بيار بورديو في قلب المشهد الفرنسي، يحضر ويمارس نجوميته، عبر وسائل الاعلام التي يهاجمها ويحذر من مخاطرها على المعرفة والفكر، على ما هو شأن خطابات متداولة ومتكاثرة، يحدثنا أصحابها عن إسهام التلفزيون، بشبكاته وبرامجه، في تعطيل الوعي وتسطيح الثقافة. وكان عالم الاجتماع الكبير والمثقف الفرنسي البارز شن، منذ ثلاث سنوات، حملة على التلفزيون بتهمة أنه ليس وسيلة للاتصال والاشهار، بل أداة للحجب والهيمنة، على ما يقول ايضاً الكثيرون من المثقفين الذين يتعاملون مع الابتكارات التقنية كما لو انها آلات شيطانية تنطوي بذاتها على الشر والخديعة. واليوم يحمل بورديو على التلفزيون من زاوية جديدة: انه يتهم الشاشات بأنها تنتج كتاباً وعلماء وفلاسفة لم يدفعوا "ثمن" الدخول الى المعرفية، بمعنى انهم ينتهكون المقاييس المعتمدة في فروع المعرفة المختلفة، كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والفلسفة، وسوى ذلك من علوم الانسان. بهذا المعنى يعتبر بورديو ان وسائل الاعلام، وتحديداً القنوات التلفزيونية، تسهم في تكريس أسماء على غير مسمياتها، هم منتحلون لصفات ليست لهم، أي بما يعد نوعاً من "الجرم المعرفي"، ولذا لا يتورع ان يطلق عليهم اسم "المتعاملين" تشبيهاً لهم بالفرنسيين الذين كانوا يتعاملون مع الاحتلال النازي. ومعلوم ان لبورديو نظريته المبتكرة والمميزة، في تفسير المجتمع مفادها ان الفضاء الاجتماعي يتشكل من جملة حقول تتصل في ما بينها بقدر ما تستقل عن بعضها البعض كالاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة. والحقل الثقافي ينقسم بدوره الى عدة حقول، كالحقل الأدبي او الفني او العلمي او الفلسفي او الديني. ويتقوم "الحقل" من جملة عناصر متشابكة هي عبارة عن مواقع وسلطات، أو مواقف وخيارات، أو مصالح واستراتيجيات، أو رهانات واستثمارات.. وهذه العناصر تدخل في تركيب الحقل على نحو يجعل منه "بنية تفاضلية"، تعمل بحسب مبدأ أساسي يقوم على "توزيع أنماط السلطة وأنواع رأس المال" المادية والرمزية، الفاعلة في الفضاء الاجتماعي والتي تتغير تشكيلاتها بحسب الظروف والأمكنة. بهذا المعنى كل حقل يشكل "مساحة من الامكانيات" المتاحة أمام العاملين فيه، يعودون اليها ويهتدون بها او يشتغلون عليها، فيما يتخذونه من خيارات أو ينجزونه من أعمال او يوظفونه من رؤوس الأموال. والمثال على ذلك، في الحقول الثقافية، المراجع والأسماء، او المدارس والنظريات، أو المفاهيم والمشكلات… وكل حقل يشكل "ساحة صراع" على المواقع، يتواجه فيها المحترفون للانتاج، اي الفاعلون واللاعبون، اما لادامة "اللعبة" او للانقلاب عليها، اما للحفاظ على "علاقات القوة" السائدة او لتغييرها، كما تجرى مثلاً المنافسات على الساحة الثقافية بين القدامى والجدد، او بين التقليديين والحداثيين، والأحرى القول بين المهيمنين على الحقل والطامحين الى اكتساب مواقع جديدة، من خلال انتاج مواقف مغايرة أو احداث تجديدات مبتكرة في الأساليب والأشكال او في الأغراض والموضوعات أو في الأحكام والمقولات. وإذا كان أسلوب الكتابة أو شكل الرواية أو منطوق الحكم الشرعي أو تأويل النص المقدس، هي أمثلة على "المواقف" التي ينتجها