يستعد المغرب حالياً لاطلاق برنامج واسع لتحرير صناعة الإعلام والصحافة والسماح لشركات محلية وأجنبية الاستثمار في القطاع الذي ظل حتى الآن حكراً على الدولة، طبقاً لقانون يعود إلى فترة الانتداب الفرنسي في الأربعينات. وينتظر أن تكون طنجة على البحر الأبيض المتوسط أول محطة في هذا المشروع الذي يستهدف على المدى المتوسط اطلاق فضائيات رقمية متعددة اللغات والبرامج ستكون تابعة للقطاع الخاص بالكامل، بينما سيكون من مسؤولية القطاع العام تمويل القناتين الأولى في الرباط والثانية في الدار البيضاء، مع إمكان فتح المجال أمام البرلمان والجماعات المحلية البلديات والجهات المحافظات الاشراف على قنوات خاصة بها. وكشفت مصادر مطلعة ل"الحياة" أن مفاوضات تجري بين "مجموعة عثمان بن جلون" المالية التي تملكت أخيراً شركة "ماروك سوار" الصحافية في الدار البيضاء، وشركات فرنسية تملك حصصاً في "اذاعة البحر الأبيض المتوسط" ميدا - 1 لإطلاق محطة رقمية فضائية موجهة إلى الجالية العربية في أوروبا وباقي دول شمال افريقيا يطلق عليها "ميدي سات" في طنجة. وفي حال تنفيذها ستكون هي الأولى ضمن سلسلة مشاريع إعلامية تتنافس عليها كذلك مجموعة "أونا" في الدار البيضاء ومجموعة "فيفاندي" الفرنسية، إضافة إلى مشاريع تقترحها صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية على مجموعة "ماروك سوار" في الدار البيضاء للطبع في المغرب، وأخرى تقترحها مجموعة "دلة البركة" السعودية التي افتتحت فروعاً لتسويق باقتها "الأوائل" في المغرب، علاوة على وجود مستثمرين محليين يرغبون في تملك قنوات فضائية رقمية لكسر الهوة الإعلامية بين الشمال والجنوب. وحسب مصادر وزارة الاتصال، فإن ما لا يقل عن 15 مشروعاً لإطلاق قنوات اذاعية وتلفزيونية تنتظر إقرار قانون منظم للمهنة لاخراجها إلى الوجود. وظلت اذاعة "ميدي 1" الدولية التي اسسها المغرب وفرنسا في طنجة عام 1980 ضمن شراكة في رأس المال، تتمتع باحتكار تسويق الإعلانات الاذاعية التي تشكل أهم مصادر تمويلها، ومن المنتظر أن ينتهي الاحتكار سنة 2003. وتعتقد المصادر المأذونة أن المفاوضات لتأسيس قناة ثالثة في المغرب قطعت أشواطاً كبيرة، وهي تنتظر الضوء الأخضر من الجهات الرسمية لاطلاقها. لكن جهات حكومية تعتقد أن إقرار قانون جديد للفضاء السمعي - البصري يجب أن يسبق أي مشروع إعلامي لضبط القواعد، تجنباً لاحتكارات محتملة. وحسب مصادر الحكومة، فإن كلاً من "اذاعة ميدا 1" في طنجة والقناة الثانية "دوزيم" في الدار البيضاء اسستا بقرار سياسي من الملك الراحل الحسن الثاني، وليس بقرار قانوني بسبب دعم وجود إطار قانوني لتنظيم البث التلفزي في المغرب. وقال وزير الثقافة والاتصال الإعلام محمد الأشعري إن الحكومة منكبة على إعداد قانون جديد للاستثمار في قطاع الإعلام والصحافة تمشياً مع التحرير الذي طال قطاعات أخرى خاصة، منها الاتصالات والهاتف النقال. وكشف أن شركات دولية عدة عبرت عن رغبتها في الاستثمار في المغرب، لكن غياب قانون منظم لمهنة تملك القنوات التلفزية باتت تحول دون تنفيذ هذه المشاريع. ثلاث شركات جديدة وحسب الوزير المغربي، فإن الإصلاح يستهدف ثلاثة مجالات تصب جميعاً في خانة تحرير الإعلام: وتتعلق الخطوة الأولى بتحويل الإذاعة والتلفزة المغربية إلى ثلاث شركات تابعة للقطاع العام هي شركة تلفزيون المغرب وشركة اذاعة المغرب وشركة البث التلفزي. وستخضع هذه الشركات في تسييرها إلى قانون الشركات المساهمة، وستملك الدولة جميع الأسهم مع إمكان فتح رأس