أنهت ندوة القصة العراقية أعمالها في دورتها الثالثة في احدى قاعات معهد الدراسات الشرقية والافريقية في جامعة لندن، التي بدأت الجمعة 24 تموز يوليو لغاية 26 منه. طلبت الكاتبة هيفاء زنكنة من الحضور الوقوف دقيقة صمت حداداً على وفاة الشاعر والكاتب شريف الربيعي، الذي ترك بصماته على الدورة الأولى للندوة. وألقت كلمة الافتتاح، في عرض سريع وتحليلي لمراحل تشكيل الندوة وظروفها ومدى أهميتها في تحقيق اللقاء الأدبي الثقافي بين الأدباء العراقيين والعرب. وأكدت على استقلاليتها من المؤثرات السياسية، مهما كان نوعها بقولها: "لقاء ينظمه الكتاب بأنفسهم من دون رعاية جهة سياسية أو سلطة نظام أو دولة أو سفارة أو قيادة حزب معارض...". وبدأت الجلسة الأولى بمداخلة نقدية قدمها الكاتب فاضل الجاف عنوانها "البطل في قصة، مذكرات قرية في جنوب كردستان" عرض فيها بإيجاز مراحل تطور الأدب القصصي في كردستان العراق خصوصاً في الستينات والعقود اللاحقة، ذكر أهم الكتاب الذين انغمروا في الكتابة والبحث مثل حسين عارف وما قدمته حركة التجديد "روانكة" للأدب القصصي في السبعينات، حيث البحث عن أساليب جديدة للفن تتفاعل مع المكونات الثقافية والحضارية المتعددة الاشكال مع اللغات والثقافات الأخرى في المنطقة. وقدم مصطفى صالح كريم وجمال بابان ومحرم محمد أمين ومحمد معروف مه م ومعروف البرزنجي وغيرهم، نماذج قصصية، أولت الجوانب الفنية الاهتمام وشكلت نقلة جديدة في الأدب الكردي. وركز الكاتب أيضاً على أهمية تعدد الثقافات على البطل القصصي في منطقة "كركوك" في كردستان العراق. وظلت قضية مسح الأراضي وإبادة القرى والأحياء والموت والتهجير واستخدام أسلحة الإبادة الكيماوية، شاخصة ولها حضور في ذهن الأجيال، خصوصاً "الأطفال"، ويمكن ان يجدها القارئ في كتابات القصاصين أحمد محمد اسماعيل وعبدالله السراج ومحمد كريم عارف، ومحمد مولود ومحمد مكري. يذكر ان الباحث الجاف، استهل مداخلته بقراءة قصيدة للشاعر سلام محمد، باللغة الكردية وترجمتها بالعربية. واختتم بقراءة قصة قصيرة عنوانها "ابراهيم الشيراوي" للقاص عبدالله السراج. وكانت المداخلة النقدية الثانية للناقد حسام الدين محمد بعنوان "البطل العقائدي في نجوم في سماء النهار" لخضير عبدالأمير. حاولت ان تمنح النقد القصصي سماته الاساسية في البحث خارج المقولات والاحكام الايديولوجية - السياسية الجاهزة، التي تحرم القارئ من متعة التفاعل مع النص وكشف دلالاته. فهي قراءة كما ذكر "موضوعية، لإزاحة سوء النية المتأصلة عند القارئ أو الناقد التأويلي". تحتوي المجموعة على 12 قصة قصيرة، ركز الناقد فيها على "طيارين" يقومون بمهمات عسكرية تدميرية. يقول: "فالطيار عند خضير يقرأ كتباً ويتأمل وجوده فلسفياً والمكان الذي يجد الطيار نفسه فيه هو مكان عال ومتميز وغير عادي أبداً. وربما تكون هذه احدى نقاط توازن "بين الفنية وبين العقائدية أو الأدلجة في قصص خضير". وكان البحث الذي قدمه الكاتب لؤي عبدالإله بعنوان "ثيمة العنف في قصص فؤاد التكرلي". وزع الكاتب دراسته الى ثلاث مراحل زمنية، ابتداء من الخمسينات في مجموعته "موعد النار" و"الوجه الآخر". وركز على أهمية اللهجة الشعبية البغدادية في أعماله خصوصاً في روايته "الرجع البعيد" التي صدرت عام 1980. وفي قصة "سمباثي" يقول لؤي "سيلتزم التكرلي بمبادئه الجمالية التي وصل اليها بتكثيف شديد وبناء موسيقي رائع". واعتبر ان قصته "الغراب" و"الدملة" من أهم أعماله