المؤلفون داخل حقول الثقافة، فإن المدارس والمجلات ومراكز البحث والحوزات او الأبرشيات، هي مثالات على "المواقع" التي يحتلها داخل حقل من الحقول، الأدباء والكتاب او العلماء والفقهاء ورجالات اللاهوت. وهكذا فالموقع والموقف ونظام الامكانيات وقواعد اللعبة وساحة الصراع ونمط السلطة وتشكيلة رأس المال واستثمار الرهانات، هي المفردات التي يمكن ان يفهم من خلالها الحقل المجتمعي على العموم. بذلك يصبح الفضاء الاجتماعي عبارة عن علاقة جدلية ومتحركة بين نوعين من البنى: القوانين الموضوعية للحقل والانشاءات الذاتية للفاعلين، النظام الداخلي للأعمال والشروط المجتمعية للانتاج، نظام المواقع المتفاضلة ومنظومة المواقف المتميزة، المقتضيات المحايثة للحقول والاستراتيجيات التوليدية للاعبين المزودين بأعرافهم ورؤوس أموالهم. وهذا ما جعل بورديو يلخص فهمه للحقل بتأكيده على القول بأن الحقيقة هي "محل صراع ورهان"، في الحقل المجتمعي على العموم، وانها مجال "ازدواج" والتباس في الحقل العلمي على الخصوص. بعد هذا العرض لنظرية بورديو، أصبح بالامكان قراءتها قراءة نقدية، لا لنفيها من خارجها، بل لتأولها واستثمارها او تجاوزها، على مستويين: الأول هو بنية الحقل السلطوية والمجتمعية، والثاني هو بنيته المعرفية والمهنية. والسؤال: ماذا تعني، في قطاع الانتاج العلمي، مقولات مثل حقل الرهان وساحة الصراع وتشكيلة الأسعار، فضلاً عن مقولة ازدواج الحقيقة؟ انها تعني ان الحقل هو شبكة من علاقات المعرفة والثروة والقوة. من هنا فإن الصراعات والمناظرات داخل حقول العلم ليست خالصة لوجه الحقيقة، وانما هي نشاطات معرفية يلابسها طلب المنفعة والثروة او حب الشهرة وممارسة النجومية. لا شك ان المحترف للانتاج في دائرة اختصاصه، انما يفيد من أخطاء غيره واخفاقاته، فيما هو يخوض معه من سجال عقلاني او حوار معرفي، ولكن اللاعب في الحقل يخشى أيضاً، وخاصة، نجاح غيره وصعوده، مما يجعله يحمل عليه ويعمل على ازاحته، فيما وراء المداولات المعرفية والحوارات العقلانية. ومعنى المعنى ان لا معرفة بريئة، مما يجعل الحقل المعرفي موضع التباس واشتباه، فيما يدعيه أهله من حب الحقيقة والتعلق بالفضيلة العلمية. واذا كان العلماء والفلاسفة والنقاد وسواهم من أهل الاختصاص في القطاع المعرفي، انما تقوم جهودهم على معرفة الحقيقة، فتلك مهنتهم، وليست فضيلتهم أو شيمتهم. وحده ذلك يجعلنا نفهم ما يجري على الساحات الثقافية من حروب الإقصاء والإلغاء من أجل ترويج المنتجات ونشر الصور والأسماء. وإلا كيف نفسر ان لا يرى هذا الشاعر الكبير سواه على ساحة الشعر، أو أن لا يرى هذا الكاتب أو ذاك المفكر أية قيمة في أعمال سواه، او أن تدور معارك بين أهل الفن بسبب الأولوية على إدراج الأسماء. ان الأمثلة كثيرة وصارخة، تشهد على ان مجتمع العلماء والفلاسفة والأدباء ليس ملكوتاً للعقل او مملكة للفضيلة، وانما هو كسائر العوالم الاجتماعية، يولد الامتيازات ويستخدم العنف في شكل من أشكاله. في هذا المستوى الصراعي يمكن القول ان العلاقة بين الشاعر والشاعر او بين العالم والعالم أو بين الفيلسوف والفيلسون، هي كالعلاقة بين الملاكم والملاكم أو بين رجل المافيا