ما يُطرح الآن في شأن الملف العراقي داخل مجلس الأمن ومع الدول المجاورة للعراق ليس معالجة شمولية للعلاقة بين العراقوالاممالمتحدة أو بين العراق وجيرته، وقد يكون الطرح بمثابة طي صفحة الحل الشامل وتنويم شبه دائم لقرارين اساسيين بالمعنى الشمولي هما القرار 687 والقرار 1284. المحرك الاساسي للمعالجة الانتقالية له شقان هما: الاول، رفض الولاياتالمتحدة رفع العقوبات واعتمادها سياسة "استمرار العقوبات أهم من عودة المفتشين" على ان يبقى احتواء النظام في بغداد ركيزة هذه السياسة... والثاني، رفض بغداد الانخراط في طروحات المعالجة الشمولية على نسق القرار 1284 أو الاقتراحات الروسية واعتمادها سياسة معارضة عودة المفتشين الى العراق. وتنطلق القواسم المشتركة بين السياستين في هذا المنعطف من معركة اعلامية هدفها لوم الآخر. لكن المعركة لا تخلو من انعكاسات ملموسة خصوصاً على الشعب العراقي الذي قد يكون أول ضحايا معادلة اللوم والانتقام. تحركت الولاياتالمتحدة وبريطانيا بسياسة جديدة نحو العراق لدحض "الادعاء" بأن العقوبات هي مصدر معاناة الشعب العراقي من خلال سحب حجة العقوبات من أيدي النظام في بغداد. وينطوي هذا الطرح بحد ذاته على اعتراف ضمني بما سبق ونفته واشنطن ولندن لجهة اثر العقوبات ومساهمتها في المعاناة الانسانية. لكن الاخطر هو خوض المعركة مع الحكومة العراقية على كسب الرأي العام العربي والعالمي لمصلحة العقوبات. قد تنجح الاستراتيجية الاميركية - البريطانية مع الرأي العام العالمي بسبب تسويقها مبادرتها في مجلس الأمن بأنها عبارة عن رفع العقوبات المدنية عن العراق، مع تشديد خناق العقوبات العسكرية لمنع بغداد من احياء برامج الأسلحة المحظورة من خلال منع حكومة الرئيس صدام حسين من السيطرة على أموال العائدات النفطية العراقية. لكن اقناع الرأي العام العربي أصعب بكثير، ليس فقط لأنه لا يثق بالسياسة الاميركية ازاء المنطقة، وانما ايضاً لأن السياسة الاميركية لا تنفي رفضها رفع العقوبات عن العراق. هذا الى جانب عدم تمكن قطاعات في الرأي العام العربي من "هضم" فكرة سيطرة الاممالمتحدة على العائدات النفطية العراقية، علماً بأن السيطرة على الاموال هي اساس الاقتراحات الاميركية - البرىطانية. الأخطر في معركة العقوبات انه ليس لدى الديبلوماسية الاميركية - البريطانية ما يسمى بخطة "باء" أي استراتيجية الرد على الردود العراقية. رهانها هو على حاجة بغداد الى برنامج "النفط للغذاء" الذي يشكل مصدر الدخل الاساسي للعراق. وبالتالي فإن توقعات الديبلوماسية الاميركية - البريطانية والدول الاخرى الداعمة لها ان بغداد لن تنفذ تهديدها بوقف الصادرات النفطية والقضاء على برنامج النفط للغذاء كلياً. وفي أقصى الحالات، حسب هذا الرهان، تتوقف الصادرات النفطية لفترة موقتة الى حين اشتداد حاجة بغداد الى الاموال، فتتراجع الحكومة عندئذ عن مواقفها. وحتى اذا نفذت بغداد تهديدها، ترى الديبلوماسية الاميركية - البرىطانية ان ذلك يصب في لوم النظام العراقي على معاناة الشعب، ويخدم بالتالي أهداف تقنين المسؤولية في النظام لقطعه برنامجاً يلبي الاحتياجات الانسانية. وبذلك تتم "تعرية" النظام فيما يتم "تلميع" صورة الاميركي - البريطاني الذي عرض رفع العقوبات المدنية فواجهته حكومة العراق بالقضاء على البرنامج الانساني. هذه ليست استراتيجية "ربح ربح" كما قد تتصور الديبلوماسية الاميركية - البريطانية، انها معركة منفتحة على استخدام الشعب العراقي ذخيرة وضحية في آن. وهي ليست معركة الشعب العراقي، كما قد تتصور حكومة بغداد. انها محطة في معارك تحقيق "الانتصارات" للنظام مهما كانت كلفة العراق. فتحسين برنامج "النفط