تحتفل الأوساط الفكرية الاسلامية والاستشراقية بمرور ستين سنة على بدء اشتغال عميدة الاستشراق الالماني آنا ماري شيمل بالمسائل الاسلامية المختلفة، من مخطوطات وفنون وعمارة الى جانب الاعمال الفكرية المتنوعة باللغات الالمانية والانكليزية والتركية والعربية وغيرها. وفي هذه المناسبة، تخصص "الحياة" هذا الملف الذي يلقي أضواء ساطعة على حياة وأعمال واحدة من أهم الباحثات والباحثين اللواتي عرفهن القرن العشرون. كيف بدأت قصة عشقك للثقافة الإسلامية؟ - يعود اهتمامي بالعالم الشرقي إلى طفولتي المبكرة، حيث قرأتُ الكثيرَ من الكتب عن الشرق الإسلامي. وكنتُ محظوظة لأني وجدتُ معلماً للغة العربية وأنا في سن الخامسة عشرة، هو الدكتور إلينبرغ Ellenberg الذي كان محاضراً في جامعة ينا Jena، ولكنه كان يعيش في مدينة إرفورت Erfurt التي نشأت فيها في ألمانيا. لم أتعلم منه قواعدَ النحو العربي فحسب، ولكن كان بوسعي أيضاً أن أقرأ عنده كتباً كثيرة عن التاريخ والآداب الإسلامية، بحيث صار لديّ خلفية محترمة عن الثقافة الإسلامية. ولأني قفزت سنتين في المدرسة، فقد انتهيتُ من شهادة الثانوية العامّة مبكرة جداً. بعد ذلك كان عليّ، مثل كل البنات الألمانيات اللواتي أردن مواصلة تعليمهن الجامعي أن أقضي ستة أشهر في الخدمة العامّة، أي أن أمارس أعمالاً منزلية وزراعية في إحدى القرى الألمانية. كان هذا أمراً قاسياً جدّاً علي. ولكن الأصعب منه كان مصادرة المسؤولين الألمان لكتابي الخاص بالنحو العربي، بحجة أن هذا شيء لا يليق بفتاة ألمانية أن تشغل نفسها به! بيد أنّ أسرتي بعثت لي بنسخة أخرى. في خريف 1939م التحقت بجامعة برلين. وبسبب الحرب كنت مرغمة على أن أدرسَ رسميا علوم الطبيعة، وقد سُعِدتُ بذلك. واعتقدتُ أن بإمكاني التحول مستقبلاً لدراسة تاريخ علوم الطبيعة عند العرب، خصوصاً علم المعادن. كنتُ بالطبع أحضرُ دروسَ اللغة العربية، خصوصاً محاضرات تاريخ الفن الإسلامي. وفي عيد ميلاد المسيح سنة 1939م، بعد أوّل فصل دراسي لي في الجامعة كانت الفصول الدراسية قد قُصرّت، بسبب الحرب، فصارت السنة تتكون من ثلاثة فصول، بدلاً من اثنين، نصحني العلامة إرنست كوينل Ernst Kuhnel أستاذ تاريخ الفن الإسلامي، بنسيان علوم الطبيعة والتركيز على الدراسات الإسلامية، ووعدني بتعييني مساعدة له بعد حصولي على الدكتوراه! كنتُ في السابعة عشرة من عمري في ذلك الوقت. كان أساتذتي محترمين جداً. وكنتُ أحضرُ محاضرات في اللغة العربية الفصحى، والعربية الحديثة، والفارسية، والتركية، ووبعض الأردية، وكذلك علم النفس والصحافة. في الإجازات كانوا يفرضون علينا العمل في المصانع ستة أيام أسبوعياً، عشر ساعات يومياً. ومع ذلك تمكنتُ من الانتهاء من رسالة الدكتوراه عن "مكانة الخليفة والقاضي في مصر في القرون الوسطى المتأخرة"، خلالَ سنة ونصف السنة. وحصلتُ على لقبِ الدكتوراه في الفلسفة