أخيراً، خطا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، خطوة صغيرة لكنها مهمة، نحو مخاطبة الرأي العام الاميركي مباشرة من دون السماح لآلة الدعاية الاسرائيلية بالدخول على الخط لتشويه أقواله ومواقفه، وذلك بنشره مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" الواسعة الانتشار والنفوذ تحت عنوان "الرؤية الفلسطينية للسلام". وتكمن أهمية هذا المقال ليس فقط في مضمونه ووسيلة نشره وانما ايضاً في توقيته قبل أيام من سفر رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الى واشنطن حيث سيجتمع بالرئيس جورج بوش. ذلك ان شارون أوضح مرات كثيرة، آخرها أمس، انه يرفض التزام أي خطة لوقف النار والخوض في مفاوضات سياسية مع السلطة الفلسطينية، بما في ذلك ما سمي "وثيقة قريع - بيريز"، وقبلها خطة "تينيت" وتوصيات "ميتشل" التي رهنها بشرط تعجيزي هو وقف النار التام سبعة أيام كاملة. والواقع ان وقف النار تحقق لثلاثة اسابيع كاملة بعدما أمر به الرئيس عرفات في السادس عشر من كانون الأول ديسمبر الماضي، الى ان عاد شارون الى ممارسة سياسة الاغتيالات لينسف مهمة المبعوث الاميركي انتوني زيني. ولكن شارون صار الآن محشوراً في زاوية ضيقة كالزاوية التي يحشر فيها الرئيس الفلسطيني، اذ انه لم يحقق للاسرائيليين الأمن الذي وعدهم به، كما ان الاقتصاد الاسرائيلي يعاني من خسائر فادحة ليس أقلها في القطاع السياحي، وصار الاسرائيليون يجاهرون بخوفهم على حياتهم، بل جاهر بعضهم بالرحيل الى الخارج، ووقع نحو مئة ضابط في الجيش على رسالة يعبرون فيها عن رفضهم الخدمة في الأراضي الفلسطينية ويقولون ان تلك الأراضي ليست لاسرائيل ويجب أن ينسحب الجيش والمستوطنون منها. وحاول شارون الاربعاء الماضي من خلال اجتماعه مع ثلاثة من كبار مساعدي الرئيس الفلسطيني ربما استكشاف سبل تمكنه هو من الخروج من الزاوية الضيقة التي حشر نفسه فيها، من دون ان يفك عزلة الرئيس عرفات أو يرفع عنه الحصار، ولكن من الواضح انه فشل. ذلك ان مساعدي عرفات لا يأتون للقاء شارون الا بإذن رئيسهم وموافقته حاملين مطالبه. ولكن هدف شارون من اللقاء كان ايضاً محاولة ايهام ادارة الرئيس بوش بأن لديه الآن قناة اتصال مباشرة مع السلطة الفلسطينية عن طريق شخصيات قد يصفها بأنها "أكثر براغماتية" من عرفات الذي ما فتئ يصفه بأنه "عديم الأهمية". وربما أراد شارون من وراء الاجتماع مع تلك الشخصيات الثلاث ثني شخصيات اسرائيلية بارزة كالرئيس الاسرائيلي كتساب وكرئيس الكنيست ابراهام بورغ من التوجه الى رام الله ومخاطبة المجلس التشريعي الفلسطيني والتقدم بمقترحات للتهدئة ثم العودة الى التفاوض. ان شارون لن يستطيع التملص الى ما لانهاية أمام الأميركيين من عرض مقترحات للخروج من المأزق الدموي الحالي. ويشكل مقال الرئيس عرفات في "نيويورك تايمز" عامل ضغط اضافياً على شارون، اذ ان مضمونه لا يختلف في خطوطه العريضة عن الرؤية الاميركية التي عبر عنها كل من الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول، خصوصاً لجهة قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة الى جانب اسرائيل مع انهاء الاحتلال الاسرائيلي. وإذ خاطب الرئيس عرفات الرأي العام الأميركي بمقاله فإنه خاطب الرأي العام الاسرائيلي ايضاً بحديثه عن القدس وقضية اللاجئين والمستوطنات والخطوط الرئيسية العامة للرؤية الفلسطينية للتسوية السلمية. ويبقى أن تبذل الادارة الأميركية الآن جهوداً جدية لوضع رؤيتها لحل الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي موضع التنفيذ وان تكف عن النظر الى ذلك الصراع بعيني أكبر عدو للسلام في المنطقة.