ونظيره. واذا كان رجالات المافيا يستخدمون العنف المادي في صراعاتهم، فإن أهل الثقافة يستخدمون العنف الرمزي كما يتجسد ذلك في حروبهم الكلامية ومعاركهم الفكرية، حيث نجد المتنافسين على النفوذ والمواقع او على الثروة والشهرة، يتداولون مصطلحات الملاكمة والمبارزة، ويتصرفون بعقلية الضربة القاضية. ولعل هذا ما يفعله بورديو باتهامه بعض الكتاب والمفكرين بارتكاب جرائم بحق المعرفة: ان تهمته لهم غير بريئة، بقدر ما يلتبس دفاعه عن الشرعية العلمية والصدقية المهنية لحقول المعرفة، بدفاعه عن سلطته الأكاديمية وموقعه الفكري. وذلك هو منطق الصراع، سواء تعلق الأمر بمواقع سياسية ام بسلطات أكاديمية، بميادين علمية أم بساحات مافيوية. لا يعني ذلك بالطبع القول بنوع من اللاأدرية، أو بتحويل الحقول في قطاع الثقافة الى مجرد "أدلوجات مهنية" لتحصيل المنافع المادية والرمزية من الأموال وسعة الانتشار. فالحقل يفقد صدقيته في نظر الحقول الأخرى، بل في فضاء المجتمع عامة، عندما تتضاءل قدرة أهله على الانتاج والإبداع في مجال اختصاصه، تماماً كما يفقد المحترف في الحقل مصداقيته في نظر زملائه عندما يغلّب في جهوده طلب المنصب والمنفعة على القيم المعرفية أو الجمالية. بيد ان المسألة ليست مسألة تعارض بين معرفة وسلطة، أو مسألة ازدواج بين القيم المثالية والمكاسب المادية، أي ليست مسألة رغبة في الحصول على الاعتراف والمشروعية المعرفية يجري تصعيدها الى مصلحة في المعرفة عبر الجدل العقلاني والحجاج العلمي، وإنما الأمر يحتاج الى اعادة صياغة الثنائيات التي يستخدمها أهل العلم والفكر في التصنيف والتقييم، بحيث تفهم المعرفة من حيث علاقتها بالسلطة، والفضيلة من حيث علاقتها بالمنفعة، والقيمة من حيث علاقتها بالتمايز والامتياز. بهذا المعنى يمكن القول: كل معرفة تنتج سلطة، وكل معنى ينسج علاقة قوة، وكل قيمة تولد التفاضل والتراتب، وكل تنوير هو شكل من أشكال الاستيلاء… باختصار كل رغبة لها آلياتها السلطوية، أكانت رغبة في المعرفة والحرية أم في السلطة والثروة. ولذا فإن الرغبة في "الاعتراف"، لدى اللاعب المعرفي، لا تذوب لمصلحة "المعرفة"، بل تلابس المعرفة على الدوام. وذلك يحمل أهل القطاع الثقافي على التواضع العلمي. أولاً على المستوى المجتمعي العام، بحيث يتخلون عن احتكار حق الدفاع عن الحقوق والقيم العامة، على ما جرت عادة المثقفين من الدعاة والمناضلين الذين يدعون معرفة الحقيقة أو تجسيد المثل في كل شأن ومضمار، في السياسة والاقتصاد، كما في الاجتماع والتنمية. فلا احد أولى من سواه بالدفاع عن الحقيقة ما دامت محل صراع ومثار التباس أو ازدواج. ومعنى الالتباس ان فهم الحقيقة يتجاوز التعريفات الأصولية والمعيارية او الماورائية والمتعالية، نحو مقاربات تنفتح على معاني الخلق والفتح والحدث والصناعة، بحيث تصبح الحقيقة ما نملكه من القوى والجاهزيات، أو ما ننشئه من المؤسسات والسلطات، أو ما نخلقه من المجالات والفضاءات، أو ما نحدثه من المفاعيل والآثار. وهذا شأن بورديو في ما يعرفه من أمر الممارسة الاجتماعية: ان عمله ليس مجرد تجسيد للمصلحة في المعرفة من خلال المواجهة العقلانية بين وجهات النظر المختلفة، وإنما