المال في وجه الشركات العمومية المعنية مباشرة بقطاع الاتصال، وسترث الشركات الثلاث الجديدة جميع ممتلكات الاذاعة والتلفزة التي كانت تأسست عام 1924. وتعفى الشركات الثلاث الجديدة من أداء أي رسم مقابل الذبذبات المخصصة لها وبوسعها التعاقد مع أطراف محلية ودولية. ولن تكون تابعة لوصاية الحكومة، وسيتم تحويل العاملين والصحافيين إلى الشركات الجديدة وفق عقود عمل تحفيزية لجلب صحافيين سبق لهم أن غادروا التلفزة المغربية نحو الفضائيات العربية لأسباب مادية ومهنية. وتهدف الخطوة الثانية في الاصلاح إلى انهاء احتكار الدولة لمجال الإعلام المرئي والمسموع والسماح للقطاع الخاص المحلي والدولي في تأسيس قنوات خاصة ومتخصصة مجانية أو مؤدى عنها. وقال وزير الثقافة والاتصال إن المبادئ التي سيقوم عليها تحرير القطاع ترتكز على الاستقلالية والمهنية والتمويل، وهي ستقوم على مبادئ التعددية وحماية الثقافة الوطنية وضمان المساواة في التعامل والمعالجة الإعلامية. والخطوة الثالثة تهدف إلى تأسيس مجلس أعلى للإعلام السمعي والبصري، يقوم بتسليم الرخص وإعداد دفاتر التحملات ويراقب مدى احترام المستثمرين للشروط والمبادئ العامة التي ينص عليها القانون. ويبت المجلس في النزاعات التي يمكن أن تحصل، وهو إطار تنظيمي وقضائي في آن واحد، على غرار وكالة تقنين الاتصالات التي تبت في الخلافات بين "اتصالات المغرب" و"ميدي تلكوم". وتقترح الحكومة أن يتكون المجلس الأعلى من تسعة أشخاص لهم تجربة ودراية كافية بقطاع الإعلام والصحافة، ثلاثة منهم يعينهم الملك بمن فيهم الرئيس، ويعين رئيس الوزراء شخصيتين والبرلمان شخصيتين بالتساوي بين الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي. على أن يضم المجلس قاضيين ويمكنه الاستعانة بخبرات أجنبية في حال الحاجة. ويعتقد الأشعري أن "بهذا الاصلاح نكون قد حققنا نوعاً من الملائمة مع ما حدث سواء في مجال تطور الممارسة الديموقراطية أو في باقي القطاعات، خصوصاً تكنولوجيا الاتصال، حيث ينتظر أن يخرج الإعلام في المغرب من ثقافة الإعلام إلى ثقافة الاتصال". تباين في المواقف والأهداف وتتكاثر حالياً الاجتماعات بين وزارة الاتصال والصحافيين على مختلف مشاربهم للتوصل إلى صيغة مقبولة من الجميع قبل غرض المشروع على الحكومة ثم على البرلمان للمصادقة قبل موعد الانتخابات الاشتراعية المقرر لها في أيلول سبتمبر المقبل. وتتهم الحكومة أطرافاً، لم تحددها بالاسم، بالسعي إلى تعطيل اخراج المشروع إلى حيز الوجود للحفاظ على مصالح من بقاء الوضع الحالي، خصوصاً في التلفزة المغربية التي وجهت إليها انتقادات حادة بسبب عدم مسايرتها للتحولات التقنية والمهنية والديموقراطية، ما أفقدها جمهوراً واسعاً من المشاهدين. وقال محمد ملوك، أحد المؤسسين الأوائل لقناة "دوزيم" في الدار البيضاء، إن نسبة المشاهدين للتلفزتين الأولى والثانية تراجعت في المغرب إلى دون 30 في المئة بسبب انتشار التقاط البرامج الفضائية الرقمية. وتوقع أن تتراجع هذه النسبة إلى اقل من 20 في المئة في السنوات القليلة المقبلة، إذا لم يحرر المغرب المجال ويفتح الباب أمام المبادرات الخاصة في الإعلام السمعي - البصري. ويلاقي هذا الموقف تأييداً كبيراً من الصحافيين الذين يعتقدون أن المغرب سجل تخلفاً واضحاً في مجال الفضائيات، قياساً إلى دول عربية أخرى، على رغم أنه يملك سبقاً تحريرياً في عدد من القطاعات الاقتصادية والثقافية والسياسية. وتمت المقارنة مع لبنان والإمارات العربية المتحدة التي اعتبرت نموذجاً