الفلسطينيون هذه الأيام يودعون شهداءهم كل يوم في شوارع الضفة وغزة. جثث الأطفال تحملها أكتاف الرجال وسط دخان المواجهات مع جيش الاحتلال. النساء يبكين بحرقة مقتل زوج أو قريب. أيديهن تسابق أصواتهن نحو السماء. يبكين تارة تحت وطأة ألم فراق أبدي، ويزغردن تارة فرحاً بتحقيق الشهادة. وبمقدار ما هناك عزاء، هناك تهنئة أيضاً. تعبير "مبروك الشهادة" أصبح جزءاً أساسياً من مشاهد عزاء الشهداء التي لا تتوقف، بالتالي أصبح جزءاً من ثقافة الشعب الفلسطيني. وداع الشهداء تحول إلى طقس يومي: لف الشهيد بالعلم الفلسطيني، وبعلم الشهادة الأخضر، تقبيل الشهيد قبلة الوداع الأخيرة، ثم المسيرات الحاشدة تسير خلف نعوش الشهداء تردد شعارات الصمود، متوعدة بالثأر لمن سقطوا برصاص الاحتلال. طقس الوداع هذا يكرس موقف الصمود، من يسقط في ميدان المواجهة إنما يسقط باسم الأرض، وباسم الشعب، وباسم حق هذا الشعب على تلك الأرض، والتلازم التاريخي بينهما. يقدم الشهيد دمه قرباناً لحق أهله وشعبه في الحياة، وفي الحرية. والشهيد أيضاً يقدم دمه انتقاماً ممن انتهك انسانيته، وانتهك حقه في تحقيق ذاته كإنسان ينتمي إلى أرض، وإلى شعب، وتاريخ. قضية الشعب الفلسطيني إذاً ليست قضية إنسانية فحسب. إنها قضية سياسية كذلك، قضية شعب تنتهك حقوقه السياسية والقانونية.، وينتهك حقه حتى في الحياة في شكل لاإنساني كل يوم، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن. كل الشعوب التي رزحت تحت الاستعمار تحررت، واستعادت حقوقها في السيادة وتقرير المصير، إلا الشعب الفلسطيني. والفلسطينيون هم الشعب الوحيد في العالم الآن لا يخضع للاحتلال فقط بل يتعرض لعملية تركيع دموية ومنتظمة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. وسط هذه الأجواء جاءت دعوة الرئيس حسني مبارك الأسبوع الماضي، ومن واشنطن، إلى قمة بين عرفات وشارون في شرم الشيخ. وهي دعوة تبدو غريبة، لأكثر من اعتبار، أولاً لأنها تزامنت مع دعوة الولاياتالمتحدة إلى معاودة تفعيل دورها كوسيط في وقت اتضح أن الإدارة الأميركية ليست وسيطاً، بل حليف للدولة العبرية، وهو ما يعبر عنه اصرار هذه الإدارة على تحميل الفلسطينيين مسؤولية التدهور المستمر في "عملية السلام". ثانياً، أن الدعوة تأتي في ذروة حرب التركيع الشرسة، وفي ذروة صمود الشعب الفلسطيني في وجه هذه الحرب. الدعوة تلقي بطوق نجاة لشارون للخروج من مأزق التصعيد المستمر، ومأزق القبضة الحديد التي لم تؤدِ سوى إلى زيادة صمود الشعب الفلسطيني، وإلى أنه لم يبقَ أمام هذا الشعب من خيار إلا الصمود، في وجه الانحياز الأميركي الكامل، وضعف الموقف العربي. والدعوة غريبة لأنها جاءت في وقت بدأت سياسة القبضة الحديد تكشف بؤسها، وبدأ الاجماع الإسرائيلي حولها يتصدع. وآخر المعترضين على هذه السياسة هو كولن باول وزير الخارجية الأميركي، ووليام كوهين وزير الدفاع الأميركي السابق. والدعوة غريبة