كانت المدينة الوجه الآخر لحركة "الناس في بلادي" مقابل القرية التي جسّدت الوجه المقابل لفضاء الرؤية. أقصد إلى الفضاء الذي يضم الرفاق الطيبين الذين يأخذون على عاتقهم عبء أن يولد في العتمة مصباح إبداعي جديد، وهم عصبة الأشقياء الذين لا يتردد شاعرهم - نتيجة ماركسية الخمسينات - في احتقار الكتب التي ينكفئ عليها أقرانه بعيداً من خبرة الحياة العملية وواقعها الحي الذي يموج بالبسطاء الذين يغتالهم الجهل والفقر والمرض. والشاعر الذي يتحدث باسم هؤلاء الرفاق الطيبين شاعر مديني بكل معنى الكلمة، سواء في تجسيده وعي المدينة، أو انغماسه العميق في قضاياها ومشكلاتها التي تصنع خصوصية صورها، أو انحيازه إليها بما يجعله يرى حتى عالم القرية من منظور وعي المدينة. هذا الشاعر تظهره القصائد كائناً عادياً، شخصاً بسيطاً، لا يدَّعي أي بطولة سوى بطولة الاعتراف بحزنه الذي يعبر عنه بمفردات الحياة اليومية في المدينة ونثرية تراكيبها، حتى في اغترابه الوجودي في رحلة كل ليل، فهو كائن يتحدث عن تفاصيل عالمه المديني البسيط، المألوف، المعتاد، وجدّته الشعرية هي في موضوعاته التي يمكن أن يلحظها أي عابر سبيل، فلغته الخاصة لا تفارق لغة الحياة اليومية في المدينة، خصوصاً عندما تلتقط التفاصيل الصغيرة لقلقها الوجودي أو تمردها الاجتماعي. والشاعر الذي يختفي وراء قناع هذا الكائن البسيط لا يتعالى على الموضوعات التي يراها عابر السبيل كل يوم، كما فعل عباس محمود العقاد 1889-1964 في ديوانه "عابر سبيل" 1937 الذي ظلّ نائياً بلغته وتراكيبه عن نبض العالم الفعلي لعابر السبيل، وإنما يحنو على تفاصيله الحميمة، ويهتم بالتفاصيل الصغيرة، حتى تلك التي قد تبدو مغرقة في التفاهة، والتي لم تكن تدخل دنيا القصائد، ما ظلت دالة على عوالم الشاعر الخاصة. ومثال ذلك قصيدة "الحزن" التي تبدأ على هذا النحو: يا صاحبي إني حزين طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش فشربت شاياً في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزَّع بين كفي والصديق قل ساعة أو ساعتين قل عشرة أو عشرتين. وليس في هذه الأسطر ما يحمل شيئاً من الهالة الرومانسية التي نأت بالشعر عن الواقع، وباعدت بينه ومعطيات الحياة اليومية. وليس فيها ما يمكن أن نطلق عليه كلمات شعرية، أو يندرج في المعجم الشعري بتجلياته السابقة. المفردات اليومية التي يستخدمها الناس جميعاً تدني بأسطر الأبيات من أسطر الحديث العادي. والمفردات التي لم تكن تدخل بوابة الشعر، والتي لم يكن مسموحاً لها بالاقتراب من عتبته المقدسة، اقتحمت القصيدة وفرضت حضورها مع حضور الشاي ورتق النعل والنرد الموزع بين الكفين في عشرة أو عشرتين. والحائط الفاصل بين العامية والفصحى ينهار عمداً، فتتداعى الحواجز بين الاستخدام العامي للتراكيب شربت شاياً، لعبت عشرة طولة، في جيبي قروش والاستعارة المألوفة ألفة طلب الرزق المتاح من فقير يغمس في ماء القناعة خبز أيامه. وتفعيلة الكامل متفاعلن تختلط بتفعيلة الرجز مستفعلن بما لا يتباعد عن تباطؤ الإيقاع الذي يمتد بعدد التفعيلات، وتكرار حرف الروي الخاص بالقافية في توزيع يؤكد الإيقاع النثري