تقول المستشرقة والباحثة والشاعرة الالمانية أنا ماريا شيمل في قصيدة لها بعنوان "أكتب اليك": "بعد حين/ ربما ستسمع صوتي في الأغصان الذابلة للغسق الخريفي"، وتقول في قصيدة ثانية بعنوان "غازني الخريفي": "الدهر الهرم هو الريح/ والجبال تحدّق بعيون صامتة/ القبور والخراب المفتت/ تنمو زهوراً شهيّة من الحجر/ أشجار الدلب/ مدّت أكفّها.../ أشجار الحور تحاصر البلدة/ مرآة مجد الأزمان الغابرة/... والجبال تستعيد أيام العشق". هذه العناصر لقصائد من آنا ماريا شيمل، مستلّة من مجموعة أشعار لها، نقلتها عن الالمانية الشاعرة العراقية المقيمة في برلين أمل الجبوري وأصدرتها العام 2001 عن دار نشر "ديوان"، تحت عنوان "عنادل تحت الثلج". والقصائد ذات جوهر صوفي بيّن تنتهجه الشاعرة، ولعلها وارثة إرث صوفي الماني أسسه شعراء الرومانسية الطبيعية وشعراء الوجد بالطبيعة الكبار، من أمثال نوفاليس وفردريك شيلر ورايز ماريا ريلكه وهلدرلن وصولاً الى غيورغ تراكل... ممن نستطيع ان نسميهم شعراء صوفية البلاد الباردة. هنا تتدخل الطبيعة الجرمانية بجبالها العالية وثلوجها وغاباتها الهائلة وليلها البارد وقمرها الأزرق، وطيورها المدفونة تحت الثلج، في صنع الوجدان الخاص لشعرائها، فهو وجدان حارّ تحت الثلج، على صورة عنوان آنا ماريا شيمل "عنادل تحت الثلج"، وحرارته تتولّد من تلك الرومانسية الصوفية التي اشتهر بها هؤلاء الشعراء، وكانت أساساً في صنع وجدانهم الشعري، القريب في حرارته ورؤيته من وجدان صوفية الشعر المشرقي، على اختلاف المكان والزمان من أمثال مولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطّار النيسابوري والحسين بن منصور الحلاّج وحافظ الشيرازي. ولا يستبعد سريان الوجدان المشرقي الى هؤلاء، فمن الثابت على سبيل المثال، تأثر شاعر الألمان الأكبر غوته بحافظ الشيرازي، وبالروح الإسلامية المشرقية، خصوصاً في ديوانه "الشرقي الغربي"، كما أن اهتمام آنا ماريا شيمل بالتراث الصوفي الإسلامي، ترك بصماته العميقة في تكوين شخصيتها الروحية، وفي روحية أشعارها، سيما أنها قامت بنقل أشعار جلال الدين الرومي الى الالمانية، وكتبت دراسات مستفيضة عن هذه الأشعار، كما قامت بتدريسه، فصورة جلال الدين الرومي حاضرة في أشعارها، ومثلها حال أبي منصور الحلاّج شهيد الوجد والشطح، فهي تخصه بقصيدة بعنوان "المساء في تاجبور" وتخاطبه خطاباً شديد القرب وعميق الأغوار: "منصور آه يا منصور/ لاطف رأسه شجرة المشنقة/ منصور يا منصور/ سرير عرسه شجرة المشنقة.../ على ضربات الطبل مات بقيده/ المساء يهمس حلواً/ يقود خطواتنا الى سرير الورد الشجرة/ حيث تنتهي كل أحلامنا/ ليطفئ ظمأه/ بنبيذ أبدي/ يغوص في العشق دوني ودونك/ منصور يا منصور". وشعراء الرومانسية الصوفية الألمان، الذين سبقوا شيمل، كانوا أبناء مكانهم الجرماني باتياز. لا ينفي ذلك أن العنصر الثقافي لإرث الصوفية الإسلامي، كان غالباً على آنا ماريا شيمل أكثر من السحر المنبثق من عناصر الطبيعة. لكنها مثلهم تغسل عناصر الطبيعة بماء الوجد وبريق الروح، وبرق الإشراق. يسأل ريلكه في احدى قصائده، امرأة منحنية فوقه قائلاً: "أأنت الليل؟"