أيضاً لأنها لا تتسق مع طبيعة الأحداث والتغيرات التي فرضتها الانتفاضة. لم يعد الأمر مسألة مفاوضات، متى تبدأ وأين. بل أصبح يفرض معاودة النظر في مفهوم عملية السلام، كما يفرض إطاراً جديداً للمفاوضات. استخدمت إسرائيل عملية السلام، والمفاوضات اللانهائية كغطاء لتوسيع رقعة الاستيطان، وفي موازاة ذلك، استمرت في تنفيذ سياسة "الجدار الحديد"، أو سياسة تيئيس الفلسطينيين باستخدام أقصى درجات العنف المسلح معهم، وتكبيدهم خسائر في الأرواح، وخسائر مادية لإرغامهم على الاستسلام. و أفصح شارون عن هذا تحديداً الأسبوع الماضي. في المقابل، حزم الشعب الفلسطيني أمره لمواصلة الصمود، ومواصلة الانتفاضة حتى ينتهي الاحتلال ويتحقق الاستقلال. من هنا فالدعوة إلى مفاوضات مفتوحة هي دعوة إلى العودة إلى لعبة المفاوضات اللانهائية، وهي دعوة مفتوحة لشارون وكأن شيئاً لم يكن. وهذا في أحسن الأحوال عودة إلى المربع الأول في وقت لم يعد هذا المربع موجوداً أصلاً، وفي أسوئها مكافأة لحكومة متورطة بمجازر وحشية لا علاقة لها بالطبيعة السياسية لما يعرف بعملية السلام. ولعل أبرز وجوه الغرابة في الدعوة المصرية أنها تأتي في أعقاب المبادرة السعودية، كأنها التفاف عليها، أو محاولة لتجاوزها بالدعوة إلى استئناف ما انقطع. وهذه محاولة لاحتفاظ مصر بدورها القيادي في عملية السلام إلى جانب الولاياتالمتحدة، بخاصة أن المبادرة تتضمن دعوة إلى العودة لموقف تفاوضي عربي واحد: انسحاب كامل من كل الأراضي العربية في مقابل تطبيع عربي كامل. وهذا يضع قيوداً على حركة مصر السياسية. الدعوة تعكس السياسة المصرية تجاه ما يعرف بعملية السلام: اقتناع بجدوى الحلول الفردية، وإيمان غير محدود بفكرة المفاوضات، وإن كانت لانهائية، وإيمان غير محدود أو مشروط بدور الولاياتالمتحدة كوسيط في عملية السلام. هذه السياسة تعكس مصالح مصر كما تراها القيادة: استمرار نهج كامب ديفيد، والحفاظ على المصالح، بخاصة الاقتصادية منها، والمتأتية من العلاقة مع الولاياتالمتحدة، واستمرار الدور القيادي لمصر في عملية السلام. واتساقاً مع ذلك، تتأكد مع الأيام صورة مصر كوسيط في الصراع، على حساب صورتها كطرف فيه. هي وسيط يتعاطف مع الشعب الفلسطيني ومع حقوقه، لكنه تعاطف ينبغي ألا يؤثر في حياد الدور المصري بين طرفي الصراع، هناك تأكيد مصري مستمر على فكرة الحياد، والهدف هو اضفاء شيء من الصدقية على دور مصر، على أمل اقناع واشنطن باستجابة مقترحاتها ومرئياتها انطلاقاً من ذلك. لكن الولاياتالمتحدة تدرك أين يقع قلب مصر من الصراع، فيما تدرك مصر انها في النهاية طرف في الصراع. ومن ثم لا جدوى من دور لا يتسق مع الواقع، ولا مع تاريخ هذا الواقع. الكثير من القيادات المصرية السياسية والثقافية يردد في شكل مستمر أن المفاوضات هي التي اعادت سيناء الى مصر، وليس هناك من يعترض على مبدأ المفاوضات. الاعتراض هو على التمسك بفكرة مفاوضات غير