لما يبدو كلاماً عادياً. ولكن ما نقرأه ليس بالكلام النثري العادي، وإنما هو شعر يسعى إلى تقويض أسطورة الشعر، وبلاغة مدينية جديدة تهدف إلى قصف رقبة البلاغة التقليدية، والعودة بالشعر إلى ما كان عليه في أصل بداياته تشكيلاً للكلمات المستخدمة المألوفة والمتداولة. وكان الهدف توسيع دائرة تلقّي الشعر من ناحية، واستعادة علاقته الحميمة بواقع الحياة في المدينة من ناحية ثانية، وامتداداً بأفق المفردات اللغوية وفتحها على متغيرات اللغة المدينية وتحولاتها عبر الزمن من ناحية أخيرة. ولم يكن من الممكن لهذا الهدف أن يتحقق إلا إذا أصبحت القصيدة مفهومة من "الناس" البسطاء، متخلية بإرادتها عن برجها العاجي التقليدي الذي كان الشاعر الرومانسي يهبط منه كالشعاع السنيِّ، بعصا ساحر وقلب نبي، فتتكلم اللغة نفسها عن عالم فعلي لا تنأى عنه، خصوصاً عندما تستعين بالتراكيب المنزوعة من مدينة "الناس في بلادي". وكان يدعم ذلك اعتقاد بأن "الشعرية" من حيث هي خاصية نوعية مائزة للقصيدة لا تكمن في مفردات اللغة من حيث هي مفردات، فلا مفردة جميلة في ذاتها مقابل أخرى قبيحة، أو العكس، مهما كانت هذه المفردات، فالقيمة الجمالية موصولة بالاستخدام السياقي الذي يمنح وحده الحياة للمفردات، ولا تكتسب المفردات صفاتها إلا منه، ولا حياة لها إلا فيه. وينطبق الوضع نفسه على التراكيب أو حتى المسكوكات اللفظية التي يمتلئ بها الاستخدام اليومي للغة، ولا تخلو منها حوارات المحادثة، لا صفة لها بالإيجاب أو السلب إلا من حيث استخدامها السياقي الذي يمكن أن يضيف إليها جمالاً جديداً، أو يسلبها جمالاً مفترضاً، أو يثقلها بصفات القبح داخل سياق لا يكف عن توليد القبح لأغراضه الخاصة. وما أعنيه بالاستخدام السياقي هو ما كان يعنيه صلاح عبدالصبور بكلمة "التشكيل". وهي كلمة تبدأ من توظيف اللغة وتمتد إلى بناء القصيدة من حيث هي كل متكامل. والتشكيل وحده هو الفارق بين مفردات اللغة وتراكيبها في المحادثة اليومية وما هي عليه في القصيدة، حيث تغدو عنصراً فاعلاً في سياق، وكائنات حية في نسق تتبادل وإياه الحيوية والتوثب والخصوصية، فتغدو فريدة في علاقات تشكيلها، جديدة في نسقه الذي يصل مفرداته وصلاً تشكيلياً مائزاً. وذلك ما كانت ترمي إليه قصيدة "الحزن" - من حيث هي نموذج دال على غيرها - فالشاعر كان يقصد بمطلعها أن يحدث صدمة لغوية متعمدة في ذائقة جمهور مديني، لم يتعود هذا النوع من اللغة والتراكيب في القصائد. والصدمة، بدورها، متولدة عضوياً من سياق تشكيل لغة المشهد الأول من قصيدة "الحزن". وهو مشهد يهدف إلى تقديم صورة لغوية لحياة مدينية عصرية حتى في تفاهتها، حياة تنطلق في الصباح وراء فتات العيش، وتقضي أصيلها في ممارسة الابتعاد عن جوهر الحياة - فيما يصف صلاح عبدالصبور نفسه هذا المشهد لاحقاً في كتابه "حياتي في الشعر". وكان المشهد - من هذا المنظور - مقدمة لأحزان الليل التي لا يستطيع الإنسان المديني، القلق وجودياً، أن يهرب منها في وحدته، خصوصاً حين يفني نهار يومه محاولاً تبديد ذاته طلباً للرزق المتاح، ويستهلك أصيل اليوم نفسه لاهياً بالنرد الذي يكاد يشبهه في لعبة الأيام، فلا يبقى