خلال الربع قرن الأخير، على الأقل، لم تسكت الشكوى من هزيمة السينما أمام التلفزيون، ودائماً كان اصحاب هذه الشكوى محقين. فالصالات السينمائية تضاءل عدد روادها، وأحياناً الى حدود الخطر، وأعداد الافلام المنتجة سنوياً الى تناقص - مع استثناءات ضئيلة جداً - ، وبلدان كانت عرفت قبل ذلك نوعاً من الانبعاث لنهضة سينمائية، وجدت نفسها - بالتدريج - خالية من أي إنتاج. فاذا اضفنا الى هذا ان بلداناً، معظمها أوروبي، سرعان ما تراجعت بعدما أبدت سخاءً كبيراً في معاونة السينمائيين من ابنائها أو من أبناء الأمم الاخرى، مفضلة التريث على الغاؤه وسط أزمات اقتصادية متلاحقة، سنجد ان الهزيمة السينمائية أمام الشاشة الصغيرة بدت حقيقية. وبدا حقيقياً ايضاً حلول التلفزة محل كل شيء تقريباً في حياة الناس، من الاجتماعات العائلية الى متابعة الحفلات والمباريات الى قراءة الاخبار وسماع التعليقات ودخول البورصة وحساب أرقامها. والتلفزة تعاملت مع هذا كله بكثير من الدهاء والتصميم في أول الأمر: كانت تعرف انها تخوض معركة ستفوز فيها، لكنها كانت تعرف ايضاً أنها معركة صعبة، قوامها إحداث تبديل هائل وجذري في حياة الناس وما طرأ على تلك الحياة طوال القرن العشرين ولا سيما من تحول ارتياد السينما والتماهي مع أفلامها، جزءاً أساسياً من تلك الحياة. كل هذا صحيح ومنطقي ولا يمكن ان يجادل فيه اثنان. ولكن يبقى السؤال: هل لا تزال هذه الاوضاع على حالها؟ وهل يمكن القول أن انتصار التلفزة سيكون دائماً. على السؤال الاول الإجابة واضحة: الى حد كبير... أجل. أما بالنسبة الى السؤال الثاني فالأمر يحتمل نقاشاً ورصداً دقيقين. فالحال أنه - ونحصر حديثنا هنا في ما يخص عالمنا العربي وحياته التلفزيونية، الأرضية والفضائية - ، اذا ظلت أحوال البرامج على حالها... واذا ظلّت مذيعات التلفزة على "الذكاء" و"خفة الدم" اللذين كشفت لنا حلقة في برنامج "الحلقة الأضعف" شاشة "المستقبل" خاصة بهن، عن نماذج منهما... وإذا ظلت المسلسلات السورية على إنحدارها بعد عصر ذهبي شهد انطلاقة رائعة... واذا ظلت برامج الحوارات السياسية والاجتماعية، على معظم الشاشات، ولا سيما شاشة "الجزيرة" ومن يسعى الى تقليدها، كما هي الآن... واذا ازداد عدد برامج المسابقات وأمعن المستوى الذهني والمعرفي لاسئلتها في الهبوط أكثر وأكثر مقدماً مادة دراسةتمميزة لعلم الاجتماع والسلوك وعلم النفس الجماعي... واذا ظلت شرائط الأغاني الفيديو كليب على ميوعتها وخوائها من أي بعد فني... واذا ظلّ المعلقون السياسيون، في الشاشات كافة، على سطحيتهم التي تميزهم الآن وتجعل ما يتوقعونه اليوم يسقط تلقائياً غداً... واذا ظلت نشرات الاخبار خارج الموضوعية وهمها الأول خدمة حكام البلاد... واذا ظلت نشرات الطقس، كاذبة في معظم توقعاتها كما حالها الآن. واذا ظلت الافلام السينمائية المعروضة، تعرض وتكرر الى ما لا نهاية بحيث حفظها الجمهور وملّها وبات يتطلع الى جديد... اذاً، اذا ظل هذا كله كما هو الآن، من المؤكد ان أهل السينما ومحبي الفن السابع، سيضطرون عما قريب الى توجيه أسمى آيات الشكر الى محطات التلفزة الكريمة، لسبب بسيط، وهو ان هذه المحطات ستكون ساهمت، في شكل جدي، في اعادة قسم كبير من الجمهور الى صالات السينما بعد هجران طويل. وبهذا تكون التلفزة أسدت الى السينما خدمة لا تضاهى.