للغذاء" بما يخدم القطاع المدني العراقي كمعالجة موقتة هدف نبيل لو اقترن الطرح الاميركي - البريطاني بالعزم الصادق على رفع العقوبات لدى استكمال بغداد تنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. لكن الطرح تعمد ان تقترن المبادرة ذات البعد الانساني بإجراءات تجريد الحكومة العراقية من سلطات السيادة وتطويقها بإجراءات عزل عبر حدودها مع الدول المجاورة. وهذه خطوة ذات نوعية جديدة في سياسة احتواء العراق تتخذ ركيزتين اساسيتين للتنفيذ هما جيرة العراق والشعب العراقي لتحميلهما مسؤولية وافرازات عملية اعادة هيكلة العقوبات. هذه السياسة تضع الشعب العراقي عرضة للنقمة والانتقام لأن تنفيذ الحكومة العراقية تهديدها بوقف برنامج "النفط للغذاء" رداً على الولاياتالمتحدة وبريطانيا يحرم الشعب العراقي مما كان يسهم البرنامج فيه لجهة معالجة المعاناة وتلبية الاحتياجات الاساسية. قد تكون الديبلوماسية الاميركية أخذت احتياطاتها في ما يتعلق بتأثير وقف الصادرات النفطية العراقية في السوق النفطية بما لا يؤدي الى أزمة. وقد تكون درست سبل التعويض للدول المجاورة مثل تركيا والأردن عن خسارة التجارة المباشرة مع العراق اذا أوقف تصدير نفطه، اما من خلال ترتيبات ثنائية واقليمية، أو من خلال اقتطاع الاموال من صندوق التعويضات لتعويض هذه الدول عن خسائر تبلغ حوالى 3 بلايين دولار سنوياً، كما اقترحت فرنسا. وقد تكون حسبت ان لدى العراق في الحساب المعلق ما يكفي من أموال لضمان استمرار التطبيق العملي كأمر واقع لبرنامج النفط للغذاء بما لا يؤثر بشكل ملموس مباشر على الشعب العراقي ويوفر في الوقت ذاته ذخيرة لوم للنظام... لكن كل هذه الحسابات تقوم على اساس افتراض توقف الصادرات النفطية لفترة قصيرة لا تزيد بضعة أشهر، أولاً، بسبب الحاجة الى الاموال بعد انفاق ما تبقى في الحساب المعلق، وثانياً، لأن أنابيب النفط ستتضرر جذرياً لو توقف الضخ لفترة طويلة. وثالثاً، لأن الحكومة العراقية استفادت من برنامج النفط للغذاء لأنه أسهم في احتواء أية نقمة شعبية ناتجة عن تفاقم المعاناة. رغم كل ذلك، ان استراتيجية "باء" على المدى البعيد لم تصغ، لا أميركياً ولا عراقياً. فبغداد تتوعد بانهاء مذكرة التفاهم على القرار 986 والقضاء على برنامج النفط للغذاء اذا ما تبنى مجلس الأمن مشروع قرار يتضمن العناصر الاميركية - البريطانية، وهي تهدد بالانتقام اقتصادياً من الدول المجاورة التي لها معها ترتيبات اقتصادية اذا تعاونت هذه الدول مع الجهود الاميركية الرامية لتطويق العراق ومنع عمليات التهريب منه وإليه. هذه محطة "ألف". وإذا أضافت بغداد الى وقف الصادرات النفطية اجراءات طرد العاملين في برنامج الأممالمتحدة للعراق، فهذه ايضاً عمليات انتقش شم تقع في خانة "ألف". وليس هناك ما يضمن حقيقة بغداد بالحصول على الاموال في الحساب المعلق اذا قضت تماماً على برنامج النفط للغذاء اذ ان هذه الاموال محكومة بما اتُفق عليه في مذكرة التفاهم على تنفيذ القرار 986. فبعد "مقتل" 986 بطلقة عراقية، أو "موته" في القرار الاميركي - البريطاني عبر ادخاله في غيبوبة، لا يبقى أمام بغداد من خيارات سوى القرار 1284 الذي ترفض التعامل معه. ذلك ان العودة الى القرار 687 الذي وضع شروط رفع العقوبات عن العراق - والذي تريد بغداد العودة اليه - ليست واردة سوى عبر القرار 1284 الذي وضع شروط وظروف تعليق العقوبات ثم رفعها رهينة عودة المفتشين الى العراق. اميركا وبريطانيا غيبتا عودة المفتشين كأساس في مشروعهما الجديد وتعمدتا انتقاء ناحية رئيسية أخرى من القرار 1284 هي السيطرة على اموال العراق من العائدات النفطية. وهما في هذه المرحلة في غنى عن 