، ويتجاسد معه فهو في أشعاره سرّ وستر. وهو في أشعار نوفاليس أصل ومآل، كالغابة في أشعار تراكل وهينه وبرخت وهلدرلن وشيلر. انهم صوفية الطبيعة هذه. ريلكه لا يذوب في الليل أو "يخشخش في حلم الليل" بتعبيره، فقط، بل هو يتحد بالمطر والبحار، ويصعد في اتجاه المساءات واتجاه السماء "تحت الأغصان الداكنة". وتماهي أطراف الشاعر وجسده أو "الكائن" بأطراف العناصر من جسد المكان، مسألة جوهرية في شعر الحلولية الالمانية الغنائية، حيث الإنسان ابن الطبيعة وزهرتها، وحيث الطبيعة والإنسان معاً في "قلب الله". يقول شيلر: "نحن أخوة تحت خيمة النجوم". وتقول آنا ماريا شيمل "تمدّ ذراعها الشجرة/ صوب الوليّ الغافي". وليس الشعر عند هلدرلن سوى "لغات السماء وغنائها"، ويقول في قصيدة "جرمانيا"، وهي من القصائد التي كتبها بعد سقوطه في ليل المرض العقلي: "في مقدمة الزمن الفجّ/ يخضرّ الآن من أجلهم الحقل/ وجاهزة هي الذبيحة لمائدة السعيد/...". وفي أجمل تجلياته، تلك التي كتبها في الجنون، يظهر هلدرلن مشغوفاً بالطبيعة، وهاذياً فيها هذيان الصوفية. ومثله نوفاليس في قصائده المسماة "أناشيد الى الليل"، حيث الليل هو العماء والظلمة، تلك التي مجّدها الصوفية المسلمون لأنها تؤمّن ذلك الدمج الفذّ بين الكائنات، وهو دمج لا يحصل إلاّ في ليلٍ أليل، لذلك اعتبروا الضوء أو النور بمثابة حجاب. يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: "النور حجاب". والعماء في المصطلح الصوفي أبعد من الليل، لعله المطلق أو الخيال الذي كان في البدء ولا يبقى سواه. وقد أشار أدونيس في تفسيره لخطاب ابن عربي لذلك في كتابه "الصوفية والسريالية" فكتب "في البدء كان العماء المطلق المسمى العماء، ويُعنى به الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة، وهو يقبل صُوَر الكائنات ويقبل تصوير ما لم يكن بعد، ففي العماء ظهرت جميع الممكنات منتشية بنفس الرحمن، كما يعبّر ابن عربي". وهذا الدمج بين العشق والموت والطبيعة أو الوجود، نجده في أشعار آنا ماريا شيمل أيضاً. تقول في قصيدة "رسالة فرهاد الى شيرين": "السرو ينتظر/ الشموع تشكلت من ضوء الحيرة الأسود/ هناك يسير دونما كلمات/ وأنا أنقش وجهك على حجر الزمرّد/ خلف السماوات". وللغابة طقوس رومانسية صوفية في شعر هؤلاء الشعراء. فظهرت أشعارهم وكأنها أنفاس الغابات التي آنسوها. فالشاعر غيورغ تراكل، يكاد يكون في مجموعة قصائد له بعنوان "البخور يتصاعد من الوسائد الوردية"، "مدّاح الغابة". انه يبتهج بضربة جناح الليل ويدعو الرعاة الى سحر الغابات الغسقيّة... "حيث الينابيع الهامسة وصوت الطائر المتوحد فوق صمت البحيرة". وان ما سمّاه لودفيك تيك Tieak ب"خلوة الغابة"، ينسحب من الطبيعة الى الأشعار، فمن مشهد التصاق الهضبة المستديرة والغابة العملاقة بسقف السماء المضيئة، تتولد شرارة الشعر. تظهر لنا آنا ماريا شيمل في قصائدها "عنادل تحت الثلج"، وكأنها وارثة إرثين رومانسيين وصوفيين معاً: إرث شعراء الرومانسية التأملية الألمان المعدودين، وإرث التصوّف المشرقي الكبير، متمثلاً بأبرز رموزه: مولانا جلال الدين الرومي والعطار النيسابوري والحلاّج. فشعرها وليد امتزاج عناصر المكان الجرماني بالثقافة المشرقية. وعذوبة قصائدها ولمعانها، يتسربان الينا من خلال ما قامت به الشاعرة أمل الجبوري من نقل هذين العنصرين في شعر شيمل الى العربية. وقد حافظت المترجمة الى حد بعيد على خصوصية المفردة الصوفية التي استعملتها شيمل في قصائدها، كقولها "كلٌّ يتمرأى في نور الآخر/ الضياء الذي يشعّ منك كان الحجاب"... وقولها: "لا الصورة ولا الكلام ولا المرآة/... كل قطرة من دمي هي عين تتأملك دون حجاب"... فمن حيث برعت الجبوري في نقل الصورة والمعنى والمفردة بدلالاتها من الالمانية الى العربية، فإنها سرّبت الينا هذا الوجد الخاص بالشاعرة الالمانية، وهو وجد غير بعيد عنّا. إلا أننا لا نرى ما تراه الجبوري في مقدمتها، في أن الشاعرة الالمانية، احتمت بالتصوّف من سادية التاريخ الذكوري