على خلاف الصورة الشائعة عن الاستشراق، والتي وصمت أكثر المستشرقين بالغلو والتعصب ضد الإسلام، قدمت المستشرقة الألمانية انا ماري شيمل نموذجاً مشرقاً ورفيعاً للاستشراق، اتسم بالاعتدال والانصاف والنظرة الموضوعية الرشيدة. فقد تصدت لتصحيح المفاهيم المغلوطة السائدة في الغرب عن الاسلام والمسلمين، وهاجمت الظلم الفكري الذي أوقعته الثقافة الغربية طوال تاريخها بالثقافة الإسلامية. ويقدم هذا الكتاب الذي قام بإعداده وترجمته الى العربية الباحث المصري ثابت عيد الذي يعيش في زيورخ - سويسرا، لمحة عامة عن حياة المستشرقة الألمانية وعطائها العلمي في مجال الدراسات الإسلامية، ويعرض لأهم أفكارها وآرائها في مختلف القضايا الإسلامية المثارة في الغرب حالياً، كما يتضمن نموذجاً من كتاباتها عن التصوف الإسلامي. في البداية عُرفت شيمل في أوساط المستشرقين الألمان بصورة الفتاة الحالمة المفتونة بالشرق الإسلامي، فهي اقبلت على تعلم اللغة العربية في فترة مبكرة من حياتها حتى أجادتها في سن الخامسة عشرة، ثم انجزت دراستها الجامعية وحصلت على شهادة الدكتوراه الأولى في سن التاسعة عشرة تحت اشراف البروفيسور ريتشارد هرفمان. ولكن الأهم من ذلك - كما يوضح الكتاب - كان اللقاء مع البروفيسور هافس هاليزيخ شيدر الذي تركت عبقريته وآراؤه الخاصة بتاريخ الفكر والحضارة بصماتها الواضحة على شيمل. وشيدر هو الذي شجعها لاحقاً على دراسة أشعار الشاعر الانكليزي جون دون، والذي أظهرت خواطره واستعاراته تشابهاً هائلاً مع بلاغة شعراء الإسلام المبدعين. وفي سنة 1943 صدرت رسالتها للدكتوراه تحت عنوان "الخليفة والقاضي في مصر في القرون الوسطى المتأخرة"، ثم حصلت على درجة الاستاذية في العام 1946 عن أطروحة عنوانها "البنية الاجتماعية لطبقة العسكريين عند المماليك"، ثم نالت دكتوراه ثانية تحت إشراف فريدريخ هايلر استاذ تاريخ الأديان في العام 1951. وعلى رغم هذه الإنجازات العلمية الكبيرة لم تحصل شيمل على كرسي للتدريس في ألمانيا وذلك بسبب بعض المواقف المتعصبة التي مارستها الأوساط الاكاديمية في بلادها، ما اضطرها الى الانتقال الى تركيا لتدريس مادتي تاريخ الأديان المقارن والفن الإسلامي في كلية أصول الدين في جامعة انقرة. وفي سنوات إقامتها هناك حققت شيمل انسجاما سريعاً في حياتها الشخصية والعلمية، حتى سماها اصدقاؤها الاتراك "جميلة" أو Cemile، وهو اسم تركي مؤنث يشبه لفظيا اسم شيمل، ويشير الى إحدى صفاتها. فهذا الاسم المشتق من النعت العربي "جميل" يتضمن ايحاءات إسلامية خاصة، ويذكرنا بحديث نبوي شريف له مكانة خاصة عند الصوفية، وهو "إن الله جميل يحب الجمال". ومنذ ذلك الحين أصبح "الجمال الإلهي" يمثل معيناً لا ينضب لفكر شيمل وأبحاثها العلمية عن التصوف الإسلامي. كذلك شهدت السنوات التي قضتها شيمل في تركيا اهتمامها بموضوع الهند الإسلامية، وهو التخصص الذي أولته عنايتها أثناء عملها الذي دام نحو 25 عاماً في جامعة هارفارد الاميركية، كاستاذة كرسي لمادة "الإسلام في الهند". طوال هذه السنوات، التي امتدت لأكثر من نصف قرن، عاشت شيمل كراهبة في محراب العلم، متفرغة