إذا كان من خلاف حقيقي بين الإدارة الأميركية ورئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون فهو ان الإدارة باتت مقتنعة بأن طلب مجرم الحرب الإسرائيلي "الهدوء الكامل" عشرة ايام، قبل الانتقال الى الخطوة التالية ليس موقفاً مبدئياً، بل عذراً لشن حرب على الفلسطينيين لفرض حل عليهم. الأميركون قنعوا بأن يبذل الفلسطينيون جهداً مئة في المئة للتهدئة، إلا انهم لم يصروا على نتيجة مئة في المئة، لإدراكهم ان هذا مستحيل. والواضح انه منذ وقف اطلاق النار الذي بدأ في 13 من هذا الشهر، بعد وساطة جورج تنيت، رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية، لم تمض 24 ساعة من دون تبادل نار، أو سقوط قتيل أو أكثر. ووصل وزير الخارجية كولن باول الى المنطقة وهو يحمل قناعة الإدارة بضرورة إعطاء الفلسطينيين حافزاً لتحقيق الهدوء المطلوب. وقد سمع باول من المصريين حديثاً عن اهمية التحرك السريع للوصول الى مفاوضات الحل النهائي. الفلسطينيون يريدون العودة الى المفاوضات غداً، وحكومة شارون تحاول تأخير هذا الاستحقاق أطول مدة ممكنة، أملاً بأن ينفجر الوضع فلا تضطر الى دخول مفاوضات لا تريدها، اخطر ما فيها انها قد تفجر حكومة شارون من الداخل. وبما ان شارون متهم بأن عنده خطة عسكرية، ولا يملك مشروعاً سياسياً، فهو قدم الى الرئيس بوش ما زعم انه عرض سياسي قوامه دولة فلسطينية على 56 في المئة من الضفة الغربية، من دون القدس أو وادي الأردن أو عودة اللاجئين. ولو ان شارون شك ولو للحظة بأن الفلسطينيين قد يقبلون خطته لما قدمها. بين تطرف حكومة شارون وصمود الفلسطينيين، تحاول الإدارة الأميركية ان تمنع انفجار المنطقة، إذ انه يظهر ان تهديد شارون باجتياح المناطق الفلسطينية بعد انفجار الملهى الليلي في تل ابيب، أخاف جورج بوش إلا أنه لم يخف ياسر عرفات. باول يريد التهدئة كخطوة اولى، وعلى رغم الخلاف بين بوش وشارون في واشنطن، فإن وزير الخارجية قال صراحة للفلسطينيين ان عليهم ان يبذلوا جهداً أكبر، ولكن من دون ان يصر على نتيجة مئة في المئة. ولا اعتراض عند أبو عمار إذا عمل الأميركيون لتنفيذ خطة تنيت وتقرير ميتشل، فرئيس الاستخبارات المركزية الأميركية نفذ البند الأول من تقرير ميتشل، وباول يحاول ضمان تنفيذ البند الثاني، وصولاً الى الثالث والرابع. تقرير ميتشل دعا الى وقف اطلاق النار أولاً، وهذا ما حققه تنيت ويسعى باول الى تثبيته. ثم دعا التقرير الى فترة هدوء، هي محور جولة باول، ويتبع ذلك اجراءات لبناء الثقة، ثم استئناف المفاوضات. وسيحقق الفلسطينيون انجازاً ملموساً إذا اتفقوا مع باول على جدول زمني للوصول الى المفاوضات، مع العلم ان خطة تنيت ضمت فعلاً بعض إجراءات بناء الثقة، فهي تحدثت عن عودة القوات الإسرائيلية الى مواقعها في 28 ايلول سبتمبر الماضي، وطلبت من السلطة الفلسطينية إعادة اعتقال "الإرهابيين" في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة. والكلمات الأخيرة هذه مهمة أيضاً لأن حكومة شارون من الوقاحة ان تطلب من الفلسطينيين ضبط الأمن في المناطق "باء" حيث المسؤولية مشتركة، والمناطق "جيم" حيث الأمن في يد اسرائيل وحدها، غير أن الأميركيين يدركون ان هذا الطلب تعجيزي، لذلك فهم يصرون على المسؤولية الفلسطينية الكاملة في المناطق "ألف" وحدها. وفي حين تبدي غالبية المراقبين تشاؤماً في نجاح مهمة باول، فإن النجاح ليس صعباً، وهو يقوم على قاعدتين: الأولى، ان يقتنع الأميركيون بأن الجانب الفلسطيني يحاول التهدئة فعلاً ويبذل جهده مئة في المئة لتحقيق ذلك، والثانية ان يقدم الأميركيون حوافز الى الفلسطينيين تقنعهم بأن التهدئة في مصلحتهم. وإذا انتهت الجهود الأميركية، باستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالأرجح ان يواجه شارون صعوبات في مواجهة معسكره اليميني نفسه، قبل ان يطفو خلافه مع اليسار الى السطح. بعض المراقبين المتشائمين يقول ان سبب رأيه هذا هو قناعته بأن شارون يدرك الخطر على وضعه الشخصي في المفاوضات، ويقدر ان بنيامين نتانياهو سيجد سلاحاً إضافياً في محاولته العودة الى رئاسة الوزارة، لذلك فهو سيبحث عن عذر لاتهام الفلسطينيين بأنهم أخلّوا بالتزاماتهم في وقف اطلاق النار والتهدئة، ليتنصّل من الالتزامات الإسرائيلية المقبلة. وهذا ليس صعباً، فطلب التهدئة الكاملة عشرة ايام يترك العملية كلها رهينة متطرف واحد، من اي جانب، وهناك بين المستوطنين متطرفون كثيرون. وإذا أطلقت النار على باص مدرسة، أو طفل، من هذا الجانب او ذاك، عاد الوضع الى نقطة المجابهة. ولا سبب بعد للاقتناع بأن شارون الجديد ليس شارون القديم، أو مجرم الحرب الذي يمارس أسلوباً واحداً هو المجابهة العسكرية.