوله بالطائرة، والى تفاجئه بروعة بيروت وجمالها، ووجه ألف تحية الى اهله في بلده، وطلب من الجمهور دعمه ليبقى "بضعة ايام اخرى في بيروت"، فوجئنا به في الحلقة التي خرج فيها من اللعب يشكر، على مساعدتهم له، زملاءه في... الجامعة اللبنانية في بيروت! وهذه الحكاية تكررت مرات عدة، كأن "تمثل" الأردن، سيدة لبنانية. أو تمثل "اليمن" سيدة اردنية "تريد هي الأخرى ان تبقى أياماً في بيروت" كما تقول. قبل ان نطلب لاحقاً من "الجمهور اللبناني الحبيب ان يساعدني" لأنها، كما قالت بنفهسا "ربيت في لبنان وتعيش فيه". كل هذا يمكن احتسابه في خانة "الهنات" وربما المزاح، لولا انه يبدو، في نهاية الأمر، وكأنه يستخف بعقل المشاهدين، ليوحي إليهم ان المشاركات العربية فيه حقيقية. وهو بات من الانكشاف بحيث ان صديقاً ظريفاً قال لنا ان ثمة في بيروت الآن مهمة جديدة تلقى على دوائر الإنتاج التلفزيوني، وهي مطاردة الشبان العرب المقيمين في بيروت، أو العابرين فيها لأيام، وذلك لاجتذابهم الى برامج المسابقات والمشاركة فيها، كما لو انهم استقدموا من بلدانهم خصيصاً لذلك. حسناً، قد يقول مطّلع على الأمور ان هذا قد يحدث حتى في اعرق البلدان، و يتذكر عضوا فاعلاً في الحزب الاشتراكي الفرنسي رتب مرة لقاء لفرانسوا ميتران حين كان رئيساً لفرنسا ومرشحاً لدورة ثانية مع جمهور كبير العدد، في دائرته الانتخابية... وبعد ايام اكتشف ميتران ان الجمهور مجرد كومبارس، وأن العضو الكبير "سهى" عن دفع الأجور فانطلقت الفضيحة. هذا صحيح. وحدث في فرنسا حقاً. لكن النتيجة كانت ان ميتران غضب وأقال العضو من منصبه ومن الحزب وقضى على مستقبله السياسي كله.