يوم الخميس، في 24 كانون الثاني يناير الماضي. انها الثامنة ليلاً. النشرات الاخبارية لكل القنوات الفرنسية تفتتح بذات النبأ: وفاة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في احد المستشفيات الباريسية. الحدث ليس فقط موت بورديو، ربما كان ذلك منتظراً نتيجة معركة يائسة ضد السرطان خاضها طيلة اسابيع عديدة. الحدث هو ايضاً ان تتصدر وفاته واجهة الاحداث ويعامل مثل كبار النجوم. لم يُرَ هذا منذ وفاة ميشال فوكو سنة 1984. وجه الغرابة ان بورديو ظل طيلة حياته رافضا ان يدخل التلفزيون بيته، رافضا الظهور في الحوارات التلفزية العامة الا في ما ندر، وهو الذي كتب مؤلفاً شهيراً عنوانه "حول التلفزيون" 1996 حمّل فيه الاعلام المرئي مسؤولية نشر الجهل وتعميمه وتكريس التسلط وتلطيفه، الى حد اتهامه بأنه اصبح يهدد الحضارة. هل كان هذا الاهتمام بموته مكسبا له ضد الاعلام المرئي ام مكسبا لهذا الاعلام ضده؟ هل قلب المعادلة بأن فرض نفسه على التلفزيون بدل ان يفرض هذا عليه؟ ام انه انتهى بدوره مجرد حدث يوظّفه الاعلام للتعمية حسب آليات حللها بدقة وبراعة في كتابه المذكور؟ مات بورديو، عالم الاجتماع المزعج، الذي وصف بكل النعوت، خاصة منذ ان قرر ذات يوم من سنة 1995 ان يخرج من صمت المكاتب وينزل الى الشارع في مقدمة الحركة الاحتجاجية الكبرى التى شهدتها فرنسا واشتهرت بتسمية "ديسمبر الاحمر". ثم بعد ذلك بدأ حملة ضارية ضد الاعلام والاعلاميين. وفي السنتين الاخيرتين اصبح وجها من الوجوه البارزة للحركة المناهضة للعولمة. لم يسبق لعالم اجتماع، منذ كارل ماركس، ان واجه مجتمعه بهذا القدر من الحدة والحماسة النضالية: ثلاثون سنة من البحث السوسيولوجي واكثر من اربعين دراسة ضخمة، عدا المقالات والمحاضرات، دارت حول محور واحد: كشف الآليات الخفية للهيمنة والممارسات التسلطية التي تذوب في الثقافة الجمعية فتغدو مستساغة بل مطلوبة. اكثر تلاميذه المتحمسين له يقرّون بأنه كان مسرفا في التوجس، يرى آثار الهيمنة والتسلط في كل شيء. لكن هذا التوجس جعله يرى ما لا يراه غيره وما فات تقنيي الاستمارة والسبر ممن جعلوا علم الاجتماع صناعة دون نظرية، وافتراضات دون فلسفة جامعة، واستنتاجات دون تمحيص للايديولوجيا التي توجها. حلل الآليات الخفية التي تتكرس من خلالها الهيمنة وتُلطّف بحق الشرائح الهشة من خلال دراساته العديدة التي تابعت تطور المجتمع الجزائري من العهد الاستعماري الى طور بناء الدولة المركزية. وكشف الطبيعة التسلطية للتعليم ومؤسساته وطرائقه البيداغوجية من خلال كتب باتت مشهورة وإن بدت بحق متعسّفة في غير قليل من استنتاجاتها. وسخر ثلاث دراسات ضخمة لينسف علم الجمال الكانطي، مؤكدا ان التقابل هيكلي بين "جمالية الشكل" التي تميز الذوق البورجوازي و "جمالية الوظيفة" التي تميز الاذواق الشعبية، فلا معنى لمفهوم الجمال خارجاً عن التناقضات التي تميز العلاقات الاجتماعية. فاجأ الجميع بكتاب ضخم في التحليل الاجتماعي للظاهرة الادبية، عنوانه "قواعد الفن"، ثم بكتابين في الفلسفة: "الانطولوجيا الفلسفية لدى مارتن هايدغر" و "التأملات الباسكالية". كما سخر عدة كتابات لكشف العوامل المستبطنة التي توجه "الحقل" الاعلامي في المجتمعات الديموقراطية فتجعله، رغما عنه، بوق دعاية للاطراف المهيمنة في المجتمع. وقع بورديو في تناقضات كثيرة، اهمها على الاطلاق انه ظل ثلاثين سنة يعمل على اثبات الحضور المتخفي لجهاز الدولة في مسارات