تظهر اجتماعات القوى الوطنية والاسلامية قيادة الانتفاضة تبايناً داخلياً واسعاً في تعريف "الانتفاضة" وتحديد أهدافها المباشرة وتقويم قدرتها على تحقيقها. وتبين شعارات هذه القوى وبياناتها وهتافاتها المستقلة في المسيرات ثلاثة اتجاهات رئىسية يتعايش بعضها مع بعض في اطار "الانتفاضة". لكل اتجاه قواه في الشارع وممثلوه المعروفون في اطار النظام السياسي الفلسطيني الرسمي والشعبي: الأول، يختلط فيه العلماني بالديني، ويعتقد أصحابه ان حصيلة تسع سنوات من المفاوضات والعلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية اسقطت خيار السلام الذي اعتمده العرب والفلسطينيون منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى الآن. ويتمسكون بمواقفهم القديمة الرافضة لعملية السلام جملة وتفصيلاًَ، ويدعون القيادة الفلسطينية الى مراجعة مواقفها والانسحاب من العملية السلمية وإلغاء جميع الاتفاقات التي وقعتها مع اسرائيل، ووقف كل اشكال المفاوضات والاتصالات الأمنية والسياسية ويصفونها "بالمهزلة السياسية". ويطرحون الانتفاضة والمقاومة والكفاح المسلح خياراً بديلاً للمفاوضات ولعملية السلام، ويسعون بكل السبل الى مزيد من عسكرة الانتفاضة ويطالبون السلطة بتوزيع السلاح على الجماهير. وفي مرحلة مبكرة أطلق أصحاب هذا الخيار من التيار الاسلامي على الحركة الشعبية اسم "انتفاضة الحرم" و"انتفاضة الأقصى" ويرفعون في الندوات والمسيرات المشتركة شعار "الجهاد في سبيل الله"، و"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود". ويعتقدون بأن استمرار الانتفاضة والمقاومة وتصاعد حركتهما "الجهادية" كفيل بطرد الاحتلال وإزالة الاستيطان، ويحولها الى حركة شعبية "عابرة للحدود المجاورة". ويستشهدون بالتحركات الشعبية التي شهدتها عواصم الدول العربية والاسلامية من المحيط الى الخليج في أيام الانتفاضة الأولى. يقابل هذا الرأي رأي آخر، اصحابه كانوا وما زالوا يعتبرون خيار السلام خياراً استراتيجياً لا رجعة عنه، وانه الطريق الأسلم والأقصر لوصول الشعب الفلسطيني الى أهدافه الوطنية وتحقيق حقوقه التي اقرتها الشرعية الدولية. ويدعون الى التمسك بعملية السلام وأسسها القديمة، والالتزام بكل الاتفاقات التي توصل اليها الطرفان وضمنها اتفاق اوسلو وما له علاقة بالتنسيق الأمني المشترك. ويرون في العودة بأسرع وقت ممكن الى طاولة المفاوضات مصلحة وطنية ملحة، ويحذرون من الوقوع في فخ شارون الذي يسعى الى وأد عملية السلام ونسف اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات وكسب الوقت وتكريس حقائق جديدة على الأرض تنسف مقومات الدولة الفلسطينية. ويدعو اصحاب هذا الرأي الى قراءة موازين القوى قراءة واقعية ورؤية مدى اختلاله بشكل فاحش لصالح اسرائيل، وميل المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين وتقاعس الاممالمتحدة والقوى الاقليمية والدولية عن تحمل مسؤولياتها. ويقلل أنصاره من قيمة الانتفاضة ويشكون بقدرتها على أحداث تغيير جوهري في المواقف الاسرائيلية في عهد شارون، ويدعون الى وقفها بقرار ذاتي جريء بعدما تحولت الى عبء على الشعب الفلسطيني، وأقرب الى صراع مسلح منها الى حركة شعبية واسعة. ويستنتجون من ذلك كله، أن لا أفق امام الشعب الفلسطيني، في المرحلة الراهنة، لتحقيق أهدافه الوطنية