لا تملك القنوات الإخبارية مدة صلاحية منتهية، ولكن لها حياة قد تعرف ازدهاراً وقد تعرف فتوراً بحسب تطور الأحداث التي تتحكم فيها وتبعاً لما تتعرض له من ضغط أو تأييد لخطها التحريري المحدد لاختياراتها وطبيعتها. مناسبة هذا الكلام ما شهده المشهد الإعلامي المغربي منذ نهاية الشهر الماضي من حراك كبير ومثير خصّ القناة الثانية التي يُطلق عليها قناة «عين السبع» نسبة إلى الحي السكني الذي يحتضنها في الدارالبيضاء، و «ميدي 1 سات» التي تسمى قناة طنجة حيث تتواجد. الأولى تجرب التجديد والثانية تحتار ما بين الطابع العمومي والألق الذهبي الأول. انطلقت «ميدي 1 سات» عام 2006 كامتداد لتجربة إذاعية ناجحة بكل المقاييس مع ارتداء هوية بصرية تحتفظ بكل المكونات المؤسسة في البداية، من التوجه للإرسال الإقليمي نحو كل بلدان المغرب العربي ومغاربة أوروبا، والازدواجية اللغوية (فرنسية- عربية)، والنشاط الإخباري المتواصل المقدم من صحافيين من مشارب وجنسيات شتى، والتركيز على التحليل والنقاش مع اختصاصيين في كل المجالات، والحفاظ على تقديم مساحات كبيرة للوثائقيات التعريفية الكبرى. لكن بعد مرور سنوات أربع لم تعد القناة قادرة على مجاراة المنافسة القوية، والتمكن من النجاح في التغلغل الكبير في المشهد وضمان نسبة مشاهدة كبيرة تؤمن لها البقاء بالشكل المأمول. ولتدارك الأمر تغيرت إدارة تسييرها بتعيين رئيس جديد جاء محملاً بمشروع ابتداء من أول هذا الشهر، يتمثل بانتقالها إلى البث الأرضي الهرتزي وتغيير اسمها لتصبح «ميدي 1 تي في»، بالتالي تنضم هذه القناة إلى باقة القنوات العمومية المغربية الأخرى، مع الحفاظ على البث الفضائي السابق على قمري «هوت بيرد» و «نايل سات». وواضح أن هذا التغيير يستهدف المشاهدين المحليين بصفة أكبر، ومن أجل ذلك تقرر افتتاح مكتبين بالعاصمة الرباط وبالعاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء بالإضافة إلى وكالة تجارية. وقد رافق كل هذا تغيير عميق للشكل والهوية البصريين. ويركز المضمون الجديد، بالإضافة إلى المواعيد الإخبارية الأساسية، على برامج الحوار مثل «بدون حرج» و «مواطنو اليوم»، وعلى التغطية الواسعة للأحداث الثقافية الكبرى مثل المهرجانات الفنية، ما يضمن لها انتشاراً واسعاً في الخارج، وتخصيص مواعيد لبرامج الترفيه التي تميزت بها القناة مثل السينما والموضة والموسيقى والرياضة. والملاحظ أن القناة أدركت أخيراً بعد أن غادر رئاستها مؤسس المجموعة الإعلامية الفرنسي بيير كازالطا، أن الخيار المرتبط بالمعطى الفرنسي الشريك في القناة لم يعد وحده أو ليس ضامناً بمفرده لتواجد إعلامي أو كفيلاً بجلب الجمهور الواسع. المعطى الفرنسي هو ما ميّز أيضاً القناة الثانية المغربية «دوزيم»، ولكن من جانب حضور الازدواجية اللغوية فقط، بالتالي فليس له تأثير بما أن هذه الأخيرة واقع أمر في البلد برمته، ولا تطرح أي إشكال كبير. لكن القناة تعيش منذ أسابيع على إيقاع احتجاجات للصحافيين والعاملين ونقاباتهم وصلت حد تنظيم وقفات احتجاجية هادئة أمام مقرها. وهو أمر نادر الحدوث في المجال السمعي البصري. والسبب يعود إلى تراكم المشاكل الناتجة في جزء مهم منها عن تاريخ القناة ذاتها. وهو تاريخ مجيد في فترة أولى، بعد التأسيس عام 1989، إذ شكلت تجربة تلفزيونية رائدة على المستوى العربي، بما أنها كانت قناة خاصة مشفرة بحاجة الى مُستقبِل لمشاهدة برامجها، ولم تكن تحت وصاية أي جهة إلا مموليها. واعتبرت قناة الحداثة بامتياز، كما اعتمدت على الشكل الجذاب والهوية البصرية المنفتحة الألوان والأضواء بخلاف القنوات الرسمية الداكنة والجدية أكثر من اللازم في بداية التسعينات. وقد عرفت لحظات بث قوية وخلدت برامج وأسماء كما كرست نجوماً وشخصيات. ويكفي الحديث عن برنامج مليكة مالك الحواري «في الواجهة»، الأول من نوعه، والذي كانت تستقبل فيه رموز السياسة والفكر الكبار في فترة لم يكن فيه السياسي يتجشم عناء الكلام مع المواطن، وبالأحرى محاورته، وتقديم وجهة نظره للعموم. وتبقى الحلقة التي استقبلت فيها المفكر الكبير عبد الله العروي علامة فارقة ودالة على قدرة التلفزة على خلخلة القناعات المرسخة، ومكّنت من فهم اللحظة المغربية بامتياز. كما تمكن الإشارة إلى التغطيات الواسعة الشاملة للرياضة وبعض الحروب، وبرامج التحقيق. ولكن سرعان ما عرفت القناة انحساراً كبيراً وعجزاً مادياً كان سيجهز عليها لولا تدخل الدولة التي تملكتها، وأضافتها إلى المجال العمومي وصارت في متناول الجميع. وهذه المرحلة تميزت بازدواجية في الهوية، إذ لا تشبه قناة «دوزيم»، القناة الأولى الرسمية، ولا هي قناة خاصة. وهكذا راحت تعيش على إيقاع التجريب من طرف رؤساء، كان أهمهم نور الدين الصايل المدير الحالي للمركز السينمائي المغربي، والذي عرفت في عهده تغييرات إيجابية، وتمكنت من العودة إلى ألقها السابق، بل واستحدث مقومات تحديث وبرمجة جديدة ساهمت في خلق تلفزة مشاركة ومساهمة وحية. ولكن يبدو أنها عادت مجدداً إلى جو الرتابة والانحسار وإن ظلت بعض برامجها علامات مضيئة وقوية وحاضرة، لكنها لم تشفع لها فطفت المشاكل إلى السطح، وزاد من ذلك إشاعة خصخصتها كي تجدد ثوبها الأول الذي صنع مجدها. الأمر الذي نفاه المسؤولون عن القناة في تصريحات صحافية. إنها إذاً تحركات إعلامية حقيقية لقنوات تلفزيونية أساسية يعيشها البلد، وتنبئ بتحركات أكبر، بعضها يجد منشأه في الطابع الخاص للقنوات، وبعضها في الجو العام الذي يحرك المجتمع وخياراته. ولكن في كل الأحوال فهي سمة دينامية غير بعيدة عن مستجد السياسة وغيرها. وهي في مصلحة التلفزة ومشاهدها في آخر المطاف.