في تشرين الثاني نوفمبر 1941م وأنا في التاسعة عشرة من العمر. بعد ذلك عملتُ مترجمة في وزارة الخارجية الألمانية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وبجانب عملي هذا كتبتُ أطروحة الأستاذية عن "البنية الاجتماعية في دولة المماليك"، ووضعت فهرساً لكتاب ابن إياس الضخم الذي طُبِعَ سنة 1945م في استنبول. كما أنني ترجمت نصوصاً عربية وفارسية، خصوصاً للشاعر الإيراني الكبير مولانا جلال الدين الرومي. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى ماربورغ Marburg، حيث حصلتُ على شهادة الأستاذية سنة 1946م، ودرّستُ حتى سنة 1954م. والى جانب كلِّ هذه المشاغل حصلتُ على درجة دكتوراه أخرى في تاريخ الأديان. ما هي علاقتك بدول العالم العربي؟ وهل سبق لك زيارة السعودية؟ - لم أسافرْ كثيراً إلى دول العالم العربي، كما كنتُ أتمنى. ونظراً الى حصولي على كرسي لتدريس تاريخ الأديان في كلية أصول الدين الإلهيات في جامعة أنقره في تركيا ابتداء من سنة 1954م، لم تتح لي الفرصة للسفر كثيراً. ومنذ سنة 1958م وأنا أزور باكستان سنوياً تقريباً، حيث أنني مغرمة بثقافتها وآدابها بصورة خاصة. وفي سنة 1961م زرتُ القاهرة سريعا وأنا في طريقي إلى باكستان. وبعد ذلك قمتُ بزيارات متعددة للقاهرة لإلقاء محاضرات. وفي سنة 1996م زرتُ الكويت ثم المغرب حيث ألقيتُ محاضرات عدة. وذهبتُ إلى الأردن ثلاث مرات، وإلى سورية مرة. وكنتُ أخيراً في البحرين وتونس. ولكن كلّ هذه الرحلات كانت زيارات قصيرة خاطفة لإلقاء محاضرات. أحبّ اليمن بصورة خاصة حيث قضيتُ هناكَ أوقاتاً ممتعة مرتين. لم أزر السعودية إلا مرة واحدة سنة 1984م على ما أتذكر، عندما دُعيتُ للمشاركة في ندوة لتكريم أحد الشعراء. وخرجتُ من هذه الزيارة ببعض الانطباعات عن الرياض. لكن للأسف لا أعرفُ أي شيء آخر عن السعودية. أنتِ درّستِ مادة "الإسلام في الهند" في جامعة هارفارد لسنوات طويلة، فهل يمكن أن تحدثينا باختصار عن هذا الموضوع شبه المجهول لكثير من العرب؟ - يعود اهتمامي بالإسلام في الهند إلى مرحلة طفولتي المبكرة. واتصلت بباكستان بالذات، لأني كنت أحترمُ شاعرها الأكبر محمد إقبال، منذ سنوات دراستي الجامعية. إنّ شاعراً وفيلسوفاً يجلّل شاعر ألمانيا العظيم غوته والشاعر الإيراني الكبير جلال الدين الرومي، لا بدّ أن يكون فاتناً خلاباً. وهكذا شرعتُ أترجمُ أشعاره إلى شعر ألماني. بدأت ب"جاويد نامه" كتاب الخلود، ثم نقلته بعد ذلك أيضاً إلى اللغة التركية نثراً مع تعليقات. لقد أحبَّ الأتراكُ هذا الكتابَ كثيراً، وأعادوا طباعته أخيراً. دعاني الباكستانيون سنة 1958م، ومنذ ذلك الوقت تربطني بباكستان علاقة وثيقة، وأيضاً بأصدقائي المسلمين في الهند. ولا أعرف بالضبط كم مرة زُرتُ هذين البلدين. أعرف باكستان وثقافتها الغنية من بحر العرب حتى حدود الصين. والأشعار الشعبية الجميلة في اللغات