يقتضي به في مجال تحرير الاستثمار في الإعلام وتكنولوجيا الاتصال. لكن جهات قريبة من الحكومة لم تخفِ معارضتها لاحتمال سيطرة رأس المال على قطاع الإعلام، وتمت الإشارة إلى دخول "مجموعة بن جلون" على رأس مال مجموعة "ماروك سوار" الصحافية والحديث عن قرب اطلاق قناة فضائية جديدة في طنجة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنه يجب في الوقت الحاضر الاكتفاء بتحسين وضعية التلفزة المغربية وتأجيل فتح المجال أمام القطاع الخاص. ورد الأشعري ان الاصلاح كل لا يتجزأ وهناك تجارب قائمة يجب اضفاء الشرعية على وجودها، في إشارة إلى القناة الثانية "دوزيم" واذاعة "ميدي 1" اللتين لهما إذن استثنائي بالعمل وليس ترخيصاً قانونياً. ضعف سوق الاشهار واعتبر رئيس مجموعة "ليوكونومست" الصباح عبدالمؤمن الدليمي أن دخول مستثمرين جدد إلى عالم الصحافة سيغير المشهد الإعلامي في المغرب، وستصبح القنوات والصحف مقاولات إعلامية تخضع لاقتصاد السوق والمنافسة المهنية والمردودية التجارية، وهو مفهوم جديد لم يكن وارداً من قبل بسبب سيطرة السياسيين على جل وسائل الإعلام في المغرب، وتسخير تلك الواقع لتمرير خطابات أو تأجيج صراعات، وهي وضعية لم تعد قائمة اليوم. يذكر أن في المغرب نحو 500 جريدة ومجلة منها 21 يومية، لكن مجموع المبيعات لا تتجاوز نصف مليون نسخة يومياً بسبب نفور القراء من صحافة الرأي التي لا تزال السمة الغالبة في الصحافة المغربية. ونتيجة ذلك اتسع انتشار ما أصبح يعرف بالصحف الصفراء أو صحف الاثارة والفضائح والجنس. كما في المغرب قناتان تلفزيتان ومحطة اذاعية خاصة في طنجة واذاعات جهوية تابعة للإذاعة المركزية في الرباط. وتملك "دوزيم" في الدار البيضاء نحو 20 في المئة من اجمالي المشاهدين، بينما تستقطب "ميدي 1" في طنجة جمهور المستمعين في المغرب والجزائز وتونس وموريتانيا والسنغال. وتحتل "الجزيرة" المرتبة الأولى في القنوات الفضائية العربية، متبوعة ب"ام بي سي" و"أبوظبي" و"المصرية الفضائية" و"ال بي سي" اللبنانية. وتحتل "تي في 5" المرتبة الأولى في الفضائيات الفرنسية متبوعة ب"تي اف 1" وقنوات الأفلام التي يمكن التقاطها ببطاقات مقرصنة تباع محلياً نحو 10 دولارات. ويفضل الشباب قنوات الموسيقى، خصوصاً "ام6" و"ام سي ام"، ويميل الأطفال إلى قنوات كارتون وولد ديزني ومانغا. ويُقدر حجم سوق الإعلام والاتصال في المغرب بنحو 7 في المئة من اجمالي الناتج المحلي ويتوقع أن يتجاوز 12 في المئة في النصف الثاني من العقد الجاري. ويتخوف المؤيدون لمشروع الاصلاح الإعلامي المعروض حالياً في المغرب أن يؤدي فتح المجال أمام القطاع الخاص لتأسيس محطات تلفزيونية إلى بروز احتكار في سوق الإعلانات الضعيفة أصلاً، التي لا تتجاوز قيمتها السنوية 50 مليون دولار. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الشركات المقربة من الفضائيات الجديدة قد تحرم القنوات الأخرى من حصص كافية من الاعلانات، وهو ما يطرح مشكل تمويل على المدى المتوسط. بينما يتخوف المعارضون للمشروع أن تستغل الحكومة، خصوصاً الأحزاب الكبرى فيها مثل الاتحاد الاشتراكي، مبرر الاصلاح للسيطرة على الإعلام التلفزيوني على بعد شهور قليلة من الانتخابات الاشتراعية التي ينتظر أن يكون الإعلام الحاسم في نتائجها. ويكاد يتحول موضوع الإعلام في المغرب إلى قضية وطنية بسبب كثرة المواقف والمتدخلين والنيات المعلنة والمبطنة والأهداف المكشوفة والمخفية، ولكل من هؤلاء قضية صغيرة في الإعلام يرغب أن تكون هي القضية الأم.