المرحلية كاملة مثل "حق اللاجئين في العودة وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وانسحاب اسرائيل من جميع الأراضي التي احتلت عام 1967، وازالة الاستيطان"... الخ. ويحذرون من المضي قدماً في عسكرة الانتفاضة، ومن تحولها الى شكل من العقاب الذاتي المدمر. ويدعون القيادة الفلسطينية الى انتهاج سياسة تساعد على التخلص بأسرع وقت من تهمة الإرهاب وتهمة استبدال طريق السلام بالعنف، التي نجحت اسرائيل في لصقها بها وبالحركة الشعبية الفلسطينية. ويعتقد اصحاب هذا الرأي بأن التعاطي مع الحلول المرحلية الطويلة التي يعرضها شارون والعمل على تحسينها قدر المستطاع خير من هدر الوقت وبقاء الوضع الفلسطيني جامداً على ما هو عليه، خصوصاً ان أطروحة شارون لا تلزم أحداً بإنهاء النزاع. ويعتقدون ان القيادة الفلسطينية هدرت فرصة ثمينة، وأخطأت في ادارة المفاوضات مرتين، الأولى عندما قفزت عن استحقاقات المرحلة الانتقالية ودخلت مفاوضات الحل النهائي قبل إلزام اسرائيل بتنفيذ هذه الاستحقاقات. والثانية حين رفضت العرض الذي تقدم به الرئيس كلينتون في آخر يوم من أيام قمة كامب ديفيد والذي تبلور بصورة أوضح في محادثات طابا التي تمت قبل الانتخابات الاسرائيلية. خصوصاً وان العرض ومداولات طابا تضمنت موافقة اسرائيل على قيام دولة فلسطينية فوق قرابة 96 - 97 في المئة من أراضي الضفة وقطاع غزة وعاصمتها القدسالشرقية، واخلاء أكثر من 120 مستوطنة وتسليمها للسلطة الفلسطينية بجانب ما تضمنته بشأن القضايا الاخرى. ويذكّر اصحاب هذا الرأي الناس بنقد الجيل الحالي مواقف الآباء والأجداد لرفضهم قبول قرار التقسيم عام 1947، وبالنقد الذاتي الذي مارسه قادة في الثورة الفلسطينية في شأن رفض المشاركة عام 1978، في مفاوضات كامب ديفيد المصرية - الاسرائيلية حول الحكم الذاتي. الى ذلك يتردد أنصار هذا الاتجاه في اعلان مواقفهم للناس بالوسائل المتاحة ويعبرون عنها بأساليب غير مباشرة في اللقاءات الضيقة وداخل الغرف المغلقة. أما الاتجاه الثالث، فأنصاره يؤمنون بالسلام من حيث المبدأ ويؤيدون المفاوضات. ويرفضون الأخذ بدعوات الاتجاهين الآخرين، ويتهمون الأول بالتطرف والثاني بالدعوة الى الخضوع والاستسلام للشروط الاسرائيلية. ويعتبرون الانتفاضة شكلاً من المفاوضات العنيفة اعتمده الناس والسلطة وسيلة ضغط على الطرف الآخر لتحسين شروط وقواعد التسوية السلمية وتحقيق الأهداف الوطنية. ولا يعارضون استئناف المفاوضات ويشترطون استئنافها من حيث توقفت في عهد باراك، ويرفضون بالمطلق اطروحات شارون المتعلقة باستئناف المفاوضات، ولا يقرون بضياع فرصة. ويعتقدون بأن الانتفاضة والمقاومة وتفاعلاتها داخل اسرائيل وفي الحقلين الاقليمي والدولي أرست أرضية لتعزيز ميزان القوى لصالح الفلسطينيين وتحسين أسس وقواعد التفاوض وتطوير صيغة رعاية المفاوضات باتجاه اشراك قوى اقليمية ودولية اخرى فيها. ويتبنى أنصار هذا الاتجاه فكرة استمرار الانتفاضة والمقاومة المسلحة جنباً الى جنب مع المفاوضات في حال استئنافها، ويرفضون دعوة البعض لوقفها. ويعتبرونها حركة ديموقراطية ويرفضون اضفاء الطابع الديني أو العسكري عليها، ويرفعون شعار "انتفاضة القدس والاستقلال". ويبرزون ما حققته من انجازات في مجال الوحدة الوطنية وفي الحقلين العربي والدولي، ويتحسسون من كل