"مشية السرطان" هي الرواية الاولى التي يصدرها غونترغراس بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1999. وهي سرعان ما أحدثت ضجة كبيرة فور صدورها وبلغ مبيعها خلال أيام ربع مليون نسخة. وباشرت دور عالمية ترجمتها الى لغات عدة. أهمية الرواية أنها تسترجع مأساة الضحايا الألمان الذين قضوا تحت قصف الحلفاء. عندما أخبروا غونتر غراس بنبأ فوزه بجائزة نوبل عام 1999 كان تعليقه: "انتظر هذه الجائزة منذ عشرين عاماً. حافظ الانتظار على شبابي، والآن تبدأ الشيخوخة". آنذاك احتفى النقاد الألمان بأديبهم حفاوة بالغة، لكنّ معظمهم اعتبر ان التكريم جاء متأخراً جداً لعمل كتبه غراس في مطلع شبابه، ونعني "الطبل الصفيح"، وان غراس شاخ روائياً بعد ثلاثيته المعروفة باسم "ثلاثية دانتسيغ". "الطبل الصفيح"، و"القط والفار" و"سنوات الكلاب". وكان فرغ منها أوائل الستينات قبل ان يبلغ الأربعين، لم يستطع غراس في أعماله اللاحقة المترهلة - مثل "سمك الترس" 1977 أو "الجرذ" 1986 أو حقل شاسع" 1995 - ان يصيب قدراً من نجاحه الأول عندما قرع "الطبل الصفيح" وكان رد الفعل عقب صدور رواياته الاخيرة هو الاستهجان لدى النقاد، والملل عند القراء وهم انصرفوا شيئاً فشيئاً عن شيخ الرواية الألمانية. الا ان غراس، الذي سيحتفل في تشرين الاول اكتوبر هذا العام بعيد ميلاده الخامس والسبعين، فاجأ الجميع برواية جديدة كتبها بقلم شاب تحت عنوان "مشية السرطان" شباط فبراير 2002، 216 صفحة. استقبل النقاد أول أعمال غراس بعد نوبل بحفاوة غير مسبوقة وجدل ساخن، فوصفها بعضهم بأنها "أفضل ما قدمه الأدب الألماني خلال السنوات الماضية"، في حين وصفها آخرون بأنها من أضعف ما كتب غراس. وفي غضون ايام قليلة نفدت الطبعة الأولى ربع مليون نسخة، وتم الاتفاق على ترجمة الرواية الى أكثر من عشر لغات: نجاح نادر ولا شبيه له سوى الإقبال على "هاري بوتر"! يعود غراس من "مشية السرطان" روائياً قديراً الى منابع طفولته في بروسيا الشرقية مرة أخرى، والى الرايخ الثالث والحرب العالمية الثانية وتحديداً الى ليلة الثلاثين من كانون الثاني يناير عام 1945. في تلك الليلة أطلقت إحدى الغواصات الروسية طوربيداً على السفينة الألمانية "فيلهلم غوستلوف"، التي تحمل على ظهرها زهاء عشرة آلاف، معظمهم من المشردين الهاربين من الجيش الاحمر الزاحف الى بروسيا الشرقية بولندا الآن، واضعين آمالهم في النجاة على متن السفينة، إلا انها قادتهم لملاقاة الموت حرقاً أو غرقاً أو تجمداً في مياه بحر البلطيق التي وصلت درجة برودتها الى 18 تحت الصفر. تبع الطوربيد الاول اثنان آخران، وعندما حل الصبح كان نحو تسعة آلاف انسان لفظوا أنفاسهم الاخيرة ومن بينهم أربعة آلاف طفل ورضيع، وأكثر من ألف جندي من جنود البحرية الألمانية أي ان السفينة لم تضم مدنيين فقط. أما الذين بقوا على قيد الحياة فكان معظمهم من الرجال. "شيء مخز" كما يقول غراس، وبخاصة ان قبطان السفينة ومساعديه الثلاثة لم يصبهم سوء. كان غرق هذه السفينة أكبر كارثة عرفتها الملاحة البحرية ومع ذلك نسيها العالم على عكس ضحايا "التيتانيك" مثلاً الذين لم يتجاوزوا 1500، أما معظم الألمان فتناسوها بعد الحرب. وهل كان ممكناً التحدث عن الضحايا من المدنيين الألمان، وهم، أو جنودهم الذين تسببوا في أكبر حرب عرفها تاريخ البشرية؟ عندما بدأ الكتاب الشبان بعد الحرب يتلمسون طريقهم في دنيا الادب، كان السؤال الذي يعذبهم: كيف يمكن التعامل مع الماضي المثقل بالذنوب؟ كان لا بد من البحث عن خطايا الذات، قبل التحدث عن أخطاء الآخرين. أمسى التذكر وقفاً على ضحايا النازية، وغدا التحدث عن الضحايا الألمان من المدنيين - الذين لاقوا التشريد والتهجير والموت - ضرباً من المحرمات في شرق ألمانيا وغربها، لذا تم اقصاؤهم تماماً من الذاكرة الجماعية، وكان الرأي السائد: إنهم ابناء الجناة النازيين، زرعوا العواصف، فكان من الحق ان تهب عليهم الرياح الكاسحة. وهكذا خلت معظم الاعمال الأدبية بعد الحرب من سطر واحد يذكر على سبيل المثال مئات الآلاف من المدنيين الذين قضوا نحبهم في غارات الحلفاء الجوية التي شنّت في الشهور الاخيرة من الحرب. والآن، وبعد 57 عاماً، وبعد اعادة توحيد ألمانيا، يأتي غراس تحديداً ليخترق هذا "التابو"، ويعيد فتح فصول المشردين والمهجرين من الألمان غراس الذي ظل قزمه "أوسكار ماتسبرات" يقرع "الطبل الصفيح" رافضاً ان يبلغ ويصبح انساناً "عادياً"، لأنه رأى ان المجتمع الألماني يسعى بعد الحرب بكل قوته الى العودة بسرعة الى الحياة "العادية"، وكأن فترة النازية لم تكن. غراس الذي ظل ينتقد سياسة ألمانيا الاتحادية الساعية الى الوحدة، وعندما تمت الوحدة عام 1990 كان تعليقه عليها: "الوحش يريد ان يصبح قوة عظمى". غراس شخصياً يتحدث الآن عن آلام الألمان الذيين شردوا وهُجّروا؟ "لماذا الآن؟" - بهذا السؤال يبدأ غراس القص، ويجيب على لسان البطل: "لأن الأم كثيراً ما... لأنني أردت ان أصرخ آنذاك، عندما كانت الصرخات جاثمة على وجه المياه، لكنني عجزت... ص7 باول بوكريفكه، الصحافي الذي تأتي هذه الكلمات على لسانه، يقوم بدور الراوي بعد ما كلفه "العجوز" غراس - الذي "أضنته الكتابة وأسأمته" - بأن يكتب نيابة عنه قصة المشردين الهاربين من الجيش الأحمر الزاحف الى بروسيا الشرقية: "أقضت الافكار مضجعه. كانت تلك مهمة جيله - يقول العجوز - أن يعبر عما عاناه المشردون من بروسيا الشرقية ... ما كان على جيله ابدا ان يصمت عن هذه الآلام. كان ذنبنا هائلاً، وكان الأولوية طوال هذه السنوات لإبداء الندم والاعتراف بالخطأ، فتركنا الموضوع للمتطرفين اليمينيين: تقصير لا يمكن غفرانه". ص199. عنوان الرواية يدل على تقنية القص المستخدم: الرجوع الى الوراء الى الماضي ثم الاتجاه يميناً أو يساراً تأملات وأحداث موازية حتى يمكن التقدم بحذر الى الأمام الى الحاضر تماماً كما يمشي السرطان. وتتميز الرواية بلغة متعددة المستويات ودالة على الشخصيات، وتتسم ايضاً بالأسلوب الصحافي ذي الجمل القصيرة التي خلت من الاستطراد والإسهاب، وهو ما عاب أعمال غراس السابقة. أحداث الماضي تتشابك هنا مع الحاضر، مثلما يختلط الخيال بالحقيقة. ينطلق غراس من حادثة غرق السفينة لينسج حكاياته: في لحظة غرق السفينة يولد طفل، هو باول بوكريفكه، الابن غير الشرعي للسيدة تولا تلك الشخصية الاسطورية التي يعرفها قراء غراس من ثلاثية دانتسيغ. كان باول في البداية منعقد آمال أمه، لكنه مع مرور السنوات أصبح في عينيها إنساناً فاشلاً في كل شيء: صحافياً وزوجاً وأبا. كونراد، الحفيد، لا يشعر بعطف أو حب من الوالدين: فالأم المثقفة اليسارية مستغرقة في عملها في مجال التربية، أما الأب فيحيا بلا قناعات سياسية محددة، متنقلاً بين صحف اليمين المثيرة وصحف اليسار الملتزمة. ثم تنتهي به الحال "كمرتزق" لدى وكالات الانباء المختلفة. يقر الزوجان بفشل الزواج وينفصلان. وبعد أعوام يختار الحفيد الانتقال الى الجدة للعيش معها، ومنها يستمع مراراً أو تكراراً الى قصة غرق السفينة "فيلهلم غوستلوف". وعندما تهديه الجدة جهاز كومبيوتر يؤسس موقعاً على الإنترنت ويخصصه للسياسي النازي فيلهلم غوستلوف الذي تحمل السفينة اسمه، وهو لقي حتفه على يد طالب طب يهودي يُدعى دافيد فرانكفورتر. يعثر الصحافي مصادفة على