له في الليل سوى مواجهة نفسه والاستغراق في ظلمة استبطان المتوحد لحزنه. ولذلك ينطلق المشهد الثاني من القصيدة على النحو الآتي: وأتى المساء في غرفتي دلف المساء والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم حزن صموت والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت وبأن أياماً تموت وبأن مرفقنا وهن وبأن ريحاً من عفن مسَّ الحياة فأصبحت، وجميع ما فيها مقيت. وتتجسد خصوصية الحزن المديني في هذا المقطع بواسطة التشبيهات التي لا تأتي إلا بتأكيد هذه الخصوصية، فهو حزن ضرير، يبدو كأنه صورة أخرى من تريزياس الذي لا يرى بعينيه الظاهرة بل بالعين الباطنة التي هي أحد بصراً وأرهف رؤية، الأمر الذي يجعل إدراكها كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، وذلك بالمعنى الوجودي الذي يجعل عذاب المصفدين في السعير إدانة للوجود الذي يخلق الأصفاد، وللمصير الذي هو هوة تروع الظنون. وهو حزن صموت يرتبط بأشكال القمع المديني، سياسياً واجتماعياً وفكرياً، فيغدو حزناً صامتاً يحمل معنى الرفض المضمر أو الاحتجاج المكتوم الذي تنطوي عليه رمزية الصمت التي تبدأ من هذا المقطع في ديوان "الناس في بلادي" ولا تكف عن الحضور المتصاعد في الدواوين اللاحقة. هذا الحزن الخاص يلفت الانتباه إلى نفسه بلغة مفردات مدينية مألوفة تماماً. لكن ألفة مفرداته لا تمنع من تجسيد خصوصيته التي يتجاوب حولها كل المتمردين الذين ينطوون على رغبة إصلاح العالم التي وصفها الشاعر الرومانسي الإنكليزي شيللي 1792-1822 أو رغبة تغيير العالم جذرياً وتثويره، التي وصفها كارل ماركس 1818-1883. وما بين رغبة إصلاح العالم ورغبة تغييره الجذري، يغدو الحزن احتجاجاً مدينياً، كما تغدو صيغة الصمت رفضاً للأماني والأيام التي تموت، وتركيزاً للانتباه على ريح العفن التي انسربت إلى كل شيء. هذا الحزن المديني سيظل جاثماً على شعر صلاح عبدالصبور كألغاز أبي الهول، لا يتركه في أي ديوان من دواوينه اللاحقة، بل تتزايد من ديوان إلى ديوان، مثقلاً بتتابع الإحباطات الخاصة والعامة، والتصاعد المتراكم للأسباب الذاتية والسياسية والاجتماعية والوجودية، عبر سنوات التجربة، إلى أن يغدو رؤياً هولية لسقوط الحاضر في المستقبل، ومن ثم كابوساً ممتداً من الخوف الداجي، وأنهار الوحشة، والرعب المتمدد، والأحزان الباطنة الصخابة، الأحزان التي ظلت مدينية منذ أن صاغت بدايتها قصيدة "الحزن" بلغة الحياة اليومية في المدينة التي أعادت تشكيلها القصيدة - البداية. وكانت القصيدة بهذا التشكيل سعياً لإنشاء بلاغة هي المجلي المحدث لمراعاة مقتضى الحال على مستوى الكلام عن المدينة بوعيها. وهو المستوى الذي تنطقه قصيدة "الحزن" بخصوصية لغتها التي تستجيب إلى مقتضى موضوعها المديني، وأحوال متلقيها المديني، والحال العقلية لوعي شاعرها المديني. ويظهر ذلك في المفردات التي تنطلق من "جوف المدينة"، وتمضي إلى المقاهي وما حولها، حيث يمكن شرب الشاي ورتق الحذاء واللعب بالنرد والضحك من دموع شحاذ صفيق، ومن المقاهي إلى الطرقات، حيث يتمدد الحزن كاللص في جوف السكينة، أو كالأفعوان بلا فحيح، ومن الطرقات إلى مصادر الرزق المتاح، تلك التي تومئ علامات حضورها إلى العناصر الغائبة التي ترتبط بالصراع الدائر بين المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة، والمسرعين الخطو نحو الموت، والقيود التي يفرضها الحكام الطغاة حين يقهرون كالحزن القلاع ويسرقون الكنوز أو يسملون العيون، فتختفي الفرحة التي تلوح كمصباح قديم في كوخ حراس المنار، ولا يبقى سوى الحزن الذي يفترش الطريق. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تنتهي القصيدة بالحوار بين صديقين، أحدهما يعلن تفاؤله الساذج الذي يستجيب إليه صديقه بالسخرية. والسخرية خاصية مدينية مرتبطة بها، منذ أمثال أبي عثمان الجاحظ في التراث العربي، بوصفها سلاحاً فكرياً للاحتجاج السياسي الاجتماعي الوجودي في آن. ولذلك تنتهي القصيدة بالصوت الذي بدأت به، صوت الوعي المديني المحدث الذي يضنيه قلقه الوجودي فينتهي إلى أن يقول لصديقه: يا صاحبي زوِّق حديثك كل شيء قد خلا من كل ذوق أما أنا فلقد عرفت نهاية الحذر العميق الحزن يفترش الطريق وكما تجسّد قصيدة "الحزن" الوعي المديني برؤيتها، متحققة بمعطيات الحياة المدينية، فإنها تجسّد الوعي ذاته باللغة المدينية التي لا تقتصر على المفردات أو التراكيب، وإنما تمتد إلى المحاورات والمحادثات، ومنها ما يرد في قصيدة "رحلة في الليل"، خصوصاً تلك الحوارات التي تبدأ من انفضاض مجلس السمر: - إلى اللقاء - وافترقنا - نلتقي مساء غد - الزخ مات، فاحترس، الشاه مات - لم ينجه التدبير، إني لاعب خطير - إلى اللقاء - وافترقنا - نلتقي مساء غد مروراً بأصوات رفاق الليل التي تنداح في دوامة السكون: - لا شيء في الدنيا جميل كالنساء في الشتاء - الخمر تهتك السرار - وتفضح الإزار - والشعار والدثار ويضحكون ضحكة بلا تخوم وانتهاء بالحوار الذي يدور بين السندباد وأقرانه، في المقطع الخاص به من القصيدة. وإذا كان المشهد الحواري يكتمل بكناية "النرد" أو استعارة "الشطرنج" فإن سياق الكناية كالاستعارة يؤكد عناصر المشهد المديني بالقدر الذي يبرز به الوعي المديني - في الاستعارة على وجه الخصوص - الهموم الفكرية والميتافيزيقية لساكني المدن، حيث تغدو استعارة لعبة الشطرنج موازياً رمزياً للعبة المصير التي لا ينجو منها أي لاعب قدير مهما أحكم التقدير. وهي استعارة تجد موازياتها التي تكمل المشهد المديني، وتضيف إلى همومه الفكرية والميتافيزيقية همومه الروحية والسياسية والاجتماعية، وذلك في السياق الذي يغدو فيه السندباد قناعاً للشاعر. أما "السندباد" فهو رمز مديني بامتياز. وحضوره يجسّد رغبة المدينة في الانفتاح على غيرها من مدن المعمورة التي تتعدد لغاتها وأعراقها وثقافاتها وكنوزها المادية والروحية. ولذلك فهو رمز لمبدأ الرغبة المدينية المفتوحة على الآخرين، الساعية إلى التنوع البشري الخلاق، كما أنه رمز لوعيها الذي يتأسس بالاختلاف، ولا يهدأ في التعرف على أحوال الوجود، ووضع كل ما فيه موضع المساءلة، خصوصاً في ارتحاله الذي لا يهدأ، فالسندباد كالإعصار إن يهدأ يمت، ويكتسب ملامحه من البحر الذي يغير ألوانه، حتى عندما يرتمي على أقدام شواطئ الموانئ - المدن التي يصل بينها في امتداده.