أثارت "عقيدة بوش الجديدة" الداعية الى حصر "محور الشر" في دول ثلاث هي ايرانوالعراق وكوريا الشمالية دهشة بل وارتياب حلفاء اميركا الاوروبيين وروسيا، وفي كل مكان من العالم. وفي ما كان العراق وكوريا الشمالية هدفين ينصبّ عليهما العداء الاميركي، منذ فترة طويلة فقد بدا ان هناك تباشير ذوبان ثلج في العلاقات الايرانية الاميركية بدأت تتلامح في الاشهر الاخيرة، مما دفع ببعض المراقبين الى الاعتقاد ان نهاية الإختصام بين البلدين الذي بدأ بعد نجاح الثورة الاسلامية عام 1979، على وشك ان يتحقق: فقد كانت ايران من اوائل الدول التي دانت هجمات الحادي عشر من ايلول سبتمبر، على الولاياتالمتحدة وبدا وكأن هناك "تقارباً" في سياسة البلدين ازاء افغانستان ومرشحاً للتطوير. لقد كانت ايران على عداء مرير مع نظام "طالبان" وبقيت كذلك حتى آخر لحظة. لقد قدمت، بالتعاون مع روسيا واوزبكستان المساعدات العسكرية، وعلى نطاق واسع، لتحالف الشمال، وهي القوة التي اعتمدت عليها الولاياتالمتحدة لتحقيق نصرها العسكري الباهر في افغانستان كما تحمّلت ايران وحدها الاعباء المادية والانسانية المترتبة على حراسة حدودها الطويلة مع افغانستان ودعمها. والجميع يعلم بأن ايران تحمّلت وحدها وعلى نفقتها الخاصة، الاعباء المالية الباهظة لاستضافة ما يزيد على مليوني لاجئ افغاني هربوا من بلادهم فراراً من القحط او الجوع او الاضطهاد من قبل "طالبان". وفي الاسابيع التي اعقبت هجمات الحادي عشر من ايلول، قام وزير خارجية بريطانيا جاك سترو بزيارتين الى طهران، بهدف الحصول على تأييد طهران في حرب الولاياتالمتحدة ضد الارهاب. وتؤكد التقارير انه على رغم ان الزيارتين لم تتكللا بالنجاح، ولم تحققا النتائج المرجوة ولكن بات واضحاً انهما مهّدتا لمصالحة ايرانية اميركية مرتقبة. وامتدحت واشنطن "دور ايران الايجابي" في مؤتمر بون عن افغانستان الذي رعته الاممالمتحدة والذي افضى في نهاية المطاف الى تشكيل حكومة حميد كارزاي اول حكومة انتقالية في افغانستان. وتعهدت ايران بدفع ما يقدر ب500 مليون دولار الى الصندوق الدولي لاعادة اعمار افغانستان، مما اثار اعجاب وتصفيق الدول المانحة. ولم يعد سراً ان ايران قد تبرعت وعلى امتداد الحملة العسكرية الاميركية ضد "طالبان" بأن تساعد على انقاذ الاميركيين العاملين في الحملة، اذا تعرضوا لصعوبات بل انها كما تفيد التقارير سمحت للطائرات الحربية الاميركية، بأن تهبط في المطارات الايرانية في الحالات الطارئة. ولهذه الاسباب مجتمعة بدا وكأن الولاياتالمتحدةوايران تتحركان نحو اقامة علاقات صحيحة، وان لم تكن علاقات صداقة. دور اسرائيل في السياسة الاميركية فما الذي دفع بالرئيس بوش وبكبار المسؤولين الاميركيين، مثل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس الى اضافة ايران الى "محور الشر الثلاثي" المتهم بنشر الارهاب واسلحة الدمار الشامل في العالم كله؟ هناك عاملان رئيسيان لعبا دوراً حاسماً في تحقيق هذا التغيير، او الانقلاب: الاول هو تأثير اسرائيل من خلال خدمات اللوبي الصهيوني ونشر الاخبار الكاذبة والمضللة في صياغة الموقف الاميركي من ايران، والثاني هو نفوذ الصقور في الادارة الاميركية، وهؤلاء يصرّون على ان ايران هي عقبة امام مطامح الهيمنة الاميركية في الخليج وآسيا الوسطى. لم تتوقف اسرائيل منذ سقوط حكومة الشاه، الحليف القديم المضمون لاسرائيل عام 1979 عن اقناع العالم بان جمهورية ايران الاسلامية وقواها المناضلة في الجهاد الاسلامي يشكلان تهديداً كاملاً ليس على الشعب اليهودي فحسب، وانما على الانسانية جمعاء. وكان زعماء اسرائيل بلا استثناء، في السنوات الاخيرة، رابين وبيريز ونتانياهو وباراك وشارون يؤكدون على هذا الامر، في كل مناسبة تسنح لهم، مصرّين على "ان ايران هي مركز الارهاب الاسلامي" في العالم. وليس من الصعب معرفة اسباب العداء الاسرائيلي لايران: ففي لغة الجغرافيا السياسية الاقليمية تشكّل ايران الدولة الوحيدة القادرة على تحدي التفوق الاسرائيلي بنجاح. ثم ان التحالف الاستراتيجي مع سورية ودعم "حزب الله" في لبنان، اثارا غضب اسرائيل فلم تنقطع عن ادانتهما بعنف والتقارب الاخير بين ايران والمملكة العربية السعودية مكّنها من ان تكسر الطوق، من "سياسة الاحتواء المزدوج" التي كانت تنتهجها الولاياتالمتحدة بوحي من اسرائيل. ولم يكن الانفتاح الاخير الذي سمحت به ايران وسورية على العراق اقل اثارة لاسرائيل التي لا تزال فكرة "الجبهة الشرقية الثلاثية" تشكّل كابوساً مرعباً يقض مضاجع قادتها منذ القديم. وفوق كل شيء آخر اتت اشارات "ذوبان الثلج" في العلاقات بين ايرانوالولاياتالمتحدة اخيراً لتزيد من قلق اسرائيل، لان هذا التطور من شأنه ان يسمح لايران ان تتابع استعداداتها العسكرية بما فيها برامجها الصاروخية الباليستية دونما خشية من ادانة اميركية. ومن هنا، فقد اصبح الهدف الثابت للسياسة الاسرائيلية تشويه سمعة ايران، واقناع واشنطن، وبكل الوسائل الممكنة ان ايران تضمر نوايا عدوانية وشريرة. هناك حملتان من التضليل والتشويه المقصود قامت بهما الاستخبارات الاسرائيلية يستحقان ان نتوقف عندهما قليلاً: فقد دأبت المصادر الاسرائيلية على نشر التقارير الكاذبة عن اتفاق مزعوم عقد بين الجناح المتشدد في ايران بزعامة آية الله خامنئي وتنظيم "القاعدة" في افغانستان. وتشير هذه التقارير الى ان مساعدي آية الله خصوصاً في اجهزة الامن قد ساعدوا اسامة بن لادن، وزعيم "طالبان" الملا عمر، وبعض التابعين لهما، على الهرب الى ايران، حيث ينعمان اليوم بالحماية الهادئة اللازمة. هذه التقارير مضلّلة من دون ادنى ريب، ليس فقط بسبب العداء المتحكّم بين ايران و"طالبان" منذ فترة طويلة بل لان ايران كذّبتها بشدة ولكن واشنطن التي تتأثر جداً بتقارير الاستخبارات الاسرائيلية تميل الى تصديقها. والدليل ان وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد شخصياً هو الذي كرّر هذه المزاعم على شاشة التلفزيون الأميركي في 3 شباط فبراير الحالي. قصة الباخرة "كارين اي" الحملة الثانية متعلقة بالباخرة "كارين اي"، وهي الباخرة التي اختطفها رجال الكوماندوس الإسرائيلي في البحر الأحمر، والتي تدعي إسرائيل أنها تحمل 50 طناً من الأسلحة المقدمة من إيران إلى السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات. واستغلت آلة الدعاية الإسرائيلية هذه الحادثة حتى النهاية، واستخدمتها لإدانة إيران وياسر عرفات، واتهامهما بأنهما يشكلان "مركز الإرهاب العالمي" ولتسليط الغضب الأميركي