الموقع اثناء بحثه في الإنترنت عما ينشره المتطرفون اليمينيون، ويلاحظ ان المعلومات الواردة تتشابه، ويصدق حدسه. وهنا يفيق الصحافي ويبدز في التحري عن الحقيقة. ويعود الصحافي مجبراً الى ملابسات غرق السفينة يوم ميلاده - هذا التاريخ الذي طالمنا حاول تناسيه: "التاريخ، أو بالأحرى التاريخ الذي ننبش في أوراقه، يشبه مرحاضاً مسدوداً. مهما شددت "السيفون" فإن البراز يصعد الى أعلى" ص116. وتختلف ملامح الحفيد كونراد في الرواية عن تلك الصور النمطية السائدة عن المتطرفين العدوانيين كحليقي الرؤوس: إنه مثال آخر لعنف الفكر ولي ذراع الحقائق واستغلالها، من خلال الثرثرة عبر الإنترنت مع شخص يدعي أنه يهودي ويسمى دافيد ايضاً مثل القاتل يستعيد الحفيد قصة اغتيال فيلهلم غوستلوف. بعد التعارف الإلكتروني يقرر المراهقان ان يتقابلا في الحقيقة وأثناأ جولتهما في المدينة التي يقطنها كونراد ينشب شجار بينهما. وعندما يتفوه دافيد بما يعتقد كونراد أنه يهين الألمان، يشهر الأخير المسدس الذي يحمله في سترته ويقتله، ثم يسلم نفسه. تتحول محاكمة كونراد الى محاكمة ذاتية يقوم بها الصحافي باول بوكريفكه لتقصيره في التربية، ويتساءل عن أخطاء جيله في التعامل مع الماضي النازي. ويتضح أثناء المحاكمة ان القتيل ليس يهودياً، وإنما ألماني مسيحي. هنا يعرض غراس موقفين متطرفين في التعامل مع الماضي: الأول يمثله الحفيد كونراد الذي يتخذ من شخصية الجاني النازي ممثلاً أعلى له معتبراً اياه ضحية" والثاني يمثله دافيد الذي توحد مع آلام ضحايا النازية وعلى الأخص مع اليهود، ولم يعد يفكر الا في التكفير عن ذنوب الماضي. لذا يغرق في القراءة عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون، وشيئاً فشيئاً يغدو كل ما هو يهودي مقدساً بالنسبة له لا يقبل أي نقاش. لم يتفق الشابان في شيء الا حول اسرائيل، وإن تباينت الاسباب والدوافع. كونراد اليميني يساند وجود دولة اسرائيل لأنه يرى ان انتقال اليهود اليها يخلص العالم منهم. دافيد يعطيه الحق في ما يقوله، ويعرب عن مخاوفه من الحياة في ألمانيا لتزايد موجات العداء ضد اليهود. فيرد عليه الأول قائلاً: "فلترحل إذن الى اسرائيل. أتمنى لك رحلة سعيدة". ص109. وإضافة الى عائلة الصحافي يمسك غراس بخيوط عدّة تنسج حياة ثلاث شخصيات أخرى أساسية: النازي الذي تحمل السفينة اسمه، وقاتله اليهودي دافيد فرانكفورتر، وقائد الغواصة الروسية الذي أمر بضرب السفينة الألمانية. تنتهي الرواية نهاية متشائمة، فنرى كونراد يقضي عقوبة السجن في إصلاحية الاحداث، من دون ندم، ومن دون إحساس بالخطأ. ليس هذا فقط، بل ان صديقته تعرب للأب عن ايمانها الراسخ بأنه ضحية: "ليس كونراد هو الشرير، بل العالم". ص214 ثم يعثر الصحافي على موقع جديد على الإنترنت، يناصر مصمموه الفتى معتبرين إياه مثالاً لهم: "نؤمن بك، وننتظرك، وسوف نتبعك". أرقام مبيعات "مشية السرطان" توضح تعطش الألمان الى قراءة هذا الفصل من تاريخهم. وبخرق غراس هذا "التابو" ينهال عليه المديح والتقريظ من كل جانب، وباستثناء بعض الأصوات التي تخشى ان يستثمر اليمينيون هذا الفصل لمصلحتهم، وهي تعيب على الرواية غلبة النبرة التربوية. هل صدرت الرواية متأخرة؟ الأديب ريغفريد لنتس يرى أنها جاءت في وقتها. لنتس - الذي يكبر غراس بضعةَ شهور والذي ولد في بروسيا الشرقية وعانى شخصياً من مصير التهجير بعد الحرب - يذكّر برواية الروسي ليو تولستوي "الحرب والسلام" التي لم تصدر إلا بعد مرور خمسين عاماً على غزو نابليون لروسيا. ويضيف: "بعض الجروح الغائرة تحتاج الى وقت طويل حتى تندمل. عندئذ يمكن التعبير عنها أدبياً".