للبحث والدرس وعازفة عن الزواج والانجاب، واعتبرت أبحاثها وكتبها بمثابة ابنائها الحقيقيين، ولذا تميز انتاجها العلمي بالغزارة، واشتملت مصنفاتها على تخصصات عدة. ويأتي في مقدم مؤلفاتها كتاب "مقدمة في تاريخ الأديان المقارن" الذي اصدرته باللغة التركية في العام 1955. وفي السنة نفسها أصدرت كتاباً آخر عن سيرة الصوفي ابي الخفيف الشيرازي محتوياً على ثلاثمئة صفحة من النصوص الفارسية ومقدمة تركية تتألف من مئة صفحة. ولا شك في أن أعمال شيمل عن التصوف الإسلامي تقع في محور هذه التخصصات، ثم تتفرع حوله دراساتها عن الإسلام في الهند، التي نشرتها اثناء عملها في جامعة هارفارد، وتأتي بعد ذلك أبحاثها الوفيرة والقيمة عن الأشعار الإسلامية، وأخيراً أعمالها عن الفن الإسلامي، خصوصاً فن الخط العربي، وكلها تخصصات مترابطة الى حد كبير. وبالإضافة الى المصنفات العلمية، هناك مؤلفات عامة مبسطة، مثل كتابها عن القطط الذي جاء تحت عنوان "القطة الشرقية" أو كتابها عن الألغاز التركية، ومثل كتابها السياحي الرائع "باكستان مقر ذو ألف باب"، أو كتابها عن ذكرياتها التركية "أخي اسماعيل"، وكتاب "يوم ربيعي في مدينة قونية مع جلال الدين الرومي". والى جانب هذه الأعمال تأتي ترجماتها الوفيرة للاشعار الشرقية من العربية والفارسية والتركية والأوردية، والباشتوية والسندية والسيريكية، ثم أشعارها الشخصية باللغتين الألمانية والانكليزية. يفرد الكتاب مساحة أكبر للحديث عن مؤلفات شيمل في التصوف الإسلامي، ومن أهم كتبها في هذا الموضوع كتاب "أبعاد التصوف الإسلامي" الصادر بالانكليزية في العام 1974، وهو مرجع مهم يعالج جوانب مختلفة من التصوف الإسلامي وتطوره، ويقع في ثمانية فصول طويلة، مقسمة بدورها الى أقسام أصغر. ثم أعقبه كتاب ضخم عن الصوفي الكبير جلال الدين الرومي عنوانه "الشمس الظافرة" في العام 1978، وترجم لاحقاً الى الألمانية تحت عنوان "أنا الريح وأنت النار" وهو شطرة من أشعار الرومي. وفي العام 1981 صدر كتابها "محمد رسول الله" بالألمانية، ثم تُرجم الى الانكليزية وصدرته برباعية باللغة الاوردية كتبها شاعر هندوسي يقول فيها: "قد أكون كافراً أو مؤمناً - ولكن هذا شيء علمه عند الله وحده - أود أن انذر نفسي كعبد مخلص - لسيد المدنية العظيم - محمد رسول الله". ويعبر هذا الكتاب بصدق عن تقدير شيمل الشخصي للرسول محمد، الأمر الذي جعلها تواجه ملاحظات النقاد عن هذا الموضوع، قائلة بحزم "إنني أحبّه". ثم صدر لها بعد ذلك كتاب عن الحجاب الصوفي عنوانه "وكأنه من خلال الحجاب"، وهو يشتمل على مجموعة محاضرات ألقتها شيمل في جامعات أميركية وكندية عدة. وإلى جانب هذه المراجع الأساسية، أنجزت مجموعة من الدراسات الصغيرة مثل "الحلاج شهيد الحب الإلهي" الذي نشر للمرة الأولى في العام 1968. ثم أصدرت كتاباً عن المتصوف التركي والشاعر الشعبي يوسف إمرة تحت عنوان "رحلات مع يوسف إمرة" في العام 1989. فضلاً عن كتاب "الفانات بُسطُ المواهب"، ويحتوي مجموعة حكم الصوف المصري ابن عطاء الله السكندري، الذي عرف بأنه "آخر معجزة صوفية على النيل". وكتاب "حدائق المعرفة" الذي