التسلط التي تمارس ثقافيا عبر مؤسسات تبدو مستقلة ومحايدة، مثل الجامعات والمتاحف ووسائل الاعلام، ثم اصبح بعدها من اشد المناوئين للعولمة لأنها تقوّض جهاز الدولة وتقضي على السند الاخير للمهمشين والمحرومين. اتهمه الماركسيون بأنه كان اشد إضرارا بماركس من كل علماء الاجتماع الليبراليين، لأنه وسّع مفهوم الهيمنة وافرط في ربطها بالاستراتيجيات الثقافية والرمزية الى ان غابت مقولة الصراع الطبقي او اصبحت باهتة شاحبة. اما عالم الاجتماع الاميركي جيفري الكسندر فيتهمه بالعكس تماماً، فلا يعدو بورديو في رأيه ان يكون ماركسيا مستترا انقذ ماركس من النسيان بأن اعاد صياغة مقولة الصراع الطبقي صياغة يقبلها الذوق المعاصر. قال عنه زميله ريمون بودون انه مفكر ايديولوجي، واتهمته صحيفة "ليبراسيون" اليسارية وكذلك مجلة "ايسبري" بالشعبوية. كتبت ضده مؤلفات نقدية عنيفة، منها "المثقف والسياسة. محاولة لدراسة الارهاب السوسيولوجي لبيار بورديو" للباحثة جانين فرديس لورو، تتهمه بأنه يمارس الهيمنة والتسلط في حقل العلوم الاجتماعية تحت عنوان مقاومة الهيمنة وكشف التسلط في الحقلين الاقتصادي والسياسي. وربما عُدّت هذه ايضاً من تناقضات بورديو، لكن الرجل لم يكن يزعجه ان يتهم بالتناقض، بل أقرّ بذلك في بعض الردود. اجل، ان الباحث الذي سخر نفسه لكشف استراتيجيات الهيمنة قد هيمن على حقل الدراسات الاجتماعية حتى لم يعد بد لكل باحث ان يستعير قليلاً او كثيرا من مصطلحاته، او على الاقل ان يبدأ بمناقشتها وردها. لم تقتصر سلطته على مجال اختصاصه، بل تعدت علم الاجتماع الى الفلسفة والادب والعلوم اللغوية والاقتصاد. كما لم تقتصر على العالم الفرنكوفوني، فقد كان تأثيره ذا بال في السوسيولوجيا الانغلوسكسونية بعد ترجمة العديد من آثاره الى اللغة الانكليزية. والكثير من المفاهيم التي نحتها اصبحت شائعة في الثقافة العربية ايضاً، اما انها انتقلت اليها عبر الاطلاع والترجمة او انها اشتهرت بواسطة ما. ومن اهم هذه الوسائط اعمال الاستاذ محمد اركون الذي تأثر بجزء مهم من ابحاثه. خسر بورديو معركته الاخيرة ضد السرطان، وكان قبلها قد خسر معارك اجتماعية عديدة خاضها منفردا ضد المؤسسات، لكنه ربح ايضاً معارك كثيرة. ومنذ اكثر من خمس وثلاثين سنة دخل عالم الشهرة ولم يغادرها. كان ذلك في الستينات وقت ان كان كلود ليفي ستراوس يتربع على عرض الدراسات الاجتماعية. بين "البنى الاولية للقرابة" و"الانثربولوجيا البنيوية"، كان الاخير قد قضى تماماً او كاد على المنهجيات والنظريات التي كانت توجه الاثنولوجيا التقليدية. كان علماء الاجتماع الاستعماريون ينطلقون من مسلمة ضمنية مفادها ان المجتمعات الاكثر رقيا في العلم والصناعة هي الاكثر عقلانية في تنظيم العلاقات الاجتماعية. كانت طرائق تنظيم الزواج مثلا تبدو لهم اعتباطية، واحيانا وحشية، في المجتمعات الموسومة بالبدائية، لكن ليفي ستراوس اثبت ان اكثر المجتمعات "بدائية" او بالاحرى: برية يقوم على نظام عقلاني صارم في العلاقات الاجتماعية وان الاشكال الاولية لهذه العلاقات هي ذاتها في كل المجتمعات، سواء الموسومة بالتقدم او بالبدائية، وانها جميعا يمكن ان تختصر في عدد محدود من القواعد. اما بورديو، الذي كان يعمل في ريف الجزائر، فقد حقق مكسبين لا واحدا. فقد استفاد من جهة من هذه الثورة المفهومية وصاغ ابحاثه حول المجتمع الجزائري في اطارها. وسيبقى خالداً ذلك التحليل الرائع الذي قدمه لموسم جني