أبادر وقبل ان امضي في هذا المقال، بالقول بأن للولايات المتحدة الاميركية سياسات ومواقف اضرت ولا تزال تضر ببعض المصالح العربية، واسرع بالقول بأنني لا ازمع الدفاع عن سياسات او مواقف تلك الدولة وانما ارغب فقط وبحماس شديد في ان الفت نظر العقل العربي الى انه وان كان لنا ان ننتقد بل وحتى ان نكره تلك القوة العصرية الكبيرة، الا ان انكارنا لقوتها وفعاليتها لا يعود علينا بالخسران. ان اميركا كما نعلم دولة بالغة القوة والامكانات وهي الاقدر بين دول العالم في هذا العصر ولعدة اسباب على التأثير في مجريات السياسات والوقائع في كل انحاء العالم، ثم انها كسبت هذا المركز لا لمحض القوة العسكرية بل لتوافر المؤهلات لديها من كل نوع، وعليه فإن من الحصافة وسداد الرأي ان نتعامل معها كواقع دولي قائم، نعطي لسياساتها حقها من الدرس ولعلاقاتنا معها ما تستحق من الواقعية والفهم، فهل فعلنا؟!.. أبداً، نحن اعلنا الحرب الدعائية ضد اميركا وبشراسة منقطعة النظير منذ عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في اوائل الخمسينات، ذلك الزعيم الذي جعل من محاربة الاميركان بالكلام مبرراً للانقلاب والتظاهر ومسوغاً لمناهضة الملكيات التي لها اي نوع من العلاقة مع اميركا. جعل الزعيم من محاربة اميركا القاعدة الرئيسة في السياسة العربية الخارجية، ولم تتردد حكومات كثيرة اخرى في تحفيظنا ذلك الدرس، مستخدمة حناجر الخطابة وكل وسائل الاعلام لتغرس في عقولنا العداء لكل ما هو اميركي لدرجة ان شككنا في وطنية كل من لا يتحمس لعداوة الاميركان. بالطبع كان هناك مبرر للخصومة مع قائدة الغرب فهي التي ساهمت بأكبر قدر في التمكين لدولة اليهود في فلسطين، ولم تتوقف عن تعزيز وجودها. وبالطبع فإن في هذا المسلك الاميركي ما يكفي لتبرير مواجهة السياسات الاميركية في هذا الشأن، لكن تصرفنا بعصبية وتوسيع دائرة الخلاف مع الدولة الكبرى لم يكن أبداً بين الموفق من السياسات. نعم مثلت اميركا خصماً لنا بشأن فلسطين ولا يستطيع احد ان يقلل من طعم المرارة الذي تسببت فيه لنا دولة الاميركان، لكن كان اولى بنا ونحن قوم تسودنا الفرقة، ويسود بيننا الضعف والارتباك ان لا نعلن كما فعلنا حرباً شاملة على كل ما يمثله الاميركان. لقد خاض زعماء لنا يتسمون ببالغ السذاجة معارك مع اميركا ممتشقين سيوف الاعلام ومطلقين مدافع الخطب، ومن الواضح ان خوض المعارك السياسية بسلاح الكلام لا يورث غير الاخفاق والارتباك. وهكذا قضينا ردحاً من الزمن ونحن نطلق التصريحات النارية ضد اميركا وننحاز الى كل من له خصومة معها من الاتحاد السوفياتي الى الدومينيكان مجاهدين، في الوقت نفسه لتنظيف عقولنا من كل سياسة واقعية لدرجة ان كنا نصور دولاً عصابات وكأنها جنات وطغاة مثل كاسترو وعيدي امين الى ابطال للحرية والكفاح ضد الاستعمار. نحن تخلينا وربما لا نزال عن كل اولوياتنا لنناصب اميركا العداء، واصبح الحكم على المواطن عندنا بالخيانة او الاخلاص رهناً بعدائه