للكتابة ومن فضيحة البوح وكبريائه. فليس في سيرة آنا ماريا شيمل أو كتاباتها ما يشي بهذه العقدة التي قد تكون شرقية... وحتى في الشرق الوسيط والقديم فإن "رابعة العدويّة" كانت احدى الواصلات الى الله، لا نكايةً بالذكور، بل انخطافاً بالأنوار المحمدية، وبالعشق الإلهي. وإشارة المترجمة الى تسربل عناصر نصوص الشاعرة في الطبيعة والدمع والطائر وحتى الطلّ ولعله الطل الصوفي بالوشاح الروحي الذي هو وشاح التصوف اشارة صحيحة، فأساس هذا الشعر أساس رمزي. هو في حقيقته شعر رموز وأقنعة واشارات، سواء اتخذ مفرداته ومواده من الطبيعة أو من التراث. فالناي في أشعار جلال الدين الرومي يبكي وينوح شوقاً لرجوعه الى أصله في القصب. والغزلان في قصيدة "رسالة ليلى الى المجنون" في مجموعة "عنادل تحت الثلج" يشربن من دموع المجنون ليرقدن في الخلود. تأخذ شيمل من مولانا جلال الدين الحماسة الروحية، واشتعال نيران الوجد الديني في الصدر، هذا الوجد الذي يعمر جميع النصوص وربما تسمّى بالعشق، فهي تقول في "رسالة شيرين الى فرهاد": "يطعم الخزامى وحدها أكفان شهداء العشق". وهذا الانتقال من الحسّ الى ما وراء الحسّ هو جوهر الشعر الصوفي المؤسس على الرمز والتأويل. يقول جلال الدين الرومي في ديوانه المسمى "شمس تبريز": "انني مرآة/ انني مرآة"، وتقول شيمل في قصيدة "رسالة زليخة الثالثة الى يوسف": "كلٌّ يتمرأى في نور الآخر"، ولا يبعدُ ناي جلال الدين أبداً عن معاني شيمل حين تقول: "افترقنا للأبد عن أوطاننا وجذورنا/ آه إذا ما مسّتنا أنفاسك/ فسوف نتحرق لنكون مزمارك". وإذا كان جلال الدين الرومي يتحدث عما يسميه "حمائم الروح" حيث يقول: "لقد أعددت لحمائم الروح أبراجاً تأوي اليها/ فانطلق يا طائر الروح"، فإن تلميذته شيمل أيضاً خاطبت الحمام واليمام بالرمز العذب نفسه "مثل يمامة عذبة محلّقة على شجرة سرو/ فكرت بيديك/..."... ووحدة الوجود أيضاً هي هي هنا وهناك، وتأويل القصص الديني أيضاً... فإننا نجد شيمل تلجأ الى حكاية يوسف وزليخا، التي استغل الصوفية رمزها، لتكتب فيها أربع رسائل: ثلاث رسائل من زليخة الى يوسف ورسالة من يوسف الى زليخة... وهي رسائل وجد صوفي، وتستوحي أيضاً، على غرار ما فعله جميع شعراء المتصوفة العرب والإسلاميون، من حكاية المجنون وليلى، نصوصاً عذبة في العشق والجنون على صورة رسائل متبادلة بين العاشقين، كما هي توسّع من نطاق لجوئها الى قصص الحب المسؤول في تراثٍ شرقي واسع يمتد من بلاد العرب الى هضبة ايران، ومن هناك الى أفغانستان وكشمير وصولاً الى الهند وتاج محلّ... فتكتب رسالتين متبادلتين بين شيرين وفرهاد، وهما في الذاكرة الساسانية القديمة، شبيهان بليلى والمجنون، وقد تحوّلا الى رمزين للعشق المحروم وللوصال في الأبدية. وغالباً ما استوحى حافظ الشيرازي قصتهما في أشعاره. فمرجعية آنا ماريا شيمل مرجعية مشرقية ذات اتساع وشمول كبيرين. انها تستلهم رحلة الطير التي كتبها فريد الدين العطار النيسابوري في كتابه "منطق الطير"، في قصيدتها "رحلة"، وكما أنّ الطيور في "منطق الطير" تحلّق ذاهبة في اتجاه طائر الطيور، في رحلة معراج روحي، كذلك فإن شيمل تتصور رحلةً "عبر الفجر والغيوم/ وأبعد من النجوم" بحثاً عن "وردة الخيمياء". وهي تستلهم في قصيدة "المساء في تاجبور" مأساة الحسين بن منصور الحلاّج، كاتبةً له مرثية تنضح بالحزن والوصول: "منصور يا منصور/... على ضربات الطبل رقص بقيده". وهناك أسماء أماكن وأشخاص تاريخية وعرفانية تحتشد بها القصائد وحسناً فعلت المترجمة بوضعها في نهاية الكتاب ما يشبه تعريفاً موجزاً بالناس والأمكنة.