السندية والبنجابية والباشتوية تسحرني بصورة متجددة. لا أحبُّ في الهند العمارة العظيمة الخاصة بالعصر المغولي 1526-1857م فحسب، ولكن أيضاً جنوبالهند حيث توجد ثروة مدهشة من العمارة: فمثلاً الجامع الكبير في كلبرجة هو من أجمل المساجد التي أعرفها، وهو يشبه قليلاً مسجد سيدي عقبة في القيروان. إنّ الثروة المتوافرة هناك من اللغات والأعمال الفنية والتأويلات المتباينة للإسلام في شتى المناطق لشيء رائع حقاً. ولكنها للأسف أمور تكاد تكون مجهولة للعرب. إن أصدقائي العرب دائماً ما يندهشون من حقيقة أنّ باكستان-الهندية لديها كم هائل من الكتابات العربية، بداية من الفقه والتفسير، حتى الفلسفة، ولكن أيضاً في الأدب والشعر والمقامات، إلخ. كان الشعرُ الفارسيُ في الهند أغزر من نظيره في إيران نفسها! وكنتُ دائماً سعيدة بكشف هذه الثروة لطلبتي في جامعة هارفارد، خصوصاً المنمنمات الرائعة التي تزين الأعمال التاريخية. لقد حاولتُ استعراضَ تاريخ الفكر الإسلامي في الهند، أو التاريخ الثقافي للإسلام الهندي، في إصداراتٍ متواصلة، ونشرتُ لتوي كتابي الضخم عن حضارة المغول العظام. إنّه عالم غني جدّا، يكادُ للأسف يكونُ غيرَ معروفٍ في الدول الإسلامية الأخرى. هل يمكن أن تحدثينا عن أسرار الأعداد في الإسلام التي خصّصتِ لها كتابك بمشاركة الأستاذ فرانتس كارل إندرس المعنون "أسرار الأعداد"؟ - تُوجدُ في كلّ حضارة أعداد معينة تلعب دوراً ما. من ذلك مثلا العدد ثلاثة: فنحن نعيش في أبعاد ثلاثة، وبالتالي نرى الأشياء ونشعر بها في ثلاث مجموعات: أمسِ، واليومَ، وغداً - الأب، والأم، والابن - ومجموعات أخرى كثيرة. والمثلث هو أيضا أوّل شكل هندسي كامل. أمّا العدد خمسة، فله دور مهم في الإسلام. الصلوات الخمس، دعائم الإسلام الخمس، إلخ. أمّا العدد سبعة فيشير إلى مراحل الطريق فالمسافر أو المريد، أوِ السائح عادةً ما ينبغي عليه أوّلا أن يعبر أو يتغلب على سبع مراحل، أو سبعة وديان، أو سبعة جبال، قبل أن يصل إلى هدفه. بينما العدد ثمانية الواقع فوق السبعة يمثل الكمال. أليس للجحيم سبعة أبواب، بينما للجنة ثمانية؟ ووظيفة المثمن في الهندسة والعمارة معروفة. وأخيراً الأربعون هو عدد الصبر والنضوج في الحضارات كافة، سواء كان بنو اسرائيل قد قضوا أربعين سنة في الصحراء، أو المسيح أربعين يوما، وسواء أكان الصيام المسيحي أو صيام موسى المذكور في القرآن، وخلوة الصوفية التي تستمر أربعين يوما... كلّ شيء يشير إلى أنّ طريق الكمال يمكن أن تكون له علاقة بالأربعين. وفضلا عن ذلك فالأربعون هو أيضا عدد بعض القديسين المسيحيين، وأيضا أولياء الله الصالحين في الإسلام. وفي لغات كثيرة يقولون إن المرء لا يكتمل عقله إلا في سنّ الأربعين. ما هو تقييمك لحركة الاستشراق عموما، والاستشراق المعاصر خصوصا؟ - يبدو لي أنّ كتاب ادوارد سعيد "الاستشراق" ساهم إلى حدّ كبير في تصويرنا نحن - المستشرقين - كمخلوقاتٍ خطيرةٍ، تقوم بتلطيخ صورة الإسلام عمداً. لقد استخدم ادوارد سعيد مادة علمية وفيرة تخصُّ التاريخَ الاستعماريَ، حتى يدعّم نظريته، وأنا أتفق معه في نقاط كثيرة. بيد أنّه تجاهل مثلاً الاستشراق الألماني برمته. وعندما نتذكر رجالا علماء، من أمثال الألماني فريدريخ رويكرت، فلا يمكننا إلا أن نقول إنّ فهم الشرق الإسلامي، وشرح قيم الإسلام الروحانية للغربيين كانا يمثلان محورَ أعمالِهِ. أمّا وجود كتابات استشراقية مسيئة للإسلام في كل صوب وحدب، فهذا شيء طبيعي: فهناك الكثير من الكتابات الأوروبية عن الثقافة الإسلامية غير إيجابي على الإطلاق. وأحسن مثال على هذا هو صورة المستعمرين الانكليز في الكتابات الإسلامية في الهند. ولذلك ينبغي علينا ألا نعمم. يقيناً أنّ العالِم بنظرته النقدية قد يرى بعض الأمور بصورة مخالفة لنظرة المؤمن المتدين من حضارة أخرى. ولكن الخطر يتعاظم عندما نجد العالِم - وأعني هنا المستشرق - وهو يمارس أبحاثه العلمية بلا حب حقيقي لمادة تخصصه. ذلك أنّ الحب وحده هو الذي يمكننا من تعميق نظرتنا وفهمنا للأمور. والواقع أنني سعيدة جداً لأننا نجد اليوم بين صفوف المستشرقين الشباب بالذات عدداً كبيراً يعشق العالم الإسلامي بعد ان تعرف عليه عن كثب، ولا ينظر الى العرب والمسلمين وكأنهم مجرد مخلوقات غريبة. في عام 1995م عانيتِ من اضطهاد الألمان لك بسبب مواقفك الشجاعة من الإسلام، فكيف مررت بتلك المحنة؟ - لا أُحبُّ أن أتحدّثَ عن تلك الحملةِ الهوجاءِ التي قامت ضدي بعد إعلان فوزي بجائزة السلام للناشرين الألمان سنة 1995م، فأعصابي ما زالت تثور حتى الآن عندما استرجع تلك الأحداث. أعتقدُ بأن بعضهم كان بحاجة إلى ضحية في ذلك الوقت بالذات. والغريب في الأمر أنّ كلّ الذين هاجموني، لم يكونوا يعرفونني شخصياً، بل وتحاشوا الحديث معي. وملاحظتي بأنّ الغربيين ينبغي عليهم أن يعترفوا على الأقل بأنّ سلمان رشدي أهان المشاعر الدينية لملايين من المسلمين، استخدمت ضدي. وبالمناسبة فقد جاءت أقذرُ الهجمات من المعسكر النسائي! ولكن عندما استلمتُ الجائزة، وبعدما ألقى رئيسُنا الألماني المحترم رومان هيرتسوغ خطبة التكريم، أُسدِلَ الستارُ على هذه الدراما، وبدأوا يبحثون عن ضحية جديدة. لا أعتقدُ بأن أحداً سيلومني، لأنني صرت الآن أكثر حذراً تجاه وسائل الإعلام. ما الذي جذبك لدراسة الصوفية في الإسلام؟ - التيارات الصوفية المختلفة في الأديان كافة كانت دائما محط اهتمامي. قرأ أبي الكثيرَ من كتب التصوف المسيحي والهندي، ولذلك كان بوسعي أن أتحدث معه عن هذه الموضوعات. وأمي أيضاً كانت إنسانة متدينة جداً. وكانت قصائدُ الشاعر الإيراني الكبير مولانا جلال الدين الرومي هي أول ما قرأتُ من نصوص مترجمة. ثم أنني قمتُ بترجمة بعض قصائد الرومي من الفارسية إلى الشعر الألماني، وأنا ما زلتُ طالبة جامعية في