المعلن للاميركان. نحن فعلنا كل ذلك متجاهلين ان اميركا التي نكره هي واقع دولي قوي لا نملك الفكاك من تأثير سياساته ومواقفه على كثير من مصالحنا الحيوية، وغافلين عن ان الحكمة تدعو الى التعامل معها ليس بحب او كراهية وانما بواقعية تحفظ اكثر قدر مما لنا من المصالح والاهتمامات. حقاً لم يكن اسامة بن لادن اول من هدد اميركا بإزالتها من الوجود فقد سبقه كثيرون منا وهددوها وسط تصفيق الجماهير بالويل والثبور. هذا ولم يكن الامر عندنا مقصوراً على بعض الحكام بل ان قادة فكر ودين ما زالوا يعملون الحناجر والاقلام لتقويض اميركا وتمريغ انفها في الرغام، فيما لم نجن سوى الخسارة من وراء سياساتنا الساذجة المنفعلة ضد الاميركان. ولعل الوقت قد حان لندرك ان الحصافة تقتضي التعامل مع زعيمة الغرب بواقعية، والواقعية لا تعني الاستسلام لاهداف الغير بل التصرف ازاءه وفقاً لما لدينا من مؤهلات حتى نقلل الخسائر اذا لم نتمكن من تحقيق الانتصارات. ان اميركا قوة واقعية ولها عندنا مصالح كثيرة لها ان تحميها، وهي لن تقدم على الإضرار بمصالحنا لو كنا نحن على قدر من التماسك والجدية، انها دولة لها كما لنا حق العمل على حماية مصالحها، وهي في الواقع قوة مراوغة الا انها ليست قوة غاشمة غير خاضعة للتأثير، ولعل معظم ما نشكو منه من سياساتها بيننا يعود الى عيوب فينا. ان سياسات عربية هي التي زرعت بين دولنا قدراً من الريب والشك كما نشرت سياسات اخرى احساساً بأن عرباً اخطر على عرب من اسرائيل، بل ان مواقف عربية بلغت حد الغزو قد جعلت من حاجة بعض العرب الى حماية اميركية مباشرة امراً يتعلق بالبقاء على قيد الوجود. ان واقعاً سياسياً عربياً قد بدأ يوم ان بعثت خطب بعض الزعماء في اوصالنا مشاعر النشوة بالانتصار والحلم بمؤاخاة الاتحاد السوفياتي، وقيادة دول عدم الانحياز، ولعله هو الواقع الساذج الذي جرنا الى اعلان حرب الدعاية ضد الاميركان. نحن ما كان لنا ان ننضم الى فرق مناهضة الاميركان ونحن لا نحسن العزف على اية اوتار، وكان اولى بنا ان نخاصم اميركا بشأن قضية فلسطين بناء على اسبابنا ومصالحنا بدلاً من ان نخلط ما لنا بما للسوفيات وللعالم الثالث فندفع ثمن مغامرات الآخرين. ان مواجهتنا للدولة القوية ونحن بدون مؤهلات للمواجهة امر لا يمكن وصفه بالحكمة، وعلينا ان نتخلص مما تمكن من فكرنا السياسي من عصبية وانفعال كما علينا قبل ذلك وبعده ان نعتمد الدرس في فهم سياسات ومواقف الغير، بدل ما نفعله من الاعتماد على الموهبة والحدس والالهام. ودعوني اختم بالقول بأني لا ادعو الى حب اميركا كما لا انكر ما لبعض سياساتها علينا من اضرار، ولكني ارغب فقط في ان انبه الى ضرورة اعتماد العقل في السياسة والى ادراك ان اميركا واقع دولي لا يمكن الفكاك من تأثيره، وحكمة التعامل معها كامنة في فهمها كما هي كامنة في فهم مؤهلاتنا والاعتراف بحال علاقاتنا العربية، ولعل ذلك امر واجب قبل ان تنفذ ذخيرتنا من الكلام. * رئيس وزراء ليبيا سابقاً.