يحتوي على منتخبات من النصوص الصوفية. وكتاب "المطالعة"، وكتاب "الحياة". أما كتبها في موضوع الإسلام في الهند، فقد بدأت بترجمة كتاب "الخلود" للشاعر الهندي المسلم محمد إقبال الذي يمثل نوعاً من التفسير الحديث لواقعة المعراج. ثم ألفت عن إقبال نفسه كتابا بالانكليزية عنوانه "جناح غبرائيل" الذي ترجم الى الألمانية العام 1989، وصدر تحت عنوان "محمد إقبال شاعر نبوي وفيلسوف". ومن دراستها لإقبال، انطلقت شيمل تبحث في سير شعراء الأوردية من أسلاف هذا الشاعر، مثل أسد الله الغالب الذي ترجمت أشعاره وشرحتها في كتاب "رقص الشرار - مجاز النار في شعر غالب"، وترجم لاحقاً إلى الألمانية تحت عنوان "موج الورد وموج الخمر". بعد ذلك ظهر لشيمل كتاب "الألم واللطف الإلهي - دراسة عن كاتبين صوفيين من الهند في القرن الثامن عشر"، هما الشاعر مير درد الدهلوي وشاه عبداللطيف البهيني. ثم صدر كتابها "الآداب الإسلامية في الهند"، وأعقبه كتاب "من الأدب السندي" ثم كتاب "من الأدب الأوردي القديم" ثم العرض الشامل العميق لتاريخ الهند الإسلامية تحت عنوان "الإسلام في شبه القارة الهندية"، فضلاً عن كتاب "العشق الإلهي" وهو عبارة عن نصوص من التراث الصوفي للهند الإسلامية، وكتاب "حكايات باكستانية" وهو مجموعة نصوص مختلفة، وكتاب "دراويش الهند والسند" وهو مجلد فخم من الصور رائعة الجمال، وكتاب "بحث بلا نهاية - حكايات شاه عبداللطيف السندي". وإلى جانب التصوف، لعب الشعر دوراً مهماً في كل هذه الأعمال، حتى تكوّن لدى شيمل سجل حافل من المجازات والتشبيهات والاستعارات في الشعر الإسلامي التي لم تتغير في صميمها كثيراً على مر القرون، ولكنها كانت تتخذ دائماً أشكالاً جديدة، ولم يكن الأمر ليحتاج إلا عقد العزم على إفراغ هذا المستودع المنظم، ثم تزويده بما يلزم من الشروحات والتعليقات، وهو ما حدث فعلاً في كتابها "النجم والزهرة - عالم المجازات في الشعر الفارسي" الذي يشير عنوانه إلى اثنين من أهم مصادر الصور الشعرية في خيال شعراء الشرق: عالم الكواكب، وعالم الأزهار. وكنتيجة طبيعية لاشتغالها بالشعر، نبع اهتمام شيمل بالخط العربي، وانجزت دراستها المعروفة "فن الخط العربي والثقافة الإسلامية" الذي عالج بإسهاب الأوجه المتعددة لفن الخط العربي، ومدى تداخلها مع الثقافة الإسلامية، بداية من شتى أنواع الخطوط، الى المكانة الاجتماعية للخطّاطين حتى التأويل الصوفي للخطوط، وما ترمز اليه الحروف الفردية، وكذلك استخدام الحروف في لغة الشعر المجازية. ويسرد الكتاب معلومات مفصلة عن مجموعة أخرى من مؤلفات شيمل الغزيرة التي لا يتسع المجال لحصرها بدقة، مثل كتاب "من الكأس الذهبية"، ويحتوي على ترجمات للشعر التركي منذ بواكيره الأولى، وكتاب "انظر: هذا هو الحب"، ويعرض لبعض رباعيات الرومي وغزلياته المترجمة الى الانكليزية والألمانية، وكتاب "خذ وردة وسمها أغنية" الذي جمعت فيه مختارات من ترجماتها السابقة، والعنوان مقتبس من قصيدة للشاعر أدونيس. ومن كتبها المهمة كذلك كتاب "مقدمة في الإسلام" 1992، وكتاب "الاسماء الإسلامية" الذي صدر بالانكليزية 1989، وبالألمانية 1993