الثامنة عشرة من عمري. بل وترجمتُ أيضاً بعض أعمال الحلاج، ونشرتُ في ما بعد ديوان قصائد صوفية ألمانية - ثم أضفتُ إليه مجموعة قصائد انكليزية مستوحاة من روحانية الصوفية. لا أُحبُّ في الصوفية الأنظمة الكبيرة، مثل تلك الخاصة بابن عربي، بل أفضلُ الحبَّ الإلهي العميق، وكذلك التعبير الشعري لهذا الحب، هذا فضلاً عن القيم الأخلاقية عند الصوفية: تربية النفس التي تتحوّل يوماً ما، بإذن ربها، من خلال التربية النفسية من وظيفة النفس الأمّارة بالسوء إلى نفس مطمئنة. وبالإضافة إلى ذلك اهتممتُ بأوجه التشابه بين التجارب الصوفية في الديانات كافة، وهو موضوع كتبتُ كثيراً عنه. كيف تنظرين إلى شطحات الصوفية؟ - ما نُطلِقُ عليه في الإسلام مصطلح شطحات، أي الألفاظ التي يطبقها المرء من دون انضباط، بمعنى أن "يقول الصوفي أشياءَ لا يحق له في الواقع أن يقولها"، هذا موجود أيضاً في المسيحية والديانات الهندية. إنها نتيجة لحال الوجد التي ينقدها علماءُ اللاهوتِ العقلانيونَ في المسيحية، مثلما ينقدها الفقهاءُ في الإسلام. ولكن ينبغي ألا ننسى أن الصوفيين الأوائلَ كانوا ملتزمينَ بأحكام الشريعة، بل إنّ الالتزام بأحكام الشريعة هو أحد الأصول الأساسية للصوفي الحقيقي: الإكثار من الصلاة، والصوم، وأداء الفرائض الدينية، هو جزء من هذا. ما هو سرّ إعجابك بمولانا جلال الدين الرومي؟ - إنني أُحبُّ مولانا جلال الدين الرومي لأنّه انطلق من هذا الأساس أو من هذه القاعدة، ووصل إلى قمة الوجد، وتغنى في قصائده بالحب الإلهي بشكل رائع. بيد أن القارئ الغربي غالباً ما ينسى أن الرومي كان من كبار محبي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه استلهم كثيراً من أفكاره من القرآن. أعتقدُ بأن الرومي عكسَ في شعره بصورةٍ رائعةٍ قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنّه الحق" فُصّلت: 53، ذلك أنّه يرى في كل شيء في هذا الوجود، من البعوضة إلى المأكولات، من الحبر إلى الأزهار، في كل صوب وحدب، الآيات الإلهية التي دفعته دائما إلى عبادة الباري تعالى. هذا هو الشيء العظيم في الرومي. إنه ليس عالماً منظراً جافاً، ولكنه عاشق يرى الإبداع الإلهي في أصغر الآيات، ويبينه لعباد الله من خلال قصائده وأشعاره. ما تقييمك للفن الإسلامي؟ - أنا من عُشّاق الفن الإسلامي. فبعد أوّل فصل لي في جامعة برلين، عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، عرض عليّ أستاذ الفن الإسلامي العلامة إرنست كوينل تعييني مساعدةً له، بعد الحصول على الدكتوراه. بيد أن ظروف الحرب العالمية الثانية حالت دون تحقيق ذلك. ولكن بعد ذلك حصلتُ على وظيفةٍ صغيرةٍ لمدة عشر سنوات في متحف ميتروبوليتان في نيويورك، حيث اشتغلتُ على المخطوطات الإسلامية، وحقّقتُ الكتاباتِ العربيةَ والفارسيةَ. كنتُ أطير مرة أو مرتين شهرياً من هارفارد إلى نيويورك. لقد كان وقتاً ممتعاً