نقد لأوضاع الانتفاضة. ويراهنون على دور الجماهير العربية وضغطها على حكوماتها لإسناد الانتفاضة بصورة ملموسة. لا شك في ان تباين القوى الوطنية والاسلامية، سلطة ومعارضة، حول تقديم طبيعة المرحلة ومفهوم الانتفاضة ودورها في الصراع أمر صحي وصحيح. وهو انعكاس طبيعي للقناعات الفكرية والتوجهات السياسية والنضالية الاساسية التي تتبناها هذه القوى. ويسجل لها انها على رغم خلافاتها المتنوعة ظلت موحدة في مواجهة الاحتلال في اطار "الانتفاضة" ونجحت في إدامة التصادم مع قواته فترة طويلة. الا ان هذا الانجاز الوطني المهم لم/ ولا يعالج هموم الناس وبخاصة تدهور أوضاعهم المعيشية، ولا يعوضهم عن الخسائر التي لحقت بهم. ولا يغفر للقوى الوطنية والاسلامية قصورها في معالجة النتائج والآثار السلبية للانتفاضة على بنية المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ناهيك عن التقصير في سد النواقص والثغرات الكثيرة في بنية الانتفاضة ذاتها، وعدم معالجة الظواهر السلبية التي برزت في اشكال النضال المتبعة وتسببت بخسائر بشرية واقتصادية لا مبرر لها وساهمت في ضمور جماهيرية الانتفاضة. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني بأن القاسم المشترك لعمل القوى الوطنية والاسلامية لم يجذب قطاعاً واسعاً من الجمهور الفلسطيني للانتفاضة. وان برنامج "الانتفاضة والمقاومة" لا يصلح كأساس لحركة سياسية فلسطينية مؤثرة في مواقف القوى الاقليمية والدولية. وزراعته في الحقل السياسي الاسرائيلي غير ممكنة وغير مثمرة، وساهم في دفع فئات واسعة من المجتمع الاسرائيلي نحو مواقف اليمين المتطرفة، ووحد أطراف النظام السياسي في اسرائيل حول هدف مواجهة الانتفاضة والمقاومة، وفي التصدي بقوة للموقف الفلسطيني بشأن حقوق اللاجئين العادلة. اعتقد ان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على الجميع، وبخاصة القوى الوطنية والاسلامية "قيادة الانتفاضة" تأمل أوضاع الانتفاضة والتعرف على حالتها الراهنة. واجراء تقييم واقعي ليس فقط لأشكال النضال بل وايضاً لأهدافها المباشرة التي حددوها لأنفسهم قبل سبعة شهور واجراء عملية حسابية دقيقة لصافي الارباح والخسائر التي جناها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية خلال هذه الفترة، وبناء حساباتهم الجديدة على أساس ان الموقف الاسرائيلي والدولي مرشحان للمراوحة في المكان عامين اضافيين على أقل تقدير. لا شك في ان سخاء الشعب الفلسطيني في التضحية من أجل تحقيق أهدافه الوطنية مدعاة فخر واعتزاز لكل المناضلين ضد القهر والظلم في العالم، إلا ان ذلك لا يسد جوع الناس ولا يقلل من الألم، وقد يتحول الى خسارة صافية اذا لم يتم استثماره في الوقت المناسب. واذا كان للمثقفين الفلسطينيين في الداخل والخارج عذر مفهوم في شأن ضعف انخراطهم في هذه "الانتفاضة والمقاومة"، فلا مبرر لهم، بعد مئتي يوم من عمرها، في عدم المبادرة لإطلاق حوار وطني علني وصريح لمسيرتها الماضية وآفاقها المستقبلية. وتحديد موقف واضح وجريء من الاتجاهات الثلاث التي تتبناها القوى الوطنية والاسلامية، أو شق اتجاه واقعي جديد. خصوصاً وان الجميع يقر بأن القضية الوطنية تقف عند منعطف خطير وعموم الحركة الوطنية عبرت "النفق المظلم" وبقاء الوضع على حاله لا يحقق مكاسب وطنية جديدة. * كاتب فلسطيني.