القصصية فنياً. وأدارت الجلسة الثانية الباحثة والاكاديمية المعروفة خديجة صفوت، أشادت في البداية بفكرة ندوة القصة ومثابرتها على اللقاءات الأدبية الثقافية. وعرضت الباحثة نوار الحسن مداخلتها "البطل في كتابات هيفاء زنكنة" بقراءة لمجموعتها القصصية "أبعد مما نرى"، فقالت ان قصص المجموعة تمثل "التقابل والتوازي بين عالمين مختلفين، هناك تبادلات بين هذين العالمين وتقابل بالطبع، هناك عدائية كامنة يداريها الطرف المهمش بالنظر والبحث الدائم عن عالم آخر...". تتكرر في القصص ما يشبه اليأس من العالم، حيث الحشد يندفع من دون انتباه لآلام الآخرين، وتنتمي الشخصيات لفئة مغلوبة أو مهمشة مستضعفة أو هاربة ومنصرفة بإرادتها عن العالم". أما الكاتب أزراج عمر حاول قراءة رواية "خاتم الرمل" لفؤاد التكرلي، قراءة تحليلية يعتمد في جانب منها على التحليل النفسي لشخصية البطل الرئيسي فيها "هاشم" عنوانها "خاتم الرمل بين موت العلاقات وتغييب التاريخ الذاتي". تابع قراءة بعدين اثنين في الرواية هما: شخصية هاشم السلبية والموروث النفسي، فشخصية هاشم ليست محورية، بل هي متماهية مثبتة مع أمه، انها علاقة "نكوصية" يهرب من حاضره ويلجأ الى عالمه الطفولي، فالرواية "تنهض على السرد البنيوي التراكمي والذي لم يخضع للمنطق الروائي التقليدي...". وسعى الباحث عبد جاسم الساعدي الى عقد مقارنة بين ثلاث روايات من حيث مناخها الاجتماعي والفكري والمؤثرات السياسية على البطل فيها هي: خمسة أصوات لغائب طعمة فرمان التي صدرت العام 1967 ورواية الوشم لعبدالرحمن مجيد الربيعي صدرت العام 1972 ورواية "مكان اسمه كميت" لنجم والي. قال ان المحاولة تهدف الى الإجابة عن مجموعة أسئلة تتصل بنظرية الأدب والفن الروائي، وقدم عرضاً موجزاً لبعض الدراسات النقدية لرواية "الوشم" التي لا تختلف في مجملها عن التركيز على البعد السياسي في مفهوم البطل الايجابي والسلبي والسقوط. وطرح سؤالاً: الى أي مدى يمكن ان تحمله الكتابة في الخارج للنظر في ماضينا وواقعنا للخروج من الأزمات المتتابعة برؤية نقدية، لا تلغي الآخر ولا تقصيه؟ وتمثل الحضور في اليوم الثالث في استعادة الجهود الروائية المتقدمة فنياً، بتكريم الكاتب الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، وألقى الكاتب علي عثمان، كلمة قصيرة في بدء افتتاحه الجلسة عن البدايات الأولى للراحل، حينما بدأ النشر في مجلة "الرسالة" المصرية بقصص قصيرة، وانه خرج من العراق لأسباب سياسية العام 1947. أصدر مع الكاتب محمود أمين العالم مجموعة قصصية "مختارة" لقصاصين عرب. كما نشر روايته الأولى "النخلة والجيران" عام 1965، وتحولت الى عمل مسرحي، ثم روايته "خمسة أصوات" العام 1967، وحولها المخرج جعفر علي الى عمل سينمائي. ذاعت شهرة فرمان عند القراء والنقاد العرب لمحليته واندماجه بالهموم الاجتماعية والاحياء الشعبية، فكانت رواية "المخاض" و"القربان" و"ظلال على النافذة" و"آلام السيد معروف" وغيرها. وقرأت السيدة بدور زكي الدّدة قصته المهمة "عمّي عبرني" لطابعها الشعبي ونكهتها البغدادية. والمعروف ان غائب طعمة فرمان عرفته المنافي في وقت مبكر وعمل مترجماً في "دار التقدم" في موسكو، لكن حنينه كما قال الكاتب علي عثمان بقي شديد التوق الى وطنه، اذ جاءته المنية العام 1990 في موسكو ودفن فيها، فهو "ينتظر ان يعود الى وطنه الذي حلم به وصاغ تاريخه ووقائعه فنياً وحضارياً...". وقدم عثمان أسئلة للحضور في متابعة تكريم الروائي في انطباعات وذكريات، بعد أن اعتذر ياسين النصير وأحمد النعمان لأسباب "صحية" عن عدم الحضور في جلسة تكريم الروائي فرمان. وكان من الأسئلة: هل يعتبر "المكان والذاكرة" حالة ايجابية في أدب الكاتب الراحل، أم هي حالة سلبية؟ ودار نقاش عن الاحياء الشعبية في أدبه ومعاني "الايديولوجيا". وذكر بعض الحاضرين عن هبوط المستوى الفني في روايته "المرتجى والمؤجل" لأسباب تعود الى غيبته الطويلة ومنفاه عن الوطن والمكان. وفاجأ الدكتور خالد السلام الحاضرين بكلمة قصيرة عن رفقته الثقافية والسياسية لغائب طعمة فرمان في الخمسينات وبعد ثورة تموز يوليو 1958، وعن أهميته وحيويته في القراءة والمتابعة وحضوره النشاطات الادبية والفكرية في العراق والعالم. واكتسب عر ض الفيلم الوثائقي الذي أخرجه الفنان والمسرحي علي كامل أهمية جميلة في استعادة مقاطع من حياة الروائي فرمان. ويذكر ان جلسات الندوة، اكتسبت أهمية خاصة في إثراء المداخلات في مناقشات جادة وحيوية، خصوصاً في اليومين الثاني والثالث. وعرض القاص والكاتب لؤي عبدالإله كلمة الاختتام، فشكر المساهمين والحضور على متابعتهم أعمال الندوة، وذكر أهمية التواصل والبحث الموسع والشامل في أدب فرمان القصصي لكشف الجوانب الجمالية والفنية في إبداعه، وأشار الى ضرورة اعطاء المناقشات أهمية أوسع لاغناء العروض النقدية. ولاحظ ان عدم حضور النصير والنعمان جلسة تكريم غائب، رجّح الكفة لمصلحة الكاتب فؤاد التكرلي. وأثيرت في نهاية الجلسة أسئلة ومناقشات تنحصر في مفهوم هوية الندوة الثقافية في المستقبل وطموحها، تعيدنا الى كلمة الافتتاح التي بدأتها الكاتبة زنكنة. فأشاد الجميع بأجواء الندوة وهدوئها واستقرار مسارها الثقافي، واقترح البعض، نقلها الى تجارب عربية تفيد في التفاعل والتواصل وتبادل المعرفة. كما اقترح أحد الحاضرين بتنظيمها مرة كل عامين، والندوة في دوراتها الثلاث، أكدت استقلاليتها عن المؤثرات التقليدية المعروفة، لأنها تجربة جديدة في المنفى، لا بد ان تعترضها عقبات واعتراضات. أشار أحد المساهمين في الندوة الى ان الجانب الغالب في ذلك يعود الى "حسابات شخصية"، تعود الى أمراض "الغربة" في الحساسيات والحزازات التي لا تمت الى الفكر والثقافة بصلة، لأن المثقفين الحقيقيين هم الذين يحاورون ويناقشون ويطرحون رؤيتهم في القاعة ومع الحاضرين. ولا بد ان تتخلص "الندوة" كعمل ونشاط ثقافي من الصوت "الواحد" والرأي الواحد، وان تتحرر من كوابيس المؤسسات الحزبية وقراراتها و"التزاماتها" في الاستماع الى تنويعات ثقافية وتجارب فنية جديدة مع التأكيد الذي لا مهرب منه أبداً في إدانة الديكتاتورية وأساليبها وممارساتها والوقوف جنباً الى جنب مع المثقفين العراقيين المضطهدين في الداخل. وكانت مشاركة الدكتور فاضل الجاف التي قدمها عن الأدب القصصي في كردستان العراق خير شاهد على هذا التنويع والاعتراف بالآخر من دون إقصاء. إن الأدب العراقي اليوم بحاجة الى تعدد المنابر الثقافية النقدية وتشجيع الخطوات العملية في ظل أزماتنا وغربتنا الداخلية، هل يمكن ان يقدم الابداع ما يفيد في مقاومة الغثيان والاحباط والشعور بالوحدة والعزلة، والسير ولو بطيئاً باتجاه العمل "الجمعي" ومنح الثقافة والمثقفين أهميتهم الانسانية والابداعية في اعادة قراءة واقعنا ومستقبلنا، إنها اسئلة بحاجة الى التواصل والدعم من دون احكام جاهزة وردود فعل سلبية لتهميش الآخرين والتقليل من حضورهم وثنيهم عن العمل الثقافي الجاد.