لم يضع أية رواية بالمعنى العلمي للكلمة. اما قصصه القصيرة فتكاد لا تشبه القصص القصيرة، وأما دراساته النقدية فتكاد الواحدة منها لا يزيد حجمها عن ثلاث او اربع صفحات. فيما تبدو كتاباته الباقية اشبه بالمزحة منها بالكتابات الجادة. مع هذا يعتبر الارجنتيني جورج لويس بورخيس، واحداً من اكبر الأدباء الذين انجبهم القرن العشرون. وهو حين توفي يوم 15 حزيران يونيو 1986، ابدى الكثيرون دهشتهم لأنه لم ينل جائزة نوبل. بورخس الذي ولد في العام 1899 في بوينس ايرس كان نسيج وحده بين ادباء عصرنا هذا، تشرب منذ صغره الأدب الانكليزي الكلاسيكي، وقرأ مئات الكتب قبل ان يبلغ سن المراهقة، وكتب الوف الصفحات على رغم ان بصره كان يشح قليلاً قليلاً، حتى اختفى نهائياً خلال السنوات الأخيرة من حياته. وهو منذ اطل على عالم الكتاب عرف كمثقف كبير بقدر ما عرف كمبدع، جاعلاً من الكذب عماد الكتابة، وواصلاً في منطقه هذا الى منتهاه، حيث اننا نلاحظ ان اجمل نصوصه وأعمقها هي تلك التي كان يخترع فيها كتاباً غير موجود ثم يعرض هذا الكتاب ويقوم بنقده وتبيان عيوبه من محاسنه! كانت قراءات بورخس واهتماماته تتراوح بين الفلسفة والأساطير الاسكندنافية وتاريخ الأديان والأدب الكلاسيكي وفكر عصر النهضة والرسم اضافة الى تاريخ البشرية ككل. وهو كان يقر طواعية بأنه يعتز، من بين العناصر التي اثرت عليه، بعنصرين كان لهما اعمق تأثير فيه: القرآن الكريم، الذي قرأه في ترجمات انكليزية وفرنسية، وكتاب "الف ليلة وليلة" الذي كتب متأثراً به بعض اجمل "قصصه" القصيرة، كما ألقى عنه، ذات مرة، محاضرة قيمة ترجمت الى الكثير من اللغات. في كتبه - وهي قليلة العدد على أي حال - جمع بورخس نصوصاً كتبها في مناسبات وأوقات شتى، وفي تلك النصوص يلاحظ القارئ الواعي مقدار الخيال الذي يقف خلف تلك النصوص، حيث يلتقط الكاتب لحظة ما، او موقفاً معيناً ويبني عليه نصاً لا يعرف القارئ متى تم الانتقال فيه مما هو ممكن وقابل للحدوث الى ما هو فانتازي ومستحيل. واللافت ان بورخس غالباً ما كان يكتب نصوصه وكأنه يحكي احداثاً حدثت بالفعل، كما في ذلك النص الذي يحكي فيه لقاء تم بينه كرجل عجوز في سويسرا، وبين طفل سرعان ما تكتشف انه هو هو بورخس نفسه حين كان طفلاً، او في ذلك النص الذي يراجع فيه رواية "دون كيشوت" كما كتبها الفرنسي بيار مينار في الزمن المعاصر لنا، وسرعان ما يتبين للقارئ ان مينار هذا لا وجود له. كان هم بورخس على الدوام ان يكتب نصوصاً تفاجئ القارئ وتجعله يخمن ان ثمة دائماً خلف كل حقيقة معطاة حقيقة اخرى تختلف عنها، بل تناقضها كلياً في بعض الاحيان، كما في نصه "موضوعة الخائن والبطل".