لا يكف الفنان التشكيلي المصري جورج البهجوري عن المناكفة الفنية الدؤوب. فخلال مشواره الفني الطويل، لم ينِ عن تقديم اضافات واضحة الى بصمته الفنية الخاصة والمتميزة، تلك البصمة المنحازة إلى البسطاء من الناس التي تستمد خصوصيتها من همومهم ومشكلاتهم الحياتية اليومية من دون أن تتعالى بالأساليب المستوردة أو الهجينة أو المفتعلة على هؤلاء البسطاء التلقائيين. وطوال رحلته الفنية، كان البهجوري أشبه ما يكون ب"لص" ماهر، علمه الكاريكاتور كيف يسرق تفاصيل الحياة من الشوارع والبيوت وملامح الناس، ليسكنها لوحاته وأعماله، سواء كان ذلك في رسوم الكاريكاتور أم في أعماله التصويرية أم منحوتاته، أم حتى في كتابته. فخلافاً لغالبية الفنانين الكبار، رفض البهجوري أن ينظر إلى العالم المحيط به من برجه العاجي، ونزل الى الناس في الميادين والشوارع والازقة والحارات، وتحت إبطه كراسة رسم لا تفارقه اينما كان، وكم هي المرات التي صادفتُ فيها جورج البهجوري وهو يطوف الشوارع المزدحمة بالبشر والسيارات، والمملوءة اجواؤها بنداءات الباعة الجوالين، أو جالساً كطفل هرب من سلطة أبويه فوق رصيف مترب، اتخذه مرسماً طارئاً ليشهد ولادة لوحة جديدة، تحمل توقيعه المعروف. في هذه الاعمال، تستطيع ان تلمس "عرقاً حقيقياً" لا يمكن أحداً التشكيك في اصالته وتلقائيته، لأنه ضارب بجذوره داخلنا، وأصيل وحقيقي بكل ما في الكلمة من معانٍ ودلالات. والبهجوري حين أتذكره، صورة تحتل ركناً لا يغيب من ذاكرتي، أجده متسمراً فيها أمام "شحاذة" عجوز، اتخذت ركناً منزوياً، يدها ممدودة وهي تستجدي الناس في جلستها، فيما هو، بقلمه الاسود، ينقلها بصدق إلى كراسته. بهذه الروح الفنية الوثابة، أطل البهجوري اخيراً على الحركة التشكيلية المصرية بمعرض جديد، لكنه صادم، أثار ردود فعل متباينة وحادة، ذلك لأنه، وعبر ما يقرب من الاربعين عملاً، رصد "الموديل النسائي" تحت عنوان مباغت وصريح هو "أحوال الجسد" احتلت فيه اعماله جنبات غاليري "مشربية للفنون" في وسط القاهرة. ويعود بهجوري في هذه الاعمال وكأنه طالب مبهور أمام الموديل النسائي، متخلياً - شيئاً فشيئاً - عن خبرته الفنية الطويلة التي اكتسبها على مدار اعوام مريرة. في هذه الاعمال يتناول الفنان اجساد "موديلات" خلال رحلة الى العاصمة الفرنسية باريس قام بها اخيراً لهذا الغرض دون غيره. يقول البهجوري: "أعتقد ان كل فنان جاد وحقيقي، حينما يبلغ مرحلة معينة من تطوره وتجديده، لا بد من أن يعود الى الطبيعة العارية، بمفرداتها التي رسخها لنا العظماء والمشاهير، الشجرة والوردة والتفاحة، من ثم وجدت نفسي مشغولاً بالموديل، فرحلة باريس التي بدأتها العام 1969 أثمرت بداخلي انجازات عظيمة لمشاهير الفن والتصوير، وخصوصاً ما يضمه متحف اللوفر من اعمال ل"روبنز" و"رمبراندت" و"آنجر" و"ديلا كروا" و"مونيه" و"بابلو بيكاسو" وغيرهم. ولأن فناننا يمتلك ثقافة فنية ضاربة بجذورها في البدائية والعفوية والتلقائية، حيث لا يتعامل مع الفن بصفته إرثاً له مصطلحاته ومراجعه وقواميسه، فإنه في معرضه الجديد يتخذ من الرسم رحلة فنية تحكمها المصادفة الى حد بعيد. يتناول جورج البهجوري في لوحاته الجديدة موديلات فرنسية، لكنه في الوقت نفسه، لا يكف عن المشاكسة اللئيمة. فنحن عبر لوحاته الثماني والثلاثين لا نشاهد جسداً غربياً بالمعنى المعروف، بل إن هذه القامات الطويلة والنحيفة، التي لا تملك ما تمتلكه النساء العربيات أو الشرقيات من البدانة والاكتناز والسمنة والثقل المترهل احياناً - باستثناء لوحتين فقط - تتحول إلى قامات شرقية وعربية. تلك كانت ملاحظة أولية، نكتشفها من الطلة المبدئية على أعمال البهجوري في معرضة الجديد، وتظل هناك ملحوظات أخرى، ربما تنسحب على أعمال سابقة قدمها في معارض سابقة، وأولى هذه الملاحظات، هي عودة الفنان الى إحدى مراحله المهمة في أعماله الجديدة، ألا وهي "المرحلة الترابية" التي شهدت ابرز اعمال الفنان في ستينات القرن الماضي، وامتدت حتى اوائل الثمانينات، تلك المرحلة التي لجأ اليها ربما بسبب درامية حياة الطبقة الشعبية المصرية آنذاك، حينما نحى ألوانه المبهجة عن لوحاته، واكتفى بألوان التراب، رمزاً رئيساً لحياة هؤلاء الشعبيين. ففي أعماله الجديدة يستعيد بهجوري "المرحلة الترابية" متناولاً الموديل وهو مغمور بعتمة لا نعرف مصدرها، في حين يستمد العمل اضاءته من مصادر غامضة ودفينة في الجسد ذاته، ما أكسب الاجساد لديه روحانية. ملاحظة اخرى نكتشفها في الاعمال الجديدة للبهجوري هي عدم تخليه عن تيمات وتقنيات اساسية في عمله التشكيلي، ترسخت لديه طوال أكثر من اربعين عاماً، وأولى هذه التيمات استخدامه المتميز للكولاج، سواء كان من قطع ورقية ام جلدية في أركان لوحاته، أو توظيفه قطعاً من اقمشة السرادقات أو ما يعرف بالخيامية، بألوانه الفاقعة، من أحمر وأزرق وأصفر. وثانية هذه التيمات التي لم يتخل عنها البهجوري في معرضه الجديد، مزاوجته الدائمة بين خطوط الكاريكاتور وخربشة ألوان الفرشاة، صانعاً خليطاً خاصاً جداً من فني الرسم والكاريكاتور، يكاد يكون مقتصراً عليه وحده. ضمن هذا الإطار لا يتخلى البهجوري عن صنع أيقوناته الخاصة على طريقة الايقونات القبطية. فهو في بعض أعماله نجده يضع هالة من الضوء الخفي حول وجه الموديل، مؤكداً بذلك الحس الروحاني في اعماله. كذلك لا يكف البهجوري عن اشتباكه المستمر مع "وجوه الفيوم". وتتصاعد في اعماله الجديدة اشتباكاته في هذا الإطار، مزاوجاً بينها وبين لوعة برصد الملامح القبطية والفرعونية في وجوه موديلاته، وكأنه يحاول بكل الطرق طمس هوية الموديل الذي يشتغل عليه في أعماله، وتحويلها الى قيمة عامة.