عليهما. وحاولت إسرائيل أيضاً توريط المملكة العربية السعودية في قصة الباخرة "كارين اي"، إذ قام أصدقاء إسرائيل في أجهزة الإعلام الأميركية، بعد هجوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر، بعمل كل ما في وسعهم للإساءة إلى العلاقات بين الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية، وظهرت مقالات كثيرة في الصحف الأميركية تزعم أن جذور الإرهاب الإسلامي موجود في المذهب الوهابي السعودي، وفي القطاع التربوي الإسلامي المطبق في المملكة العربية السعودية. وفي قطاعات مختلفة أخرى في المجتمع السعودي، وان لا علاقة للإرهاب بسياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، وبالتالي لا توجد علاقة بين الإرهاب وتأييد الولاياتالمتحدة لسياسة إسرائيل العدوانية في الشرق الأوسط. ولهذا لم يكن من المستغرب أن تنشر المصادر المرتبطة بالاستخبارات الإسرائيلية تقارير تزعم أن الباخرة "كارين اي" وحمولتها من الأسلحة اشتراها بعض رجال الأعمال السعوديين المقربين من الأسرة المالكة. ولكن لم يبرز دليل واحد لإثبات هذا الافتراء الإسرائيلي الفاضح. على أن المصادر الاستخباراتية الغربية التي استشرتها حول هذا الموضوع ترى في قضية الباخرة "كارين اي" قضية مشبوهة وملتبسة للغاية. ولا يبدو ان هناك أحداً يعرف بالضبط من هو المالك الحقيقي لهذه الباخرة، ولا من أين أتت الأسلحة، وما هي الجهة المرسلة إليها. تزعم بعض المصادر أنه من الجائز أن تكون القضية بكاملها مختلقة من قبل جهاز "الموساد" الإسرائيلي، بهدف تحريض الرأي العام الأميركي ضد إيرانوعرفات، وترى مصادر أخرى ان الباخرة "كارين اي" هي جزء من مجموعة بواخر كانت تستخدمها إسرائيل لشحن الأسلحة إلى إيران أثناء الحرب الإيرانية - العراقية في خرق للحصار الأميركي. وكان من الممكن أن تكون الحملة المضادة لإيران أقل حدة لولا أن الصقور في الإدارة الأميركية مقتنعون بأن إيران تشكل تهديداً للمصالح الاستراتيجية الأميركية. الولاياتالمتحدة عازمة على أن تكون لها السيادة المطلقة في أفغانستان، وعازمة أيضاً على أن تقلص أي نفوذ آخر في المنطقة، خصوصاً النفوذ الروسي والإيراني. ويسعد شركات النفط الأميركية أن تعيد طرح المشروع القديم بشق طريق أفغاني لنقل النفط والغاز من بحر قزوين إلى السوق الاوروبية في حين ترى إيران أنها قادرة على تأمين هذا النقل داخل أراضيها. ومما لا شك فيه أن الولاياتالمتحدةوإيران قوتان متنافستان في القوقاز وآسيا الوسطى، وقد دأبت الولاياتالمتحدة أخيراً على تكريس وجودها الاقتصادي والعسكري، ولكن إيران، هي الأخرى، تنشط في ذات المنطقة لحماية مصالحها الحيوية. إن الولاياتالمتحدة، الحريصة على أن تمارس أشد أنواع الضغط على العراق للسماح بعودة مفتشي الأممالمتحدة إليه، قد اغضبها التحسن الطارئ على العلاقات العراقية - الإيرانية، كما أغضبها دفاع روسيا العلني عن البلدين في المنتديات السياسية العالمية. إن إيران بتصديها للتوجه الأميركي - الإسرائيلي، كما تفعل الآن، تجد نفسها هدفاً للدعاية المضللة المعادية. هل تنتهي الأمور عن هذا الحد؟ أم أن إيران ستجد نفسها، ذات يوم، هدفاً لشيء أكثر تهلكة وايذاء؟ * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.