مشروطة، ولانهائية. ثم ان سيناء، وعلى العكس من الضفة الغربية. لم تكن اكثر من ورقة ضغط تفاوضية استخدمتها اسرائيل لتحقيق هدف أهم، هو اخراج مصر من معادلة القوة في صراع الدولة العبرية مع العرب. ومع ان مصر كشعب، وكتاريخ لا يمكن في النهاية اخراجها من هذه المعادلة، أو من معادلة الصراع ككل، إلا أن الهدف الاسرائيلي تحقق حتى الآن، وساهم، ضمن عوامل أخرى، في المأزق العربي، بما في ذلك المأزق المصري في عملية السلام. الدعوة المصرية هي امتداد لسياسة بدأت معالمها منذ نهاية حرب تشرين الأول اكتوبر عام 1973، وتحمل في طياتها فكرة أمل غير محدودة، وغير مبررة. يروي الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه "عواصف الحرب وعواصف السلام"، نقلاً عن زميله في المهنة، الراحل أحمد بهاء الدين، الرواية الآتية: فور عودته من رحلته الشاقة إلى القدس دعا الرئيس السادات أحمد بهاء الدين للقائه، وقال له: "ما الذي تنوي ان تفعله الآن"؟ ودهش بهاء، فرد عليه الرئيس: "لأنك وغيرك من الكتاب اصبحتم فجأة بلا عمل. عشتم طويلاً على الكتابة عن الصراع العربي - الاسرائيلي. وهذا الصراع انتهى الآن". واستطرد السادات انه "يرثي للكتاب السياسيين الآن". سأل بهاء: "هل سيخرجون من سيناء"؟ فجاءه الرد: "بالطبع"، ثم سأل عن الضفة الغربية، ورد الرئيس السادات بأن "أمرها مضمون". ثم سأل بهاء: "والقدس يا ريس"،، فضحك السادات، وقال اطمئن يا بهاء فالقدس في جيبي" ص 378. استمرت فكرة الأمل هذه تغذيها علاقة المصالح مع اميركا. إلا أنها فكرة منفصلة عن الواقع السياسي للصراع. وأحد العناصر المستجدة لهذا الواقع الانتفاضة. لماذا لا تكون هذه الانتفاضة، وصمود الفلسطينيين، ورقة ضغط في يد الأطراف العربية الأخرى، بخاصة مصر؟ بدلاً من ذلك تحولت في الرؤية السياسية العربية إلى محنة انسانية ينبغي وقفها انقاذاً للشعب الفلسطيني. وبذلك تحولت الانتفاضة إلى عبء سياسي، يبعث على الألم وعذاب الضمير، وعلى الارتباك أيضاً. الانتفاضة خيار اختاره الشعب دفاعاً عن حقه في الأرض، وفي الاستقلال والحرية، وعن حقه في الحياة. هذا ما يقوله الفلسطينيون عبر شاشات التلفزيون في شكل شبه يومي: يقوله قادة الانتفاضة، ويقوله اقارب الشهداء، والمشاركون في مسيرات الرفض، ومسيرات التشييع في شوارع الضفة وغزة: "لن تقف الانتفاضة إلا بزوال الاحتلال". هذا الشعار قد يبدو قاسياً، وهو كذلك، لأنه إعلان عن استعداد غير محدود للتضحية في وجه دولة تنطلق في سياستها من فكرة جهنمية بمراكمة التضحيات الفلسطينية الى درجة تفرض الاستسلام. ولأن الفلسطينيين يدركون تماماً، بحكم التاريخ والتجربة، هدف هذه السياسة، لم يكن أمامهم إلا الصمود اللامحدود كسراً لهذه السياسة العدوانية المتوحشة. لكن اصرارهم على الصمود الى هذه الدرجة يكشف شيئاً آخر: يأسهم من الموقف العربي، وخوفهم من قابلية العرب، للانزلاق نحو مواقف من التفريط والتنازل. * كاتب سعودي.