هو، بما يبتكره من المفاهيم، ينتج وقائع معرفية تخلُق مجالها التداولي بقدر ما تحدِث مفاعيلها على الساحة الفكرية. بهذا المعنى تصبح الحقيقة عبارة عن تصنيع للواقع، بقدر ما تصبح الشرعية المعرفية جزءاً من مشروع للوجود، اي تجربة يشتبك فيها المنطق والذوق والرغبة والسلطة والمنفعة. تلك هي فضيلة أهل المجتمع العلمي: ممارسة الفكر النقدي بعقل مفتوح، وليس حب الحقيقة او انتاج المعرفة. وبورديو يشهد بنفسه على نفسه. فهو في ما ينتجه من معارف يزيد من شهرته ويوسع رأسماله الرمزي المولّد لسلطته وامتيازاته. وتلك هي مهنته. اما فضيلته العلمية، فهي ممارسة النقد. وذلك يدخلنا الى الجانب الآخر من القراءة النقدية لنظريته في الحقل ودفاعه عن المشروعية العلمية، وأعني بذلك نقده للعقل العلمي والأكاديمي، ومن حيث بنيته المعرفية بالذات. والحال يتهم بورديو الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وكل الذين تقوم مهنتهم على الاشتغال بفهم العالم وتعقله او عقلنته، بأنهم اكثر الناس "عرضة للجهل به"، من جراء ما يسميه بورديو "الدغما المعرفية" وهي تتمثل في كون أهل الفكر "لا يفكرون في مسبقات تفكيرهم"، بمعنى انهم يغفلون عن الشروط الاجتماعية التي تجعل تفكيرهم المدرسي أمراً ممكناً، او ينسون الاستعدادات اللاشعورية المولدة لأطروحاتهم اللاشعورية. وتلك هي "الوضعية المعرفية" للانسان المدرسي: الانسحاب من العالم من اجل معرفته، وضع عالم الحياة بين قوسين، تحييد المصالح والرهانات العملية، ادعاء التجرد من كل غاية، خلع الطابع الكلي على التجارب الشخصية، النظر الى الأشياء والأشخاص على شاكلة العالِم وصورته، وكلها مسبقات تعمل على "تدمير" موضوع البحث لصالح مشكلات مصطنعة. بقدر تجعل العلماء والمفكرين خصوصاً في مادة العلوم الانسانية، يغرقون في اوهامهم النظرية، التي يحاول بورديو تعريتها على سبيل اليقظة من "السبات المدرسي". ماذا يعني مثل هذا النقد لوجهة النظر المدرسية؟ لا يعني بالطبع القول بعدم جدوى الاختصاص، كما لا يعني الفلتان المعرفي الذي يتيح لأي كان ان يقول ما يشاء في اي موضوع كان، اذ لا علم من غير اختصاص، ولا حقل من غير قواعد او ضوابط. وانما القصد هو اعادة تعريف الحقل العلمي بصورة تحرره من النظرة المغلقة والعقلية المدرسية او من المعيارية الصارمة والنخبوية الثقافية، وذلك بفتحه على سائر الحقول من جهة، وعلى الواقع اليومي والوجود المعاش من جهة خرى. فالتجارب تشهد على ان الانغلاق ضمن دائرة الاختصاص يؤدي الى الجمود والتحجر بقدر ما ينتج الغفلة والجهل او الوهم والاختزال. ولذا فإن التجديد يقوم تحديداً، على الانفتاح على المجالات والممارسات التي يستبعدها اهل الاختصاص، كما تشهد تجربة ميشال فوكو الذي تجدد معه الفكر الفلسفي باقتحام مناطق كان يرذلها العل الفلسفي والأصولي، كالسجن والعيادة والجنس والجنون. ومن الشواهد على ذلك ايضاً ان نظرية ماندل مكتشف قوانين الوراثة ظلت ثلاثين عاماً في الادراج لأن علماء الحياة يومئذ لم يكونوا مهيأين لقبولها بقناعاتهم العلمية الراسخة ومعاييرهم المعرفية السائدة. وثمة شاهد حيّ يمكن ايراده وهو ان رواية الكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي "ذاكرة الجسد" قد لاقت صدى طيباً وواسعاً لدى الأدباء وعامة القراء، في حين هاجمها المختصون من النقاد، مع انه في الكتابة غير المختصة، كما هو شأن الرواية التي تتوجه الى العموم ليس رأي الناقد المختص أهم من رأي القارئ غير المختص. لربما كان العكس هو الصحيح، أعني ان رأي القارئ العادي هو أولى بكثير من رأي النقاد الذين يحاولون ان يسقطوا على الإبداعات الجديدة معاييرهم القديمة، في حين ان الناقد المبدع، هو الذي يعيد النظر في معاييره النقدية، في ضوء ما يحدث على ساحة الأدب من المستجدات والتحولات. هذا هو معنى النقد الذي يوجهه بورديو الى وجهة النظر المدرسية، اذا أردنا ان نعرف معنى ما ننتقده: الخروج من المعاقل الأكاديمية وكسر السياجات النظرية الدغمائية لدى اهل الاختصاص، او خرق المعايير المفروضة والأصول المتبعة من جانب المتحكمّين بفروع العلم وحقول المعرفة. بيد ان بورديو الذي ينتقد العقل الأكاديمي، والذي يدعو الى اليقظة من السُبات المدرسي، يتناسى الآن موقفه النقدي، نظراً لانخراطه في الهَجْمة على التلفزيون ووسائل الاعلام. وهذا ما أوقعه في التخبط بين المواقف: ففي كتابه "مهنة عالم الاجتماع"، وتمشياً مع نصيحة ماكس فيبر، كان بورديو قد حذّر علماء الاجتماع من ان يتحولوا الى "أنبياء" ودعاة، في حين نراه اليوم يمارس هذه المهمة بامتياز، من خلال قيادته لحركة سياسية جديدة تحت اسم "يسار اليسار". وكان قد امضى الشطر الأكبر من حياته الأكاديمية يعمل على تفكيك البنية المؤسسية للسلطات المتمثلة في العائلة والكنيسة والنقابة والحزب والدولة، لفضح ما تمارسه من العنف والاستغلال او الحجب والنفاق او القولبة والتدمير، في حين نراه اليوم يدافع عنها بوصفها أطراً للتضامن المجتمعي ينبغي الحفاظ عليها في مواجهة الليبرالية الجديدة. واليوم بالذات نراه يتباكى على الاختصاص ويخشى على حقول المعرفة من غير المختصين، الذين يسميهم المتعاملين او مجرمي المعرفة، في حين كان من قبل قد ثار على العقل المدرسي واتهم أصحابه من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والانسان، بأنهم يرتكبون "أفداح الأخطاء" بحق المعرفة، بسبب عزلتهم ونخبويتهم الثقافية ونزعتهم الآلية في التفكير، الأمر الذي يجعلهم يرون من وراء حِجاب الى الفاعلين الاجتماعيين الذين هم موضوع دراستهم، او يدفعهم الى ان يفرضوا بصورة مسبقة النماذج المعرفية التي يراد بناؤها لفهم الممارسة الاجتماعية، بما يشبه المصادرة على المطلوب، او كمن يضع الحصان قبل العربة. هذا هو الأساس في موقف بورديو من التلفزيون: لقد حاول ان يرى اليه من وجهة نظره الأكاديمية، فلم يجد فيه سوى آلة للهيمنة والتسلط، لأنه لم يتح له ممارسة سلطته الأكاديمية التي اعتاد على ممارستها امام طلابه، فكان موضع هجومه العنيف، وذلك هو الثمن عند من يلبس لبوس النبوة والرسالة، او يشتغل بعقلية المناضل والداعية: العودة عن المواقف، الوقوع في المآزق، الغرق في الأوهام والأساطير التي يعمل العلماء على كشفها وتعريتها بتفكيك العقليات المغلقة وفضح المسبقات الدغمائية. انه السبات الذي ينتقده بورديو، فيما هو يقع فيه، الأمر الذي يجعله لا