الزيتون وأبان من خلاله درجة العمق والتعقد في عمليات تبدو في ظاهرها رتيبة بسيطة، والثراء الدلالي والتأويلي الذي تسفر عنه اذا ما حللت بعمق ابعادها الثقافية الكامنة. انتصر بورديو للاتجاه الجديد فاستفاد من الصيت الذي بلغه. لكنه تملص ايضاً منذ البداية مما اتضح لاحقا انه نقطة الضعف فيه، واكتشف نقطة الضعف هذه من خلال ما كان يسمى "الزواج العربي". علماء الاجتماع الاوروبيون الذين درسوا المجتمع الجزائري او مجتمعات عربية اخرى دراسة تقليدية صدمهم واثار حفيظتهم هذا الزواج، اي زواج الرجل بابنة عمه، لأنه يكاد يصنف في اوروبا من قبيل انتهاك المحارم. المنوال الذي صاغه ليفي ستراوس رياضياً بدا غير كاف بدوره لتفسير هذا النوع من الترابط بين الجنسين. فقد رأى بورديو ان الدافع الحقيقي لهذا الزواج يتعلق بعامل ثقافي رمزي هو "الشرف". فشرف رجل العائلة قبل نسائها، يقتضي ان تحجب ابنة العم عن الرجال سوى ابناء عمومتها. لكنها اذا بقيت محجوبة قلت حظوظها في الزواج. والحال ان العنوسة تعتبر ايضاً اخلالا بالشرف. لذلك يصبح واجباً اخلاقياً على الرجل ان يتزوج ابنة عمه محافظة على شرف العائلة في الحالين. والجزائر التي الهمت بورديو اولى اعماله سوف تلهمه ايضاً اواخرها. فما العمل امام الغزو المرعب للعولمة والليبرالية المتطرفة؟ هذا هو السؤال الذي بات يؤرق بورديو منذ منتصف التسعينات، والذي دفع به الى الخروج من مختبرات البحث الى المجتمع اليومي الصاخب. وفي تلك الفترة كان العالم كله يتابع بقرف الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها الاصوليون الجزائريون والمتمثلة في تصفية المثقفين بالاغتيال او الارهاب. وعلى عادته قرأ بورديو الحدث على غير ما قرأه الآخرون، فكانت دلالته بالنسبة اليه ان كل المشاريع التي تبغي نقض الحضارة تبدأ اولا بالقضاء على المثقفين. وفجأة احس ان نضاله ضد الشبكات الاعلامية الضخمة المرتبطة بالرأسمال المضارب وضد الليبرالية المتطرفة من نفس طبيعة نضال المثقفين الجزائريين. فالعولمة مثل الاصولية تمثل في نظره، على طريقته في التهويل المبالغ فيه احيانا، تهديدا للحضارة ونقضا لها. ومشكلة المثقف الذي يُسكت صوتَه الارهابُ الاصولي هي من نفس طبيعة المشكلة التي يواجهها المثقف في البلاد الديموقراطية المعولمة، عندما يزاح كليا عن فضاء الحوار العام الذي تحتكره وسائل الاعلام. واذا كان ماركس قد دعا سابقاً عمال العالم الى الاتحاد تصديا للرأسمالية، فإن شعار بورديو ضد العولمة كان "يا مثقفي العالم اتحدوا". فبعد قيادته "اللجنة الدولية لمساندة مثقفي الجزائر"، في الوقت الذي كان يتقدم مظاهرات العمال الفرنسيين المضربين، اصدر نصا شهيرا نشره اولا تحت عنوان "من اجل اممية للمثقفين"، ثم بعد ذلك "من اجل اتحاد محترفي الكونية"، حيث يؤكد ان المثقف يتميز عن غيره من اعضاء الهيئة الاجتماعية بما اسماه "مفارقة الانتماء". فهو من جهة ينتمي الى تلك الحقول المستقلة نسبيا بذاتها مثل الفلسفة والفن والادب والعلم، وهو من جهة اخرى ينتمي الى المجتمع الذي يخضع لاستراتيجيات الهيمنة المادية والثقافية للشرائح المحظوظة. هذا الوضع المتميز هو الذي يسمح له بأن يطل من حقل الاختصاص ليؤثر في المسار الاجتماعي العام من دون ان يصبح خاضعا بدوره لتلك الاستراتيجيات التسلطية. فهل كانت "اممية المثقفين" آخر شطحات بورديو؟ ام كانت ومضة عبقرية تضيء السبيل للمقاومة وتحفظ الثقافة والحضارة من الاندثار؟