1284 لأنه ينطلق من تعاون العراق، فيما اساس التوجه الجديد هو الاستغناء عن التعاون. الملفت ان روسياوفرنسا اللتين امتنعتا عن التصويت على القرار 1284 اصبحا اليوم "عراباً" لتسويقه والتمسك به وكأنهما الأبوان الاصليان. الملفت بالقدر نفسه ان موقف فرنسا اليوم شبه متجانس مع الموقفين الاميركي والبريطاني من حيث "جوهر" طروحاتهما وشبه متعاطف مع الطرح الروسي من ناحية اجرائية ذات علاقة بتوقيت اصدار قرار جديد لمجلس الأمن. وكما ابتعدت فرنسا عن الانشقاق في صفوف المجلس باتجاه الولاياتالمتحدة وبريطانيا، كذلك روسيا التي اقتربت من الطروحات الاميركية - البريطانية عبر بوابة 1284 ومن خلال الموافقة على مبدأ السيطرة على أموال العراق ومنعه من استعادة القدرة على التسلح. فبرغم كل ظواهر الاختلاف والانشقاق، ان الدول الخمس في مجلس الأمن في صدد اعادة بناء قاعدة الاجماع. لذلك، فإن الحكومة العراقية في حال خصام مع البيئة الاقليمية نتيجة مواقف لها في القمة العربية في عمان اطاحت بانجازات ضخمة في القمة الاسلامية في الدوحة. وهي في صدد الافتراق عن الدول الصديقة لها تقليدياً في مجلس الأمن بدءاً بفرنسا وتوقفاً عند روسيا ثم الصين عندما تلتئم الدول الخمس على الاجماع. قد تكون لدى الحكومة العراقية استراتيجية "باء" خفية لكنها قد تكون مجرد "استراتيجية انتقامية" من الغير والذات في غياب قاعدة البيئة الاقليمية وقاعدة الانشقاق الحقيقي بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. فقد فوتت بغداد الفرصة بعد الأخرى، اقليمياً وفي مجلس الأمن، بسبب النشوة بانتصارات عابرة واعتمادها على استراتيجية الرفض والترفع عن الانخراط. كان في وسع الحكومة العراقية العمل على مذكرة تفاهم لإصلاح القرار 1284 من دون الموافقة الصريحة عليه كما حدث في شأن القرار 986، لكنها اختارت الترفع عن الانخراط. وها هي تترفع عن البحث في اصلاح وتحسين "ميكانيزم" القرار 986، الذي وافقت عليه بعد سنوات من رفضه، وتهدد بإسقاطه بكامله، فيما أمامها فرصة استغلال التحسينات لمصلحة الشعب العراقي مع العمل الدؤوب على اصلاح الطروحات الاميركية - البريطانية لو تبنت اسلوب البناء على الفرصة المتاحة للعمل سوياً مع دول صديقة في مجلس الأمن. لكن بغداد تحسن الرفض والتهديد اكثر مما تحسن البناء على الفرص باستغلالها لما هو في مصلحة العراق. صحيح ان النيات الاميركية - البريطانية تنطلق من رفع اللوم عن نفسهما والقائه على عاتق الحكومة العراقية في معركة قوامها تحقيق انتصارات اعلامية. وصحيح ايضاً ان الهدف هو تحويل مسؤولية رعاية العقوبات الى الدول المجاورة للعراق واستبدال ما على وزارة الخارجية الاميركية القيام به من رعاية جانبية الى اجراءات تقوم بها الامانة العامة للامم المتحدة. لكن مساهمات الولاياتالمتحدة وبريطانيا في الشأن العراقي تبقى مساهمات دول تنطلق من مصالحها وسياساتها الثابتة. لذلك لا يهمها في نهاية المطاف ان تنفذ الدول المجاورة اجراءات منع التهريب أو ان تنجح اجراءات وقف عمولات الشركات النفطية للعراق. يهمها ان تبعد عن نفسها تهمة المساهمة في اغراق شعب العراق في المعاناة، أقله لدى الرأي العام العالمي، وان تعيد الى ساحة النظام تهمة اغراق العراق في المأساة. انها معركة العلاقات العامة. وفي هذه المرحلة تضع الاستراتيجية الاميركية - البريطانية، كما الاستراتيجية العراقية، العراق شعباً وبنية تحتية، رهينة سلاح قديم - جديد اسمه العقوبات. فكلاهما ليس في وارد رفع العقوبات لأنهما سوياً في خانة المسؤولية المتساوية، ولربما الرغبة المتساوية، في إبقاء العراق في حظيرة المعركة على مستقبله في ظل بقاء النظام أو زواله.