يرى وَسْط الرؤية نفسها. وتلك هي الضريبة المعاكسة التي يدفعها ثمناً لانخراطه في التيارات السياسية من اجل محاربة الليبرالية الجديدة والأسواق المالية والوسائط الاعلامية: لعب دور الشرطي العقائدي من جهة، وممارسة طفولة يسارية جديدة من جهة اخرى. ولا عجب في ان يكون المآل كذلك: فمنطق النضال هو غير منطق المعرفة. الأول هو تطلع الى ما ينبغي ان يكون، ولذا تسود فيه اللغة الخلقية والعقلية الطوباوية. اما الثاني فانه نظر في ما يحدث او تحليل لما يقع، ولذا تسود فيه ارادة المعرفة ولغة المفاهيم. بكلام آخر: منطق النضال يصادر ارادة الفهم، بقدر ما ينفي الحدث او يتعامى عن الواقع. في حين ان منطق المعرفة رهانهُ ان يبيّن كيف تحدث الأشياء وتتشكل الهويات، او كيف تنبني الممارسات والسلطات، او كيف تبتكر الحلول والامكانيات. ومع ذلك لا أقول بأن ليس لبيار بورديو ان يهتم بالسياسة والمناضلة. ولكن لكل حقل مقتضياته ورهاناته كما يقول هو نفسه. ورهانات النضال السياسي والاجتماعي تختلف عن رهانات الانتاج العلمي والمعرفي، حتى لو كان الأمر يتعلق بالسياسة والمجتمع. فعالم الاجتماع يسهم في تغيير الواقع الاجتماعي ليس بنضالاته الميدانية، بل بما ينتجه او يبتكره من المقولات والأدوات المفهومية التي يتغير معها وعي الفاعلين الاجتماعيين بواقعهم وروابطهم المجتمعية. في حين ان السياسي يسهم في تغيير الواقع بما يجترحه من النُظم والأساليب والإجراءات لحل المشكلات العملية التي يسفر عنها الحراك الاجتماعي. وبالطبع لا يعني التمييز بين المهتمين الفصل التام بين الفكر والسياسة، خصوصاً وأننا ندخل اليوم في مرحلة يشترك فيها المفكرون والسياسيون في التفكير والعمل، على ما يلاحظ بعض الساسة. وانما المعنى ان يحتفظ كل قطاع باستقلاليته وان يعمل كل حقل بميزته، بحيث تقوم بين الفاعل المعرفي والفاعل السياسي علاقة منتجة، في سياق سيرورة تحويلية، يتغير معها الواقع على صعيد الصيغ العقلانية والأجهزة المفهومية، بقدر ما يتغير على صعيد المواقف السياسية والإجراءات العملانية. من هنا فإن تحول عالم الاجتماع من حقل المعرفة الى ميدان السياسة له ثمنه، بمعنى انه يتم على حساب المعرفة. ذلك انه اذا كنا نعتقد بأن مزاولة مهنة المعرفة لا يمكن ان تكون من غير ثمن ينبغي دفعه، هو تحصيل معرفة بتاريخ حقل الاختصاص وقوانينه واستثمار ناجح لإمكانياته المعرفية، فان الانخراط في النضال يهدر الحقوق المعرفية التي نطالب بدفع رسومها او أثمانها، تحصيلاً واحتصاصاً، بقدر ما نرى الى الواقع بعين الطوبى والمثال او بعقلية السحرة والكهنة. بذلك ما نحافظ عليه من جانب نخسره من جانب آخر، بقدر ما ننتقل من كوننا علماء مفكرين الى كوننا مناضلين سياسيين، اي بقدر ما ننتقل من موقف المدافع عن حق الاختصاص الى دور المثقف المدافع عن قيم العدالة والمساواة الاجتماعية، وفقاً لنماذج مثالية اول من ينتهكها المثقفون في مجتمعهم العلمي وفي علاقاتهم بعضهم مع بعض. والموقفان وجهان لعملة واحدة، من حيث قيامهما على النفي والاستبعاد، او على التبسيط والاختزال. إذ الثاني يضحي بالعلم على مذبح السياسة، بقدر ما يحول العالم الى مناضل شعبوي وقائد جماهيري، فيما الأول يقضي على المعرفة باسم الحفاظ عليها، بقدر ما يحول العالم الى شرطي لحراسة معرفته بصورة أصولية أرثوذكسية. كيف يمكن الخروج من المأزق، بحيث يجري تجاوز الاستبعاد المتبادل بين دوائر الاختصاص ومناشط الحياة؟ بالطبع، بممارسة النقد المتبادل الذي يؤدي الى تغذية حقول المعرفة واعادة بناء مجالات الاختصاص، سواء من خلال فتحها بعضها على بعض، او من خلال فتحها على الممارسات الاجتماعية، بحيث تشتق إمكانية جديدة تتيح التفاعل الخلاّق بين المعطى العلمي والممارسة الميدانية، بين اللغة المفهومية والإمكانية التواصلية، اي بين العقل الأكاديمي والعقل اليومي، فضلاً عن العقل الميديائي والمجال التلفزيوني. مثل هذا المنظور النقدي في التعامل مع المهنة المعرفية، لا يترك المجال لغير المختصين ان ينوبوا مناب أهل الاختصاص، ولا يد هؤلاء ينقلبون، رأساً على عقِب، من حُرّاس للأصولية الأكاديمية الى مناضلين اجتماعيين، يمارسون نخبويتهم بصورة مُقَنَّعة، بقدر ما يمارسون سلطتهم المعرفية بصورة خفية. ان النقد يرمي الى فتح مجالات وآفاق للتداول بقدر ما يسهم في تشكيل أنظمة للوصل والفصل بين قطاعات المجتمع وحقوله، بحيث لا يتمترس الواحد في حقل او قطاع، لكي ينفي ما عداه، او لكي ينتقل بين المواقف المتعارضة بنوع من التخبط او التراجع. فمراعاة الاختصاص لا تعني ان يتشكل مجتمع العلماء على حساب العالم المعاش، ولا تعني في الوقت نفسه التعامل مع الكتاب والمؤلفين الذين يحضرون عبر الشاشة، بعقلية المحقق في الأعمال الجرمية. فلم يعد ممكناً ولا مجدياً للمتخصص في فروع المعرفة ان يمارس إبداعه وفاعليته، من غير انفتاح على وسائط الاعلام التي تكتب الآن نهاية العقل الأكاديمي المغلق. فلكل عصر مفاتيحه وفتوحاته. والفضاء الميديائي يسهم اليوم في صناعة الحقيقة، سواء في حقول العلم والمعرفة، او في مجال القضاء والسياسة. ومعنى ذلك ان قوى وظاهرات وعمليات كالعَوْلَمة والأَعْلَمَة والحَوْسَبَة تسهم في تشكيل نمط الوجود وأسلوب العيش، وليس لأي أو لشيء ان يتجهلها او لا يمر بها، الا اذا وُجِد على النحو الأقل فاعلية والأقل حضوراً. لكن بورديو يقف ضد لغة العصر ومنطقه، سواء من حيث مواقفه النضالية او من حيث دفاعه عن المشروعية المعرفية، وذلك تمسكاً بمواقف وقناعات لا تنتج سوى العجز والتخبط او التراجع. ذلك ان مواجهة الليبرالية الجديدة لا تكون بممارسة طفولة يسارية جديدة، كما ان اقتحام غير المختصين لمجالات الاختصاص، لا يدفعنا الى تنصيب انفسنا أوصياء على الحقيقة او شرطة للمعرفة. وانما يقتضي منا ان نعترف بما يستجد من الوقائع ويتشكل من الامكانات، لكي نعرف كيف تلعب اللعبة. ولكن بورديو لا يعترف بما يقع، بقدر ما يتجه بمعرفته نحو ما لا يمكن ان يقع، بمعنى انه يرى ما ليس موجوداً كأنه موجود، وما هو موجود فلا يُثير عنده اشكالات تدفعه الى اعادة النظر في منظومة معاييره وسلّم قيمه. وتلك مشكلته: انه لا يرى الا من يؤمن به من التهويمات حول العدالة والحرية والمساواة، وسواها من العناوين التي تحتاج الى اعادة ابتكار، في ضوء ما يشهده العالم من التحولات وما تولده الابتكارات التقنية من الفضاءات والمجالات. * كاتب لبناني.