حقاً. وسُمِحَ لي أيضا بالمشاركة في الاستعدادات للمعرض الرائع الهند سنة 1985م، وأيضاً بتجهيز معارض للخط العربي، كما أنني ألّفتُ كتباً عدة عن فن الخط العربي. إنّني أعتبر فن الخط العربي شيئا لا يمكن وصف روعته، سواء كان ذلك صفحة خط كوفي من القرن التاسع الميلادي، أو خطوطاً حديثة مثل تلك التي أنجزها الخطاط رشيد بات والفنان كلجي في باكستان، أو تلك الخاصّة بأحمد مصطفى أو وسماء شوربجي. الى جانب هذا فأنا مهتمة بكل ما له علاقة بالفنّ الإسلامي، خصوصاً الأقمشة القديمة الرائعة، وأعمال الخشب المنحوت في العصر الفاطمي والأعمال المعدنية القروسطية، وبالطبع المنمنمات الفارسية، والهندية بوجه خاصّ. ولحسن حظي فقد تمكّنتُ من رؤية الكثير من المساجد المشهورة. وأعتقدُ أنّ مسجد سيدي عقبة في القيروان هو بالتأكيد من أروع الأبنية المعمارية التي أعرفها. ومن الشيق أن نرى كيف أنّ مبنى هذا المسجد قد امتد تأثيره إلى عمارة المساجد في أقاصي الهند. وسواء أخذنا مساجدَ استنبول الرائعة بمآذنها التي تشبه سن الإبرة، أوِ المساجدَ الفارسيةَ ببلاطها الجميل، أوِ الأضرحةَ المكسوةَ بالمرمر الأبيض في الهند، أوِ الأضرحةَ العظيمةَ في سمرقند وبخاري، فهو عالَمٌ غنيٌ حقاً يسحرنا ويفتنا بصورة متجددة. لقد كنتُ أُشيرُ دائماً الى طلبتي أنّه ليس يكفي أن يتعلموا لغات الشعوب الإسلامية، بل ينبغي عليهم أيضا أن يدرسوا فن العمارة الإسلامية، وفن الخط العربي، باختصار كل أشكال التعبير الفني في الإسلام، حتى يكتسبوا صورة صحيحة إلى حدٍّ ما عن الحضارة الإسلامية. ما هو تقييمك لترجمات المستشرقين الألمان لمعاني القرآن؟ - منذ القرون الوسطى هناك محاولات لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية. ويعود تاريخ أولى الترجمات الألمانية لمعاني القرآن إلى القرن الثامن عشر. وقد ظهرتْ ترجمات كثيرة منذ سنة 1901م، عندما نُشِرتْ ترجمة ماكس هينينغ Max Henning. في القرن العشرين تم تنقيح ترجمة هينينغ مرات عدّة، كما زُوّدت بتعليقات جديدة بقلم الاستاذ كيرت رودولف Kurt Rudolph وبقلمي شخصياً، وهي في الواقع ترجمة سهلة القراءة. أمّا ترجمة رودي باريت Rudi Paret الضخمة، فهي ترجمة فيلولوجية صرفة. ولا يمكن لأحد أن يدرك من خلالها جمال اللغة القرآنية. والترجمة الوحيدة التي تعطينا بعض الانطباع عن أسلوب القرآن، هي ترجمة رويكرت المنشورة من تراثه بعد وفاته سنة 1888م. ثمّ أعاد نشرها أخيراً وقدّم لها هارتموت بوبتسن Hartmut Bobzin. ومنَ المؤسف أنّها ترجمة غير كاملة. وظهرت في الفترة الأخيرة ترجمات أخرى، ولكني لم أراجعها جميعا. توجد ترجمات جيّدة جدّا بالانكليزية والسويدية والتشيكية. ولكنّ كلّ مستشرق يعي تماما أنّه من المستحيل عمليا إنجاز ترجمة بلا أخطاء لمعاني القرآن الكريم، ذلك أنّ تعدّد معاني الكلمات العربية هو بالذات ما يسمح بتفاسير جديدة باستمرار. وكما قال محمد إقبال ينبغي أن يقرأ كلّ شخص القرآنَ كما لو كان قد نُزّل له أو لها خصيصا. فأي ترجمة يا تُرى يمكن أن تساعد في ذلك؟ أنتِ وضعت كتابا عن "الآيات الإلهية"، فماذا كان دافعك إلى هذا، وماذا تعني هذه "الآيات" لك شخصياً؟ - هذا الكتاب هو حصيلة محاضرات غيفورد، وهي سلسلة محاضرات في غاية الأهمية عن تاريخ الأديان ألقيت في جامعة أدنبره. لقد حاولتُ استعراضَ بنية الفكر الإسلامي، وألقيتُ الضوءَ على أهمية الوحي، والإنسان، والطبيعة في الإسلام. ذلك لأنني أعتقدُ أن بوسعنا أن نرى "الآيات الإلهية" في كلِّ شيء، مثلما تقولُ الآية الكريمة: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنّه الحق" فُصّلت: 53. ولهذا فإني أرى أنه ينبغي أن نحاولَ دراسة الأديان، ليس فقط تاريخيا، ولكن أيضاً ظاهراتياً فنومنولوجيا، أي كيف يتبلور كل شيء، بداية من المصطلحات البسيطة والأجسام الطبيعية، وحتى نظرية الخلق والآخرة، ليكوّن صورة كبيرة يتوسطها الباري سبحانه وتعالى. هل يمكن أن تحدثينا عن قصة تأليفك كتاب "الأسماء الإسلامية"؟ - لقد أثارتِ الأسماءُ في الحضارات كافة اهتمامي منذ طفولتي، ربما لأنّ اسمي Schimmel يعني الحصان الأبيض. وعندما عشتُ في تركيا، حيث لم يطبق نظام أسماء العائلات، إلا في سنة 1932م، أخبرني كثير من الأتراك عن سبب اختيارهم لهذا الاسم أو ذاك. فبعضهم أرادَ التلميحَ أو الإشارةَ إلى مهنته أو مهنة أبيه، والبعضُ الآخرُ شاءَ أن يعبر عن مثله العليا كالبسالة والشرف، إلخ. يقيناً أثارت أسماء الأعلام اهتمامي إلى حدّ بعيد: أسماء الرجال والنساء الكثيرة المتكررة، الوثيقة الصلة بالدين، أو المشيرة إلى حيوانات، مثل: الأسد، الغضنفر، حيدر، ابن قنفذ، إلخ. بحثتُ أيضاً عن الأسباب التي دفعت العرب قديما إلى اختيار أسماء مفزعة لأبنائهم، في حين أنهم اختاروا أسماء جميلة لعبيدهم... ومظاهر أخرى كثيرة، بما في ذلك أسماء التدليل الدلع، مثل: فطوم من فاطمة، ووليد من ولد، إلخ. وكذلك الألقاب، حيث يجري من خلالها التهكمُ على الكثير من الصفات: مثل تسمية رجل طويل متجهم ليل الشتاء، أو تسمية رجل أكسح بو رجل. ونجدُ في الدول الإسلامية، غير العربية، الكثيرَ من الأسماء التي يعتبرها العرب خاطئة نحوياً، كأخذ مصدر أي فعل، ووضع تاء مربوطة في آخره: فالفتاة المولودة في المولد النبوي تسمى مولودة، ورجل مولود في ليلة المعراج يمكن تسميته معراج الدين في باكستان. وهكذا نجدُ مفاجآتٍ بصورةٍ دائمةٍ. ولهذا لم أكتب كتابي المذكور عن الأسماء الإسلامية فحسب، بل إني نشرتُ أيضاً كتيباً شرحتُ فيه معنى الأسماء التركية. ذلك لأنني أعتقدُ بأننا كألمان ينبغي علينا أن نعرف دلالة أسماء مواطنينا الأتراك الذين يعيشون بين ظهرانينا في ألمانيا. عنوان هذا الكتيب هو "معنى اسم السيد دميرجي هو حدّاد"، لأنّ دميرجي بالتركية يعني حداداً بالألمانية.